عامر سنبل - الخوف

دكان فقير بمصاطب لجلوس الزبائن، ومرآة مطوّسة مثبّتة على الحائط الطيني المقشور، أمواس ومقصات ثلمة على رف تحت المرآة، وفوطة بالية معلّقة على مسمار مدقوق في الحائط. يبدو الأسطى محمود مضطرباً. هو مفرط في نحافته، ينحني على رأس الزبون مِن فرط طوله، يحلق ذقن أحدهم، يتركه قليلاً لينظر متلصصاً مِن الباب، عينه اليسرى مرخيةُ الجفن العلوي، واليمنى واسعة مستديرة. جلبابُه الأبيض الواسع؛ دوماً نظيف، وطاقيته القماش ناصعة، يحسبها العصفور ماءً ويكاد يشرب منها. تنز الجروح السطحية بسبب ارتباكه، والزبون يتألم تحت يده الباردة الرشيقة المبللة، يجففها في عجالة. يهدل - من توتره- مثل الحمام، يهمس همساً؛ يسمعه الزبون بوضوح:- لسانك حصانك.... هه.... هه. وقف الجميع على الباب يستطلعون ما يفزعه، لم يشهدوا شيئاً ذا أهمية. فجأة بصّ الأسطى وتلفّت يميناً ويساراً، رآه، انطلق يجري وسط دهشة الزبائن. انتظروا عودته مِن دون جدوى، ومِن دون فهم لما حدث. اختفى ولم يعد إلى بيته، وأغلقت زوجته الدكان وهي تولول وتنعى رجاحة عقله وطيبته. انصرفوا وفيهم الزبون بنصف ذقن حليق والنصف الآخر بشعر غارق في الصابون.

أصل الحكاية أنه ذهب إلى السويقة، ليشتري جبنة، اختلف مع المرأة التي تبيعه، لتّ وعجَن في الكلام، دفعته وسبّته فسبّها وأفحش لها القول. كان إبليس يقف غير بعيد وسط النساء على كومة من المواجير التي فرغت من الجبن، وبما عرف عنه من خفة فإنه لم يتركه لحاله، أسرّ إليه أن تلك المرأة ما هي إلا أخت الشقي «أبوالفتوح بدران»، سوف يقتله لا محالة. بعدها لم يذق طعم النوم، صار يدور حول نفسه، يهمس:- صحيح لسانك حصانك. وسوَست له نفسه أن يذهب إليه طالباً السماح. كان اختياره الأخير هو الفرار إلى الغيطان والاختفاء بين الزراعات. تمشي زوجته المسكينة على الترع والجسور، تنادي على الأسطى نداءً ملتاعاً، ترجو وجوده حياً، تدعوه بكنيته المحببة إليه:- يا محمود... يا بو طه!

تلاقيا فجأة وجهاً لوجه بين حقول الذرة الكثيفة، صرخ الأسطى صرخة متوحشة، شقّت صمت الغيطان الغارقة في لجة من الذهب وقت الأصيل، توقفت الجواميس الراقدة عن الاجترار وأصاخت السمع لصرخة خائف هي أقرب إلى جئير حيوان جريح. مزيج من الألم والخوف. شاهدَه خلفها بضحكته المنتصرة.

أمسك طرف جلبابه في أسنانه، جرى كما تجري النعامة، بساقين رفيعتين وخطوات متلاحقة. طويل نحيل ينساب جسده مع الريح في براح الغيطان. خلفه زوجته تناديه.

لم يجد من الوقت ما يكفي ليخبرها بحقيقة الرجل الذي يصحبها. قفز قفزات موفقة على القنوات الصغيرة. كانت القفزة الأخيرة رائعة وجنونية. لقد قفز فوق ترعة البوهية أعلى مما تصورت زوجته، تحوّل فيها إلى طائر أبيض جميل، يحلق بعيداً عبر الأفق في زرقة السماء الباهرة.
  • Like
التفاعلات: علي سنبل

تعليقات

أعلى