دريني خشبة - قبلة..

كانت شغله الشاغل!

كانت تملأ أحلامه، وتحتل كل حنيةٍ من قلبه، وكان له قبلها حبيبات كثيرات من حبيبات الضرورة اللائى يعرضن في حياة الشبان، ثم ما يلبثن أن ينطفئ، كما تلتمع الشهب وتتلألأ، ثم ما تلبث أن تنطفئ، ويكون أحدها صاعقة تنقض على أحد فتسحقه. . . فلما عرفها، نسي هواه القديم الموزع، ووهبها حبه وإخلاصه ودموعه ودمه. . . ولو استطاع لوهبها كل حبه الذي ضيعه على الحسان عبثاً من قبل.

وكان لها هي الأخرى أحباء. . . ثلاثة أو أربعة. . . تنتقل بينهم كالفراشة الظامئة تمتص من كل زهرة رحيقها، ثم تلتمس الزهرة الثانية والثالثة. . . والرابعة التي تكون أطيب شذى، وأنضر منظراً، وأملأ بالعصير الحول. ثم عرفت (جمال) فشعرت كأن حاجزاً ضخماً قوياً يفصلها من الماضي الممتلئ بمتاعب الحب المصطنع، والهوى المزوق، والغرام الكاذب الخداع. وشعرت لأول مرة في حياتها بنسيم عليل يهب في صحرائها المتلظية فيجعلها جنة تصدح فيها البلابل، ويتبسم في أفنانها الورد، وترقص في حنيَّاتها الملائكة. . . وتنشد وتغني!

وكانت تهب من نومها فلا تفكر إلا في (جمال)، وتذهب من هذه الغرفة إلى تلك وشخصه ماثل ملء ناظريها، وحبه يغمر نفسها، وكان يتمثل لها أكثر كلما توجهت إلى الحديقة تقطف الزهر وتأنس إلى الطير، وتجلس عند حافة الغدير، وترسل نظراتها الحائرة المضطربة في الشمس الغاربة خلف النخيل البعيد. . . وطالما كانت تستسلم لوحدتها هذه فترسل عَبرةً صغيرة، صغيرة جداً، تخفيها في منديل حريري صغير، لم تكن حملته قبل أن تعرف (جمال).

وكان (جمال) بدوره يحبها ويفكر فيها، ولكنه كان فتى غيوراً من مصر، وكل فتيان مصر غُيُرٌ أشداء في الغَيرة، وهو كان يعرف أن (سُميّة) لم تكن له قبل أن يلقاها وتلقاه، بل هو كان يعرف اثنين أو ثلاثةً من أحبائها المدنفين بها، بل إن اثنين أو ثلاثة من أحبائها كانوا أصدقاءه، وكانوا يُسرون إليه، كل على حدة، بلاعج الحب الذي يعانون من (سمية)؛ وكانوا يشكون إليه دلالها وقلة اكتراثها بهم، فلم يتحدث إليه أحدهم عن (سمية) حديث سوء أو فحش، ولم يقل له أحدهم إنه نال من (سمية) خلوة فبثها غرامه، أو إنها حفلت به حين لقيها في الطريق فجزته عن ابتسام بابتسام، بل هم جميعاً كانوا في نصب من تمنعها الذي شف قلوبهم، وأضوى أجسامهم، وجعلهم في حيرة من أمرها.

على أن (سمية)، مع ذاك، كان لها أحباء تخلو إليهم قبل أن تعرف (جمال)، وكانت تعاطيهم من بضاعة الحب المُزْجاة قبلاً رخيصةً، غير حارة ولا وفية، ولا معنى فيها من هذه المعاني الرفيعة التي تصون الحب العذري، ويتجمل بسموها الهوى الطهري؛ وكانت تسرف أحياناً فتغشي المراقص والندى، وكانت تتضع فتحسو الخمر وتقبل الكؤوس، وكانت، من النشوة وجنون الشباب، تراقص الفتيان نصف عارية؛ وكان جسمها الجميل الممشوق، ونهدها البارز المتأجج، ووجهها المستدير الحلو، وخداها الموردان الأسيلان، وأنفها الدقيق وفمها الرقيق وذراعاها الناعمان. . . كان كل أولئك يجذب إليها قلوب الشباب المستهتر، وكانت قلوب الشباب المستهتر من حولها كالفراش حول اللهب، تنقذف فيه لتحترق!

وقد عرفها جمال هنا! في نفس المرقص الذي تعودت أن تغشاه أكثر من المراقص الأخرى. وقد قدمها إليه أحد أصدقائه القُنَّع الأغنياء على أنها غانية، ولكن جمالاً عرف فيها الفتاة العذراء بقلبها، النقية بسريرتها، المتبرمة بهذه الحياة التي مظهرها دنس وفجور وفسق، وباطنها ضمير معذب وقلب محترق ونفس شقية، ودموع مُكتَّمة وأمل مفقود. لقد كانت الأضواء المصنوعة البرتقالية والبنفسجية والصفراء والحمراء والبيضاء، تتكسر على ظهرها الأملس وصدرها المرمري، وساقيها الخِدلجين، فتزيد معاني الفسوق فيها في قلوب محبيها الذين لم يكونوا يعرفون منها إلا ما تعرفه شهواتهم وخباثاتهم، في حين كانت هذه الأضواء نفسها تضاعف معاني الطهر والبراءة فيها في نفس جمال. ولذلك ضغط على يدها الصغيرة الحلوة الناعمة ضغطاً هيناً ليناً حينما قدمها إليه صديقه. . . وكان لقاء هو أول الطهر في حياة هذه الغانية، وهو أول الأمل المشرق والرجاء البسام.

لقد ضغط جمال على يد سمية ضغطة نقلت إلى قلبها الواسع ما في قلبه النحيل من حب ناشئ، تذوقته فلم تعرف فيه تلك النجاسة التي عرفتها من أحبائها الآخرين، وحدثت نفسها فوجدتها تنتقل فجأة من هذه الأرض الممتلئة بالأدران، إلى سماء فسيحة أثيرية ممتلئة بالأناشيد والأماني.

وفكر فيها جمال، وكاد عقله يصدفه عنها ولكن قلبه جذبه إليها بشدة وعنف، فاستسلم كالحمل، وألقى بروحه كلها في قبضة سمية.

والتقيا في خلوة، بعد مقدمات غرامية طويلة كلها حيطة وكلها حذر، وجلسا في منزل جمال الخالي من كل مخلوق عداه، وذهبا يتجاذبان أطراف الحديث الحي. . . ثم صمتا فجأة وتوسطت بينهما نظرات مستطيلة غائرة ممتلئة مغناطيساً عجيباً. . . ولم يقو جمال على هذا السحر المنبعث من عيني سمية، فأطرف برأسه، وأخذ فوديه بين يديه، وانفجر يبكي كالطفل، وسمية تتفرس فيه وتتألم. . . ولا تدري ماذا تصنع!

سمية التي خبرت من ألوان الحب ألفاً وألفاً، لم تر في حياتها مثل هذا المشهد العجيب مرة واحدة، لأن كل الذين اكتووا بنارها كانوا من طلاب جسمها الخصب، وجمالها الفتان، أما جمال، فقد عرف من ابتساماتها الحزينة، ونظراتها المترعة بالمعاني أنها جديرة بغير هذا اللون من الحب الشهوي الدنس، جديرة بحب جديد نقي يوائم هذه الناحية المستورة العميقة من نواحي نفسها الكريمة الرحيمة الناقمة على الحياة، الباحثة عن قلب واحد كريم من ملايين القلوب التي يزدحم بها العالم من حولها.

دهشت سمية، وجلست تلقاءه مسبوهة اللب ذاهلة القلب، لا تدري ماذا تقول، ولا كيف تعالج منه هذا البكاء وذلك النحيب. . . لقد كانت تظن أنه يستطيع أن ينال منها كل ما يشتهي، فإنهما بنجوة من الناس، ولا أحد يستطيع أن ينفذ إليهما ولو بنظرة. . . فلم لم يداعبها جمال؟ ولم لم يداعب كفيها على الأقل؟ لمَ لمْ يجلس إلى جانبها على الكرسي الرحيب فيضع رأسه على صدرها كما يفعل العشاق، أو يأخذ رأسها فيضعه على صدره، ثم يبحث بفمه في شعرها المجعد الأسود الفاحم! لماذا لم يحاول أن يُقَبِّلها؟ إن القبلة هي عربون الحب كما يقولون! فلم لا ينقض جمال على فمها الحلو فيسقي من سلافته قلبه الظامئ؟ لا! لم يفعل، ولم يحاول أن يفعل. . . بل ظل يبكي كالطفل. . . بكاءً ساكناً هادئاً، لأنه صادر من القلب، بل من أعمق أغوار الروح. . .

(أ. . . أظن بحسبك ما بكيت يا جمال؟

(. . .؟. . .

(أهذه أول مرة إذن؟. . .

(سمية. . .

(جمال. . .

(أتعطيني موثقاً يا سمية؟

(وعلى أي شيء أقاسمك يا جمال؟

(على أن تكوني لي وحدي يا سمية. . . على أن تقطعي صلتك بكل من عرفتِ قبلي

(وهل عرفت أحداً قبلك؟ أنت واهم!

(أنت تهزأين بي يا سمية!

(لا. لست أهزأ بك، بل. . . أنا. . . أحبك

(وأنا. . . وأنا يا سمية. . . بل لقد فنيت فيك

(ثق أنني لم أقلها لأحد قبلك على كثرة من تعرف ممن ظننتهم أحبائي!

(إذن ستكونين لي وحدي! أليس كذلك؟

(سأكون لك! وأقسم لك إنني لم أكن لأحد قبلك

(وعلام تقسمين يا سمية؟

(أقسم على نفحة السماء التي غمرت قلبي حين ضغطت على يدي ليلة لقيتك. . . بل أقسم على الدموع الغزيرة الغالية التي ذرفتها أنت الآن!

ودنا منها جمال. . . وصافحها، ولكنه لم يقبلها؟!

ونقل من القاهرة إلى أسيوط، وانتقلت (سمية) معه، ثم تزوجها هنالك، ولكنه كان يعاشرها كما يعاشر الفنان دُميته، يهواها ويتعبدها، على عكس ما يقول الشاعر العربي؛ وكان شديد الغيرة عليها، وكان يغيظه منها كثرة الخطابات التي ترسلها إلى القاهرة والتي تصل منها، وكانت هي لا تبالي أن تقع هذه الخطابات في يده فيقرؤها، ويمزق منها ما يشاء، ويبقي على ما يشاء ويرد إليها ما يشاء. ولكن خطاباً واحداً أهاجه بما حمل إلى سمية من عبارات ليس يصدر مثلها إلا عن فؤاد العاشق ولا يستطيع أن يكتبها إلا قلم وامق. . . وإن تكن التي كتبته امرأة كما يُظَن من الإمضاء.

(ومن عَلِيّة هذه التي تكتب هذا الأسلوب المتهدج يا سمية؟)

(الأسلوب المتهدج؟)

(آي. . . الأسلوب الذي يخفق بحبك، ويتنزل كالوحي عليك؟)

(جمال! ماذا تريد أن تقول؟)

(لا شيء! ولكني أعبدك يا سمية! أعبدك! أسمعتِ!)

(بل أنت تعذبني بشكوكك!

(فقط أريد أن أعرف من علية هذه؟)

(أقسم لك بدموعنا إنها فتاة. . . ولكن لا تعرفها!)

(. . . . . .؟. . . . . .)

وذهب جمال إلى (المصلحة) وغادر سمية تجتر آلامها وحدها؛ وكان قد أهدى إليها صورته يوم أن تقاسما على أن يكون كل منهما للآخر، وكانت سمية تعتز بهذه الصورة أيما اعتزاز، لأنها كانت تذكرها بالقلب الذي نبض بحبها غير مشوب بغرض دنيء، كما كانت تذكرها بأول نبضة خفق بها قلبها بحب بريء. . . فكانت تدمن النظر إليها وتبكي. . .

وعاد جمال مرة من عمله مغضباً حانقاً، لأن لئيماً من أصدقائه عرف أنه تزوج من سمية فكتب إليه خطاباً بإمضاء مستعار يهيجه به، ويذكر له من تاريخ صاحبته ما يريد أن يفصم به عرى تلك الرابطة التي ربطت قلبيهما، فتعجل جمال موعد انصرافه، ويرجع إلى المنزل ليرى رأيه في سمية، وليضع حداً لافتتانه بها، وليخلص ضميره المعذب من هذا الشقاء الطويل.

وكان يحمل معه مفتاحاً لسكنه، وكان كل مرة يفتح الباب دون أن يسمعه أحد، وكان بذلك يؤلم سمية غاية الإيلام، لأنها كانت تعتقد أنه يتجسس عليها.

ودخل في ميعاد مبكر لم تكن تنتظر مجيئه فيه، وسار بخطى متئدة حتى كان عند باب المخدع، فوجدها بين مصراعي دولابها الكبير تقلب أوراقاً، ثم تتناول من بينها صورة فتحدق فيها نظرها. . . وتلثمها وتبكي. . .

وكان السافل الوغد الذي كتب إليه الخطاب الذي أهاجه قد ذكر له أنه أهدى إليها صورته أكثر من مرة، وأنها أهدت إليه صورتها، فوقر في قلبه أنها تلثم الصورة المجرمة التي تدخرها ككنز لهذا الحيوان.

وفي ثورة جنونية، انقض جمال على سمية، وضغط بكفيه القويتين حول عنقها، فوقعت على البساط الوردي الفخم، بين الموت والحياة!

ولكن. . . وا أسفاه! لقد نظر إلى الصورة التي كانت بيد زوجته فوجدها صورته التي كان أهداها إليها ليلة الموثق، فأفاق من وسواسه، وانحنى يقبل سمية بفم مجنون، وشفتين مرتجفتين، ولكنها لم ترد عليه بكلمة. . . فحسبها قد قضت!

وصاح جمال بالخادمة. . .

ثم هرول إلى الخارج ليحضر طبيباً. . .

ولكنه عاد ليجد الخادمة تقول له:

(سيدي. . . لقد سافرت!

(سافرت؟!

(أجل. . . سافرت إلى القاهرة! هكذا قالت لي، وهاك خطاباً منها. وفض جمال الخطاب فلم يجدها زادت على هذا السطر.

(جمال! اضطررتني اضطراراً أن أعود إلى الذئاب لتغتذي بمرضي وتوغل في دمي، والذي يؤلمني أنني أكاد أضع لك ولداً في طريقي إلى القاهرة!!).

وكاد جمال يختنق!

وهرول إلى المحطة لأنه نظر إلى ساعته فوجد أن القطار لا يتحرك قبل عشر دقائق. . . ولكنه وصل إلى المحطة ولم يجد سمية هناك، فانتحى ناحية وأخذ يفكر. . . ثم ذرف دموعاً سخينة أخفاها في منديله، وأيقن أن سمية قد سافرت في سيارة.

وعاد إلى المنزل محطم القلب مهدم الجسم خائر القوى.

ولكنه ما كاد يطرق باب المسكن حتى سمع صوصوة، ثم دخل فرأى طبيبة كأنها ملاك تحمل بين يديها ابنه. . . المولود الصغير. . . ورأى سمية ممدودة على السرير ضعيفة موهونة واهية فانهمرت الدموع من عينيه، وتقدم إلى الطبيبة فاحتمل الطفل وطبع على جبينه ذي الأسارير قبلة باكية، ثم سمع سمية تقول:

وأنا أيضاً يا جمال!

(وأنت أيضاً ماذا يا ملاكي؟

(وأنا أيضاً. . . قبلة مثل هذه. . .

فانحنى على وجهها الحزين وطفق يقبله حتى طبع عليه ألف قبلة، والطبيبة العذراء تنظر وتتعجب!

وكان الفصل شتاء، وكان الموقد يتأجج بجمر شديد ونظرت سمية فرأت جمالاً يخرج من جيبه خطاباً ويحرقه، فتبسمت وهي تقول:

(ضحية جديدة لا بد؟!

ولكن جمالاً لم يرد.... بل مضى يساعد الطبيبة في لف الطفل!!


* (الحوار في هذه القصة المصرية موضوع في الأصل باللهجة المصرية وقد عرب لانتشار الرسالة في الأقطار العربية)


دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 163
بتاريخ: 17 - 08 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى