رشيد طلبي - نقد الأفكَار عند ضياء الدين بن الأثير

يعد ضياء الدين نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد عبد الكريم بن الأثير الجزائري ظاهرة لافتة في عصر عرف بـ«عصر الانحطاط»، إبان فترة «الإمارة الأيوبية»، نظرا لما عرف النقد من ضمور وخفوت، لكن مؤلفه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» حقق نقلة نوعية في المسار النقدي الأدبي آنذاك، بفضله أسهم في ما عرف بـ«نقد النقد» الذي مثله كل من «الفلك الدائر» لابن أبي الحديد و«نصرة الثائر» للصفدي.
في هذا السياق «يعد «المثل السائر» في طليعة تلك المضان الأصيلة، بما احتوى من الآراء والأفكار التي تدور حول فن الأدب، والتي تتعمق إلى أصوله في عصر ابن الأثير، وفي العصور التي سبقته، وهي التي زخرت بكثير من أصول تلك الصناعة التي اهتدى إليها العلماء وكبار الأدباء والنقاد، الذين يعرفهم تاريخ الأدب والنقد عند هذه الأمة العربية، التي تعمل اليوم في جد ودأب لبناء قوميتها، وتبحث في إصرار عن مقوماتها الأصيلة لهذه القومية السياسية والعلم والتفكير والأخلاق والفنون، لتبعثها من جديد مجارية ركب التقدم، ولتعيد إليها سالف مجدها في بناء الحضارة الإنسانية». ويتعدد نقد ابن الأثير بين (نقد الألفاظ، ونقد المعاني، ونقد الأشخاص)، وإن بصيغة تجزيئية، فإن المحقق أضفى عليها رؤية تركيبية. لكن أهمها «نقد الفِكَر»، في علاقتها بالأدب خاصة الشعر.

الأدب والأفكار:

تعد علاقة الأدب بالأفكار علاقة جدلية؛ فإذا كان الأدب بمفهومه المعاصر يتوخى الجمالية بشكل أساس، خاصة على مستوى الشعر، فإنه لا يخلو من أفكار. لكن هناك من يرفض هذا التوجه أمثال جورج بواس في محاضرته عن «الفلسفة والشعر»، حيث يعتبر الأفكار في الشعر «عادة ممتهنة وغالبا زائفة، وما من أحد تجاوز السادسة عشرة من عمره يجد أن قراءة الشعر بمجرد معرفة ما يقوله تستحق منه أي جهد». والشيء نفسه عند الشاعر تي. أس. أليوت»، الذي اعتبر كلا من شكسبير و«دانتي» لم يقوما «بأي تفكير حقيقي». وإن كان كيتس يعد الأدب جمالا، والجمال حقيقة، فهذا لا يبرر التعامل مع الأدب كوثيقة عاكسة لأفكار الإنسان.
إن الخوض في هذه العلاقة؛ يجعل الحديث منصبا على «تاريخ الأفكار»، حيث يعد العمل الأدبي أفكارا فلسفية مخففة على حد تعبير أي . أو. لفجوي الذي انتُقِدَ منهجه من قبل ليوسبيتزر، حيث ربط تاريخ الأفكار بتاريخ الدلالات، ما أفسح المجال للقول إن الأدب و«تاريخ النقد بكل بساطة جزء من تاريخ الفكر الجمالي ـ على الأقل ـ إذا عولج بذاته بدون الرجوع إلى العمل الإبداعي المتعاصر معه».
وفي سياق النقد العربي القديم، يذهب ابن الأثير مذهبا يؤصل لمنهج جمالي شعري. بل يمكن القول بصفة عامة، إنه يعتبر «الأدب يعبر عن موقف عام من الحياة»، وإن لم يكن بشكل منهجي، لأن الصيغة الشعرية من الطبيعي أن تختلف باختلاف العصور والسياقات التاريخية والثقافية، فإن هذا جعله يجمع بين اللفظ والمعنى والفكر في مفهوم متكامل للأدب والشعر ومقوماتهما.

اللفظ والمعنى والفكرة:

سخر ابن الأثير كل الآليات التي تقوم عليها الكتابة الأدبية، لصياغة الفكر الذي ينهض على مقومات جمالية، وأهمها التأمل والفهم والنظر وغيرها. لأن إجادة الفكرة هي إجادة الصياغة أدبيا وجماليا. ويعلل هذا بقوله: «ومن عجيب ذلك، أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد وكلاهما حسن الاستعمال، وهما على وزن وعدة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك، وهذا لا يدركه إلا من دق فهمه وجل نظره». فدقة وضع اللفظ المتناسب مع المعنى؛ ترتبط بشكل دقيق بالدلالة التي اعتبرناها أفكارا.
وتبعا لهذا، فهو يؤسس لـ«قانون صياغة الفكرة» ـ إن صح التعبير ـ وإذا كان قد تحدث عن اللفظ مفردا أو مركبا، فقد تحدث عن المعنى باعتباره إطارا للفكرة. فقمة المعاني لديه تلك التي تصاغ وتستخرج من غير شاهد حال متصورة. ويشير إلى هذا بقوله: «ومن نظر إلى هذا الموضع حق النظر، وأخذ فيه بالعين دون الأثر، علم أنه مقام يزلق بمعارف الأفهام، فكيف بمواقف الأقدام. وليس المعاني فيه إلا كالأرواح ولا الألفاظ إلا كالأجسام، فمن شاء أن يخلق خلقا من الكلام، فليأت به على صورة الأناسي لا على صورة الأنعام، فإن من القول الغانية التي أحسن من الغانية ومنه البهيمة التي لا تشبه إلا بالسانية».
فالخلق هنا من الكلام؛ تعبير مجازي عما ينبغي أن يحذوه الشاعر في التعبير عن بنات أفكاره. وإن كان مفهوم الأفكار هنا يرتبط بما هو فلسفي، فإنه يرتبط بدلالة متخيلة تعد راهنية الشعر والنثر، وتستوجب حذق الشاعر فيها والكاتب. وقد نبذ في هذا السياق صفة التكلف حين وازن بين مفهومي الخلق والتخلق، وذلك حين قال: «(فـ) الألفاظ إذا صدرت فيها عن سهولة خاطر وسلاسة طبع، وكانت غير مستجلية ولا متكلفة، جاءت غير محتاجة إلى التأنق، ولا شك أن صورة الخلق غير صورة التخلق». وبهذا، فنقد الفِكَر عند ابن الأثير هو نقد التخلق في الكتابة.

نقد الأفكار عند ابن الأثير:

إن نقد الفكر عند ابن الأثير يتجاوز التنظير نحو التطبيق، فقليلا ما تكون له استطرادات نظرية. وبذلك، يذهب إلى حد التحام اللفظ بالمعنى والمعنى باللفظ، لتخرج الفكر متلاحمة مخلوقة خلقا جديدا، أحسن فيها الكاتب والشاعر بحذقه التصويري.
وفق هذا السياق، نجده ينتقد قول عنترة: «هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاء مِنْ متَرَدّمِ»؛ بأنه «ينبغي ألا يُرسَّخ هذا القول في الأذهان لئلا ييئس من الترقي إلى درجة الاختراع، بل يعول على القول المطمع في ذلك». وقد واجه الشعر بالشعر، لأنه يعتبره خطابا خاصا لا يدلل عليه إلا بالذي هو من فصيلته، وهو قول أبي تمام:

لاَزِلْتُ منْ شكْرِي فِي حُلّة = لاَبْساً ذُو سلب فَاخِرِ
يقُول منْ تقْرَع أسمَاعُه = كمْ تَرَكَ الأولُ للآخِرِ

ويعلق على هذا البيت بقوله: «وعلى الحقيقة فإن زوايا الأفكار خبايا، أبكار الخواطر سبايا، لكن قد تقاصرت الهمم، ونكصت العزائم، وصار قصارى الآخر يتبع الأول وليته تبعه ولم يقصر عنه تقصيرا فاحشا».
لم يقف ابن الأثير عند حدود الأفكار المتضمنة في الشعر فقط، بل تجاوزها نحو الأفكار العلمية التي تعرف بـ«المصطلحات المفهومية»، حيث وقف عند «مقدمة ابن أفلح البغدادي» في تعريفه لكل من الفصاحة والبلاغة، وانتقد المنهجية المعبر بها عن هذه العلوم والمغالطات التي وقع فيها صاحب هذه المقدمة، حيث يقول عنها: «ولما تأملتها وجدتها قشورا لا لب تحتها، لأن غاية ما عند الرجل أن يقول/ وأما الفصاحة فإنها كقول النابغة مثلا، أو قول الأعشى، أو غيرهما. ثم يذكر بيتا من الشعر أو أبياتا، وما بهذا تعرف حقيقة الفصاحة، حتى إذا أوردت في كلام عرفنا أنه فصيح، بما عرفنا حقيقتها الموجودة وكذلك يقول على غير الفصاحة».
وقد تجاوز هذا نحو انتقاد فكرة إنساب المعاني المبتدعة للمحدثين وأنها ليس للعرب منها شيء، وعبر عن هذا بقوله: «ومن أعجب ما وجدته في كتابه أنه قال: أما المعاني المبتعة فليس للعرب منها شيء (…) ثم ذكر للمحدثين معاني وقال: هذا المعنى لفلان، وهذا غريب، وهذا القول لفلان، وهو غريب» ، لذلك انتقده انتقادا لاذعا، بل طعن في علمه بخصوص «تلك الأقوال التي خص قائليها بأنهم ابتدعوها قد سبقوا إليها، فإما أن يكون غير عارف بالمعنى الغريب، وإما أنه لم يقف على أقوال الناطقين والناثرين ولا تبحر فيها حتى عرف ما قاله المتقدم مما قاله المتأخر» .
والأمر نفسه يسري على باب (السجع) الذي اعتبروه «عبارة عن تواطئ الفقر على حرف واحد فقط، إذ لو كان عبارة عن هذا وحده لأمكن أكثر الناس أن ياتوا به من غير كلفة، وإنما هو وراء هذا وله شروط متعددة، فإذا سمعوا ذلك أنكروه لخولهم عن معرفته، ثم لو عرفوه وأتوا به على الوجه الحسن من اختيار الألفاظ المسجوعة لاحتاجوا إلى شرط آخر، قد نبهت عليه في باب (السجع)».
وفي هذا السياق، يوضح هذه الشروط التي ترتبط باختيار الألفاظ خدمة للمعنى حتى تكون أقدر على إبراز دلالة أكثر تناسبا وجمالا، بل أكثر تأثيرا في النفس؛ «وأول ذلك (أي الشروط) عنايتها (العرب) بألفاظها، لأنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها، وبالغوا في تحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدلالة على القصد». وبذلك، يكون عند «ابن الأثير» تحسين اللفظ وصقالته، وتدبيج أجزائه، تشريفا للفظ وتحسينا للمعنى وتدليلا على الدلالة/ الفكرة في حلتها الجمالية، ومثيل ذلك عنده إبراز الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة.

إضاءة خاصة:

إن «نقد الفكر» عند ابن الأثير لم يلامس في جوهره الجانب الفلسفي في الشعر شأن النقد الحديث. وإن كان الشعر في حقيقة الأمر ببصمته الفلسفية/ الوجوديـــة حاضرة في الشعر العربي القديم (أبي العلاء المعري). وإنما وقف على هـــذا الجانب النقدي من وجهة جمالية، مادامت الكتابة شعرا ونثرا تنبني على مقومات وتسمو نحو مقصديات لابد أن تتسم بالفنية والجمالية، مجسدة في حقيقتها مدى تماسك النص الشعري، في نطاق حيوية الأفكار. فالعمل الفني تصبح فيه الفكرة صورة، والصورة فكرة، مما يضفي عليه قيمته الشعرية دون سائر الشعر.


المصدر: القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى