عبد المعطي المسيري - بيت الحظ!!..

كان الشيخ مرسي غانم - أو الشيخ النزهي كما يسمونه في القرية - جالساً مع نفر من القرويين ينصتون بانتباه للعمدة وهو يحدثهم نفس الحديث الذي يقصه كل ليلة منذ انتهى إليه أن سعادة المدير ونجله سيشرفان القرية ليقيم بها الابن بضعة أيام إراحة لأعصابه كما أشار الطبيب. وكان العمدة يتحدث في هذه الليلة بحماس، ويلقي التعليمات والأوامر بوجه متجهم وصوت أجش كعادته في بعض الأحيان، وذلك لأن المأمور أنبأه في الصباح أن سعادة الباشا ستكون زيارته بعد الغد وأنه - أي المأمور - يهمه أن يهتف الأهالي بحياة الباشا وأن يكون بأيديهم سعف النخل وأغصان وأن تستقبله النساء بالزغاريد. . .

وانصرف شيخنا النزهي بعد أن عرف نصيبه في هذا الاحتفال وهو أن يبعث زوجته وابنته زينب لتنظيف غرف المنزل المعد لنجل المدير وأن يكون مع المستقبلين الهاتفين. . .

سار الشيخ صوب النهر إلى أن أتى الشاطئ فخلع نعليه وشمر عن ساعديه وجلس يتوضأ، وبعد أن انتهى من صلاة العشاء أخذ طريقه إلى المنزل وهو يكثر من الحوقلة التي اعتادها عقب كل صلاة، ولكنه كان في هذه المرة يرددها بنغمة الأسف على تأخره هذا وتوقعه ضجر الزوجة والأولاد. . .

دفع الباب واحتوته الغرفة فعاود الحوقلة بصوت عال، وأحزنه أن يرى الطعام على المائدة الخشبية وحوله عائلته، وقد غلب النعاس جميع أفرادها، فبدأ بإيقاظ الزوجة، وهذه أخذت تهز الأولاد من أكتافهم معلنة إليهم في ابتهاج وفرح عودة أبيهم؛ ثم أخذ الجميع يتناولون الطعام حتى أتوا عليه فقامت زينب - الفتاة الكبرى - وأتت بالماء فغسلوا أيديهم ومدت أختها يدها وتناولت أرغول والدها من شباك الحجرة وقدمته إليه، بينما تدحرج أحمد الصغير خارج الغرفة وعاد وهو يدفع أمامه آنية نحاسية وضعها أمام أمه.

تناول الشيخ أرغوله وبعد أن تثاءب وتمطى قربه من فمه، فسرى الصوت في فضاء الحجرة وتبعته نقرات الأم على الآنية النحاسية، وأخذ الأولاد في التصفيق متبعين نفس النغمة حتى حمى الوطيس، وأخذت زينب تغني أغنية ريفية مطلعها: يَلْحِنَّا، يَلْحِنَّا، يا قَطر الندى ... يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى

وقامت فاطمة الصغيرة وتأهبت للرقص كعادتها حتى إذا أدركها التعب ارتمت على الأرض ليأخذ أحمد دوره. . . خفت صوت الأرغول وسكنت النقرات والأصوات، وساد في جو الغرفة الهدوء إلى أن عاود أحمد النشاط فنطق بأغنيته المحبوبة يا لليل يا ليل. . . ثم عاد الشيخ لأرغوله مشجعاً ولده وطاب لهم أن يغنوا ثانية أغانيهم البلدية، وعاد المرح وارتفع صوت زينب وتبعها الجميع مرددين مصفقين، وقامت فاطمة للرقص ونافسها أحمد بحركات ساذجة تبعث على الضحك والسرور، وبين آونة وأخرى يتعثر أحمد فيسقط على الأرض وأحياناً تسقط معه فاطمة فتتزايد القهقهة من الجميع إلى أن أدركهم الكلال فنهضت زينب وقادت أمامها اخوتها إلى الغرفة الثانية المعدة لنومهم.

على هذه الوتيرة كانت تعيش عائلة الشيخ مرسي، وعلى هذا الضرب كانوا يقضون لياليهم. أما في النهار فكانوا يعملون في الحقل بكل نشاط وابتهاج، لكل منهم عمله حتى أحمد الصغير كان يتدرب على مراقبة البقرة التي تدور حول الساقية. . .

حياة بسيطة لا تعقيد فيها، كلها سعادة وكلها أمن واطمئنان: الشيخ يرى أن سعادته في ابتسامة زوجته وفي نماء المحصول وصحة أولاده، والأولاد يرونها في هذا الحب المتبادل الذي يربط بين قلوب الجميع، والزوجة تراها في رضاء الزوج ومرح الأولاد.

. . . وفي هذه الليالي الضاحكة حيث يرقصون وينشدون وكثيراً ما التمس سكان القرية السرور والفرح والترويح عن النفس في بيت هذه الفرقة الموسيقية التي لم تعرف الشقاوة الطريق إلى أفرادها حتى أطلق سكان القرية على بيت الشيخ (بيت الحظ).

قبيل الفجر كانت زينب توقظ أمها واخوتها لقضاء ما يلزم للمنزل وتهيئة الماشية وإعداد الفطور استعداداً للذهاب إلى بيت العمدة المعد لسكن (ألبك الصغير) وتم كل شيء وأخذت هي وأمها طريقهما إلى بيت العمدة.

قامتا بما يجب عليهما من غسل أرضية الغرف وتنظيف ما علق بها من الغبار وغير ذلك، وما وافت الظهيرة حتى كل شيء على ما يرام، وحضر العمدة وجاءت على أثره سيارة كبيرة تحمل الأشياء التي يتألف منها الأثاث، وأخذ الرجال في الترتيب وأصدر العمدة أمره إلى الأم وأبنتها بتهيئة الطعام للرجال.

بينما كانت زينب تعمل مع أمها سمعت صوت موسيقى رائعة ينبعث من إحدى الغرف فتركت ما بيدها وانطلقت إلى مصدر الصوت يدفعها حب الاستطلاع: نغمة جديدة تطرق أذنيها لأول مرة، وعلى باب الغرفة وقفت تنصت للصوت المنبعث من جهاز الراديو مأخوذة لا تستطيع ضبط عواطفها ولا امتلاك نفسها.

لم يكن يخطر ببالها قبل الآن أن في العالم غير أرغول أبيها وآنية أمها، ولم تسمع أن هناك أغاني سوى تلك التي تغنيها؛ نعم إنها شاهدت وسمعت فرقة الشيخ راشد التي تزور القرية من حين إلى آخر لتقيم الأفراح لعائلاتها، ولكن زينب كانت تفضل دائماً حفلات منزلها، وأين موسيقى الشيخ راشد من الموسيقى التي تسمعها الآن؟؟ وعقب اسطوانة الموسيقى سمعت زينب صوتاً رائعاً حنوناً:

(اللي حَبِّك يا هناه)

ثم موالاً بلدياً فرأت اختلافاً بيناً بين ما سمعت الآن وبين ما تسمع وتقول كل ليلة فأنكرت موسيقى منزلها، بل أنكرت نفسها وصغرت أمامها الألاعيب التي يقومون بها كل ليلة وأيقنت أن في العالم لذة وسعادة أشهى وأمتع من لذتهم وسعادتهم.

في مساء تلك الليلة كانت زينب تسمع أرغول والدها بملل وضجر كأن أذنيها لم تتعوداه، وودت لو ينتهي الوالد لتذهب إلى حجرتها حيث تتمثل في هدوء ذلك الصوت الشجي الساحر، وانتظر الوالد طويلاً أن يسمع صوتها ولكن دون جدوى، وظن أن لعملها الشاق في بيت العمدة أثراً في ذلك فأذن لها في الذهاب إلى النوم وهو لا يخفي كدره، وأخذ يلعن الباشا والبك والعمدة لأنهم كانوا سبباً في حرمان زينب من قسطها في الغناء والسرور، وحاول أن يشرك معه فاطمة وأحمد في الزمر والرقص ولكنهما آثرا أن يذهبا مع زينب، ومضت تلك الليلة صامتة فاترة على غير المألوف.

وفي الصباح كان البشر يلوح على محيا زينب عندما علمت أن زوجة العمدة أرسلت في طلبها لإعادة نظافة غرف ألبك الصغير).

بعد أن أتمت ما أشارت به زوجة العمدة انسلت حيث غرفة الراديو وجلست القرفصاء بجوار الباب تنصت بنشوة غريبة ولذة قوية، ودهشت إذ رأت فاطمة وأحمد يبلغانها غضب أمها لغيابها وقلقها، ولكنهما لم يلحا عليها في الإياب واطمأنا لصوت الراديو، وقفز أحمد على كتفيها يحاول رؤية مصدر الصوت من فرجة الباب، وارتسم الذهول على وجه فاطمة واستولى على ثلاثتهم الصمت، ولم ينتبهوا إلا على صوت العمدة وهو يحدث (ألبك) عندما هما بمغادرة الغرفة لتناول الغداء، والتفت العمدة إلى زينب فنهرها وأمرها بأخذ أخويها والرجوع إلى المنزل حتى لا تقلق أمهم.

في هذا المساء لم تنهض فاطمة لمناولة والدها الأرغول، ولم يتأهب أحمد للرقص وارتسم الوجوم على وجوه الجميع، وفقدت تلك الفرقة الساذجة الانسجام والتجانس، فرفع الشيخ يده وتناول الأرغول، ولكن الأولاد نفروا واستنكروا هذا الصوت، وفزعت زينب من نقرات أمها على الآنية النحاسية وملكها الحياء فلم تعد تغني، وكيف تغني بعد أن سمعت (اللي حبِّك يا هناه!).

لم يعرف الرجل حلاً لهذه المشكلة ولم يقو على فهم الدافع الذي ألح على زينب فحال بينها وبين مشاركته في الغناء فتحول عنها إلى أخويها وأومأ إليهما أن يأخذا بنصيبهما، ولكن فاطمة فأفأت لتعبر عن تأففها وتأتأ أحمد ففهم الشيخ السر. . .!! قرأ لغتهما المضطربة ذلك اللغز الذي أفسد حياته وذهب بسعادته.

وحار الشيخ في الأمر. لقد سمع هو أيضاً وسمعت أمهم ولكنهما لم يتأثرا، وأدرك بفطرته أن الصغار على استعداد للتمرد والثورة. . . أدرك الشيخ أنه ناضل نفسه لأنه آمن بأنه المغلوب إذا التمس السبيل إلى حياة الترف فآثر أن يكبح جماح نفسه ويعيش بأحلامه، وأدرك أن صغاره قد بهرهم النور وأن بريقه الساطع قد ألهب في قلوبهم ناراً فثاروا على حياتهم المظلمة. . . فلم يملك إلا التنهد العميق. . . وأراد أن يلعن ذلك اليوم الذي جاء فيه (ألبك) إلى القرية، ولكن الكلام مات على شفتيه. . .

ولأول مرة تراقصت الدموع في عيني الشيخ وعز على الأم أن ترى هذا المشهد الذي لم تدرك سببه، فهزت الأولاد وحاولت أن تدفعهم إلى المرح، ولكن ذلك كان عبثاً، فرمى الشيخ أرغوله وتمدد على فراشه يبكي سعادته الهاربة. . .

ونهضت زينب فغادرت أخويها وهي تقلب بصرها فيما حولها من القذارة وتقارن بين ما ترى وبين الأثاث الثمين والصور الجميلة والموسيقى الرائعة الحنون، وكانت تود لو أن حياتها كلها نهار حتى لا تقع عينها على منزلها هذا الذي صار كل ما فيه يجلب إلى نفسها الحزن والأسف.

وانتقل الرقص والمرح من بيت الحظ الريفي إلى بيت العمدة حيث المنية يجذب ظلها هؤلاء السذج ويفرض عليهم سلطانه، وبينما كان الأول للوجوم والامتعاض في الليل كان الثاني للفرح والسرور بالنهار.

وانقضت أيام ألبك في القرية ورحل بأثاثه وجهازه وترك وراءه أسرة سلبها سعادتها وأحلامها. . . وبينما كانت سيارته تنهب الأرض في طريقها إلى المدنية كان الشيخ النزهي ينظر إليها والأسى يملك عليه نفسه، حتى إذا غابت عن بصره حطم أرغوله وألقى ببقاياه في النهر. . .



عبد المعطي المسيري
مجلة الرسالة - العدد 168
بتاريخ: 21 - 09 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى