فؤاد قنديل : يمامة خضراء بكعب محنّى

فؤاد قنديل


لست أدري على وجه الدقة السر في أني أحببت اليمام أكثر من الحمام، ربما بسبب صوتها الرخيم، وربما بسبب ندرتها وربما بسبب شعوري إنها مسكينة وهيابة تتجنب الزحام والعنف والصخب.. وربما لأني في الوقت ذاته أشعر بأنها تتمتع بدرجة كبيرة من الاعتزاز بالنفس كالهدهد.. لكن اليمامة تعتز بتواضع، وتسمو فى أدب وانزواء، أما الهدهد فلديه إحساس زائد بالأهمية، وانتباه حاد للفارق بينه وبين الكائنات الأخرى ويسمح لنفسه بالتعالي، وأحسب أنه محق.
اليمامة في الأغلب ترفض النزول إلى الأرض والتسكع تحت أقدام المارة أو ركوب البهائم كما يفعل الحمام،
وهى تحرص على تجنب عالم المدن المزعجة.. فمن اليسير أن يتعكر مزاجها، ولها نظرة خاصة في الأماكن التي يمكن أن تعشش فيها والبيئات التي ترتادها.
تلقيت طعنة وأنا في نحو الثامنة عندما رأيت بعيني شابا يسقط ببندقيته يمامة من فوق شجرة، وما كان هذا إحساسي عندما اصطاد هو أو غيره العصافير والحمام والبط.. تطور الأمر بشكل صارخ عندما أصر ثري من أثرياء وكالة البلح على دعوتنا بمناسبة خطبتي لابنته لتناول العشاء في بيته.
أقام الرجل وليمة كبيرة فوجئت بحجمها في شقة تحتل دورا كاملا من عمارته، تبلغ مساحتها نحو ثلاثمائة متر، كلها عبارة عن مساحة مفتوحة بلا حوائط، وشعرت كأني في ملعب للكرة، يبدو أنه خصصها كمضيفة بخلاف سكنه في شقة تعلوها بالمساحة ذاتها.
كنا نحو عشرين فردا من الأسرتين.. طعام وفير بشكل مبالغ فيه، مثل الذهب الذي يتدلي من رقاب زوجتيه وبناته السبع ويلتف أساور وثعابين على أذرعهن بما يصدم العيون وهو يومض متكورا ومتكتلا في أصابع أبنائه الخمسة، وتصورت أن هناك أساور وثعابين وعقارب تلتف حول خصور الزوجات والبنات وأفخاذهن وسيقانهن.
كان فرحا بوجودنا، حاول أن يعبر عن ذلك بكل وسيلة، وعندما قال لوالدي:
ـ على شرفك يا حاج إبراهيم ذبحنا خمسين زوج يمام.
أسرعت أقول:
ـ تقصد “حمام”
فانبري فخورا:
ـ لا يا أستاذ.. الحمام شيء عادى، ويلزم أن نذبح لكم..
لم أنتظر لأسمع بقية كلامه اللزج.. اندفعت إلى الخارج تاركا كل شيء ، وتسببت في مشكلة، وحرج بالغ للجميع.. لا يهم.
غضب والدي وقاطعني أسبوعاً لأنه صاحب فكرة الزواج من ابنة هذا الأب القاتل، رغم أن ابنته جميلة وسمينة وطيبة وجاهلة.. غضبت الأسرة كلها بسبب التصرف الأرعن على حد قولهم حتى أخوتي الأصغر.. خامرني بعد أيام شعور عابر بأني بالغت وأعطيت التصرف العادي أكبر من حجمه.
منذ أيام حدثني صديق أنه رأي في سوق الجمعة يماماً كثيراً وحماماً وعصافير. تحمست لفكرة زيارة السوق لرؤية اليمام والتخفيف عنه بعد مجزرة التاجر السفاح.
أزحت من أجندتي كل انشغالاتي ومضيت إلى هناك.. كان يوما غائماً وغامضاً.. لكني أكملت طريقي نحو اليمام الذي كنت أربط بينه وبين فاتن حمامة في شبابها الوديع الذي تجلي في “صراع في الوادي” و”سيدة القصر” و”نهر الحب” و”أيامنا الحلوة” و”الباب المفتوح” و”الطريق المسدود” وغيرها كثير غمرتنا به تلك اليمامة.. وكان طبيعياً أن أتحدث عنها إذا لزم الأمر باسم فاتن يمامة.. عزمت أن أنتهز الفرصة وأكتب عن ذلك الكائن الرقيق موضوعا للجريدة.
اليوم ومنذ استيقظت فى الصباح أشعر باختناق لا أعرف سببه ناديت السيدة عائشة التى أسكن بجوارها، وأحس دائما عبير وجودها، وألمس بعض نفحات حضورها النبيل علينا وعلى سكان الحي. بركاتك يا ستنا.. تنهدت وغادرت الفراش.. درت فى الشقة فلم أجد أحداً من العائلة.
تذكرت أن أمي وأخوتي ذهبوا مبكرين لزيارة جدتي فى “تلا” وأعلنتهم فى المساء بعدم رغبتي فى الذهاب معهم.. اعترضت أمي، لكنها اقتنعت لما أنبأتها بقدوم الدورة الشهرية وغالبا ما تهزم جسمي.. البيت يبدو موحشا وسخيفا.. ربما كان هذا هو السبب فيما أحسه.
دخلت كل موضع علَّنى أجد ما يلهيني لأخرج من حالتي.. كان كل شئ بدون الأسرة باردا ومملا، مع أني تصورت قبل أن يغادروا أن الوحدة متعة.. العادة بقدر ما هى مريحة لأنها تنظم السلوك والحياة، إلا أنها فجأة تصبح عبئا ثقيلا إذا انكسرت لأي سبب.
فنجان القهوة لم يؤثر فى نفس ضجرة وعقل مشوش بالرغبات والحواجز والاختيارات المعوقة.. بركاتك يا ستنا.
رن التليفون.. عرفت صوت المتحدث الذى لا يتعب.. يلح من جديد كي أوافق عليه زوجا وقد بلغ الخمسين ومتزوج ولديه خمسة من الأولاد.. لمجرد أنه غني يتصور أن بإمكانه أن يشتريني وسوف يسيل لعابي، وهو مثل أبيه محمد جرجس بائع الروبابيكيا الذى ظل يطارد صاحب العمارة التى نقيم فيها حتى اشتراها منه بأكثر من ثمنها ليكون إلى جوار السيدة..
ها هو ابنه يمارس هوايته بلا يأس. لو كان أبي حيا لرده بكلمات لاذعة مع أول محاولة، ومع الثانية يهشم رأسه بعصاته الغليظة.. كان على أبي أن ينتظر قليلا حتى يخلصنا من أمثال هؤلاء الطامعين فى كل شئ.. يتصور ابن محمد جرجس إننا لقمة سهلة.. المال يعمي صاحبه.
وقفت طويلا أمام المرآة.. أخذت أتزين بدون مناسبة فوجئت أن شكلي يمضي فى عكس اتجاه حالتي النفسية.. داخلني رضا عن عيوني الواسعة ورموشي الطويلة وخدودي الوردية.. مشطت شعري.. كان سلسا على غير العادة.. لا يعارض المشط عندما يدفعه فى أي اتجاه.. بدا أطول من كل يوم مع أنه فى الأصل قصير.. قفزت فجأة فكرة الخروج.. وتاقت نفسي أن أرتدي التايير الأخضر الذى اشتريته خصيصا منذ شهر لحضور حفل خطوبة زميلتي، ولم ألبسه لأن العريس تراجع.. أنا واثقة أن أمه هى السبب.
لبست التايير ونزلت إلى الشارع.. تنفست الهواء الطازج بعمق.. بدأت نفحات الست تتخللني. أنا الآن أفضل قليلا.. سوف أتمشي إلى سوق الجمعة الذى لا يبعد غير محطتين أتوبيس.. أتسلي بالمعروضات والأسعار.
ما أن وصلت إلى سوق الجمعة، حتى وقعت عيناي على فتاة رائعة القوام في اللبس “المحزق” كانت تسبقني بخطوات.. ساقاها بيضاوان بضتان.. تايير أخضر زرعي يلف الجسد الممشوق ويظهر مفاتنه. جاكت التايير نصف كم. الذراعان يتدليان ككوزين من عسل والشعر الكستنائي يلامس الكتفين، خصلات قليلة منه شقراء.. ردفاها ممتلئان قليلا.. تبدو طراوتهما في هزات متوافقة.. تومض بغير بريق.. قدماها في صندل مكون من شرائط جلدية صفراء وخضراء، يبدو من الخلف كعباها البرتقاليان بالحناء.. لوحة آسرة متحركة ربما تلهيني حتى أعثر على اليمام.. المشهد كله يتميز بالإيقاع الزماني والمكاني.. الجمالي والحسي.. التاريخ متواطئ مع الجغرافيا لسلب العالم راحته واستقراره.
هذه هى الصورة من الخلف، فماذا عن الصورة من الأمام ؟
تجاربي السابقة تقفز إلى رأسي لتنبهني إلى تقبل الصدمة، فالوجه سيكون وجه عنزة أو خنزير بري، وفى أحسن الحالات مس بيجي سيدة عرائس والت ديزني. سبقتها بعشرين خطوة ثم عدت لأكون في مواجهتها حسما للأمر، فلا أحتمل الجمال الخلفي بقبح أمامي.. العدالة والرحمة تقضيان ـ دون تدخل فى عمل الله ـ أن تتماثل الصفات.
الغريب أني وجدت في المواجهة لوحة من الجمال والجاذبية رغم أن الفم واسع قليلا والأنف طويل قليلا والذقن مدببة، لكن الشفاه دسمة تحمل دعوة ملحة للقبل.. العينان نصف الوجه تؤطرهما رموش طويلة.. بدا تصميم التايير أقل من عادي والقماش رخيص.. لكن البنت فاتنة، والفتنة أشد من القتل.
أخذت موقعي في الخلف مرغما، لأن المقدمة لا تسمح إلا بالعبور فقط قادما من الاتجاه المعاكس، وإذا رغبت في استمرار مواجهتها فعلىَّ أن أسير بظهري في يوم الحشر هذا، والمهمة مستحيلة، وعلى فرض حدوثها لعدة أمتار، فسوف أخرج من السوق إلى المستشفي بعد علقة تاريخية يشارك فيها الجميع وإذا تعرف علىَّ أحد من القراء أو الزملاء فسوف تنشرها الصحف.
لا تروقني حركات هذا الشاب. فهمته من اللحظة الأولي.. إن قل حياءه سيكون نهاره أسود من قرن الخروب.. أقنعت نفسي بعدم التعجل لكني أعرف أمثاله.. الصندل جاهز فى رجلي.
توقفت أمام بائع ملابس داخلية.. وقف.. يبدو أن اللحظة المناسبة قاربت لأجعله يفيق.. مددت يدي وأمسكت بكلوت بمبي، دائرة على حروفه كلفة حمراء.. فحصت قماشه بين السبابة والإبهام.. لاحظت أنه ابتعد.. لم تعجبني القماشة اللامعة. كله بوليستر. أمسكت “كلوت” أخر عبارة عن شبكة مع ثلاث وردات حمراء.. واحدة فى كل جانب وفى أسفله وردة كبيرة.. جديد ولكنه لم يعجبني. سألت البائع عن كلوتات قطن.. هز رأسه يمينا ويسارا وبدا كالمخدر.. لا يكاد يري من شقوق عينيه. تحركت فى اتجاه الأحزمة الرجالي والحريمي عند البائع التالي.. كان من يتبعني على بعد ثلاث عربات.. تجاهلته.
ابتعدت عن العربة التي كانت تبيع كلوتات النساء.. سبقتها، حياء من ناحية، ولكي أتمكن من مطالعة الوجه والبشرة الملساء.. الرميل الأخضر خفيف جدا فوق الرموش.. إذا رفعت ستائر رموشها بدت عيونها الجميلة، أهكذا تفعل العيون الجميلة لتحيل عادية الملامح إلى ساحرة.. إن العيون التي في طرفها حور.. قتلننا ثم لم يحيين قتلانا.
أيها الشاعر مع احترامي لحضرتك أنت لم تر عيون يمامتي.. وقفت قليلا عند بائع الأحزمة.. حومت نظراتها على بضاعته في لحظة وانتقلت إلى بائع جوارب النساء وملابسهن، وتحولت على عجل بعد لمحة عابرة إلى الملاءات ومفارش الأسرة.. كانت تحمل على ساعدها الأيسر حقيبة من الجلد البني المحروق، تلتف حولها شرائط صفراء. اجتذبني الطاووس الذي كان يستقر فوق فردة ثديها الأيسر.. لم يمنع المنديل الأصفر المعلق برقبتها والمتجمع في فيونكا على جنب مع تمتع الصدر بحريته.. التايير مفتوح من أعلى قليلا بحيث يسمح للثديين أن يتنفسا ويسمح لنظرات العابرين أن تطل على الهضاب المرمرية ذات اللون الأبيض المحمر الذي يستطيع أن يكوي وأن يلدغ، وقد يحدث للبعض دواراً مؤقتا.. لمحتني فكشرت.
جذبتني أطقم الصيني للسفرة والشاي والكاكاو.. سألت عن الأسعار.. واضح الفارق بين أسعار السوق وأسعار وسط البلد، أرخص بكثير أسعار السوق حتى من العتبة وشارع عبد العزيز، وأذواق جميلة وخامات ممتازة يمكن مهربة حقيقي حسب أقوالهم.. تفحصت جيدا أطقم المعالق الصيني والفرنسي والبلجيكي.. سوف أدعو أمي لمشاهدة كل هذه المعروضات.. غريبة.. لقد كنت هنا منذ عدة أشهر ولم يكن السوق بمثل هذا الزحام.. المجنون لا يتركني لحظة.. لا داعي للشدة معه، لكن لابد من زجره بالنظرات لأن المسألة زادت عن حدها.
وقفت عند عربة التماثيل البرونز والسبح والعقود الكهرمان والمباخر والصواني النحاس. سألت عن الأسعار. فكرت أشتري هدية لرئيستي فى العمل. لعلها تزيد حوافزي. خمسون جنيها عمياء ماذا تفعل مع الغلاء؟.. اشتريت لها صينية نحاس منقوشة بالأرابيسك شغل خان الخليلي.. أين ذهب بائع لعب الأطفال.. ها هو اشتريت دبا.. الولد ما زال يحاصرني بعينيه.. المسألة باخت.
وقفت أمام بائع السكاكين.. كانت مرصوصة بشكل مرعب كل أحجام السكاكين على اختلاف أصنافها وخاماتها، في المنتصف عدة سواطير.. لماذا تتأملها؟.. التفتت إلىَّ.. وصلتني الرسالة. لكنى ابتسمت.. هَّمت بالتحرك.. قلت أكبح متابعتها قليلاً حتى لا تتبرم وتسئ الظن.. ركزت في السكاكين.. في لحظة عابرة، لاحظت أن السواطير المسنونة تحلم ربما للمرة العاشرة برقبة بقرة سمينة، تتمشي على لحمها المكتنز وتغوص، وعندما ارتطمت بعظمة ارتفعت إلى أعلى وهبطت بعزم سلاحها ففصلت تماما وبلا رجعة الرأس عن البدن.
ارتعدت من حلم السواطير وتفكيري العبثي.. تحركت دون وعي وفوجئت بأني أوشك على الالتصاق بها.. هبت فيّ بغضب مكتوم:
ـ وبعدها معك.. صبري نفد
كان في صوتها بحة خشنة لكنها أسرتني وتمنيت أن أستمع إليها باستمرار.. لست أدري لماذا لم أنزعج من غضبتها؟.. أحسست أنها تحافظ على الشكل فقط، وأنها في الحقيقة ليست غاضبة.
عند التماثيل حيث كانت نفرتيتي وحتشبسوت ورمسيس واخناتون وقفت تتأمل فينوس وتمثالها البرونزي.. ما زالت كما كانت منذ آلاف السنين تقف مقطوعة الذراعين. عباءتها توشك أن تنزلق عن الجسد المحموم بوهج الشهوة الصاهل بشوق الانتظار.. هل ثمة علاقة بين ذراعيها الغائبين وحلمها بدفء التحقق الإنساني.. أحسبها تجاوزت محنتها التي فقدت معها الذراعين، ومازالت تشعر وتثق أنها لم تفقد شيئا، وملكاتها ومواهبها لازالت متمتعة بالطاقة الساحرة.. عادت تصب علىَّ نظراتها الساخطة، وتقيسني من أعلى إلى أسفل في احتقار مشكوك في جديته.
اجتذبني المعروض من الملابس والأحذية.. سألت عن الأسعار. مفاجأة بدون شك.. اشتريت بلوزة بناتي لأختي جيهان وقميصا مشجرا لأخي الصغير أسامة وبوتا أسود.. الماكر أصبح فى مواجهتي تماما.. وقف يفحص بربع عين وقليل من الاهتمام ربطات العنق والجوارب والمناديل.. يحسب علىَّ كل نظرة. أشعرني بالارتباك.. الغريب إنه يبدو مهذباً ولا يرتكب ما لا يليق.. لا يلعب بحواجبه ولا يغمز بعينيه، لا يعطي مواعيد بيديه ولا يقترب أكثر من اللازم.. لا يحدق فى جسمي بشهوانية.. عندي إحساس إنه لا يتسلى. أعرف ذلك من عيون الشباب أكثر من أي مصدر آخر.. عيناه غير فاجرتين، والأغرب أنى لاحظت فيهما مع الحياء حنانا وطيبة، لكنه يربكني ويشتت فكري. انشغل لحظة بإشعال سيجارة.. قميصه البني جميل. وشعره الأسود الناعم يعجبني.. أسنانه بيضاء ناصعة ومرصوصة مثل حبات الذرة فى الكوز.. لا يزيد سنه عن ستة وعشرين سنة.. لم أعرف حكايته حتى الآن وماذا يريد منى؟.. هذه المطاردة ليست مجانية.. يكفي ما اشتريته، سأكمل حتى بائعي أسماك الزينة وأرتد عائدة، قد تحدث مشاكل لست مستعدة لها.
اشتريت ولاعة مطلية بالذهب وربطتي عنق وأربعة جوارب، أما هي فقد اشترت قصافة أظافر وبنس للشعر وتوك بلاستيك ملونة مرصوص عليها أرانب صغيرة وجراء وقلوب بيضاء مطعونة بسهام حمراء، واشترت “بوتا” أسود يغطى حتى ما تحت الركبة، واشترت كوفية “كاروهات” أخضر في أصفر كي تتناسب مع فستانها.
لمحتني فابتسمت.. أخيرا ابتسمت وتخلصت من الاحتقار والنظرات الغاضبة والعبوس.
فجأة وبدون أي مقدمات، ورغم الشمس المشرقة التي تفرش الدفء على الجميع. توترت السماء وتقلبت أمعاؤها وارتجت ثم انهمر المطر.
ـ عيب عليكي يا مطرة والشمس طالعة.
هكذا كنا نقول ونحن أطفال عن مثل هذه الحالة الدرامية اللذيذة..
في ثواني كان كل شيء في السوق ما عدا البشر طبعا مغطي بمفارش عريضة من البلاستيك السميك الشفاف، وخرجت على عجل بعض الشماسي من أغمادها في آلية لافتة. انطلق الزبائن يركضون في كل اتجاه. ارتبكت الأقدام وارتطمت الأجساد وصرخت النساء صرخات صغيرة مفزعة ومصدومة، لكن الباعة سرعان ما ضحكوا وتبادلوا النكات والسجائر، وعلى وشيش بوابير الجاز وهمس النار الزرقاء للبوتاجازات الصغيرة التي يسمونها “بومبة” وضعت سخانات الشاي والينسون والقرفة.
فجأة أحسست بلسعة برد كأن الكهرباء انقطعت عن الدفاية، وتساقطت بعض قطرات المطر.. اضطربت.. هل ستمطر كثيرا ؟.. مستحيل.. رفعت رأسي إلى السماء.. لاحظت أن السماء التى فوقنا فقط يغطيها سحاب أسود ثقيل.. وعن بعد تبدو السماء صافية، والشمس ساطعة ونور النهار يغمر الدنيا.. ستكون ورطة إذا أمطرت بكثافة.. ها هى بالفعل تمطر بشدة.. أصابتني حالة مفاجئة من الغضب بسبب جنون الطبيعة.. كيف أعود الآن بهذه الأحمال والسيارات بعيدة والأرض ستغرق وتمتلئ بالأوحال.. فوجئت بالشاب الهيمان يدنو منى ويقول فى لهفة:
ـ ممكن أشيل معاكي ؟
أحتاج فعلا الآن من يحمل عنى هذه المشتريات وأركض سريعاً عائدة. الموقف سيسوء أكثر.. أود أن أسبه لتطاوله.. كشرت فقط فى وجهه.. كان جريئا ولكني كنت فى أمس الحاجة إلى العون.. قلت له فى برود:
ـ مفيش داعي.. ما أنت شايل.
قال برقة: ـ أرجوكِ
مددت يدي بكيسين كبيرين.. عندئذ قال:
ـ يالا نجري لغاية العربية.
تسمرت فى الأرض واضعة كيسا فوق رأسي.. قال:
ـ مفيش فرصة.. أرجوكِ
مددت يدي إليها وحملت عنها أكثر ما معها وهى مستسلمة رغم العناد والمكابرة.. عيناها في عيني كأنها تختبر درجة صدقي ومدي إمكانية الوثوق بي.. قلبي يرقص بين ضلوعي فرحاً بالطبيعة التي تؤازرني.. لم يذهب هباء حبي للمطر منذ الطفولة.. الناس عنا مشغولة.. الدنيا حط عليها جمال غريب ونادر.. تقدمتها فتبعتني حتى أول السوق.. كانت سيارتي الصغيرة هناك مغسولة ومتأهبة لي وللضيفة الجميلة.
المطر الذي بدأ شرسا عازما على إغراق الأرض بدأ يخف ويصفي باقي الأوعية في أناة.. وعندما دخلنا السيارة كان تقريبا قد توقف بعد أن قام بدوره في مكافأتي على صبري وتمام رحلتي التي نفذتها بإخلاص في مرافقة يمامتي الخضراء ذات الكعب المحني.. والتي تقبع في وداعة رائعة في سيارتي المتواضعة.
أنا أكثر منه جنوناً. بل أنا المجنونة التى استسلمت له وقد نزع بكل بساطة أسلحتي، وحمل عنى بعض ما أحمل وسبقني إلى سيارته. الأغرب أني أسرعت فى أعقابه كأنه أخي أو زوجي ونسيت أنه شخص غريب. لا. لم أكن أجري لأنه أخذ عني الهدايا، لكني كنت أهرب من المطر والورطة والحيرة. كنت مضطربة.. فماذا لو رآني أحد أقاربي وأنا مجرورة إلى هذا الشاب الغريب؟.. ماذا يمكن أن يقول؟.. عزمت ألا أدخل السيارة.. سأرفض بشدة. أي سيارة أجرة يمكن أن تقلني إلى البيت. نعم. فتح لي الباب وقال: تفضلي.. سيارة بيضاء. كانت تبتسم وتمد لي يديها، والباب إلى نهايته مفتوح وبدا الكرسي مريحاً ودافئاً.. طفلة صغيرة تتدلي من المرآة الأمامية.
بمنتهي الرقة قال: ـ أرجوكِ
فكك كل أعصابي وأسال إرادتي.. قضى تماماً على قراري بعدم الركوب معه.. يارب ما كل هذا السحر فى كلمة: أرجوكِ!! وما كل هذا الحنان فى الطريقة التى نطق بها الحروف.. هذه الدنيا التى لا تساوي عند الله جناح بعوضة، تساوي أغلي كنوز الأرض إذا كان رجالها بهذه الرقة.
كانت كلمة “أرجوكِ” وهى تتهادي وتنحني وتتلوي خارجة من فمه كأنها معطف من الفرو أرتديه فى عز الشتاء، وكانت سريرا من الحرير أتمرغ عليه فى عز الصيف.
أغمضت عيني لحظات حتى أختبئ من نفسي اللوامة.. قررت أن أصبر حتى ألملم شتاتي المبعثر فى كل اتجاه، ثم أذهب بمنتهي الحسم.
كنت قد عزمت أن أتحدث إليها قليلا ونحن جالسين فى سيارة متوقفة لكي أعرفها بنفسي وأسألها عن نفسها، لكني خشيت أن تكتشف انقشاع الغمام وتوقف المطر، فأدرت السيارة وانطلقت، ثم أخذت نفساً عميقاً لأفرغ روحي وأمهدها لمرحلة تالية.. أخذت تسوي شعرها وتنفض حبات المطر البللورية عن رأسها وصدرها.
ناولتها جاكتا صيفيا كان على الكنبة الخلفية، طلبت منها أن ترتديه.. رفضت.. قلت لها: أرجوكِ
نظرت إلىَّ بدهشة ورضا.. ثم مدت يدها فى تردد وأخذت الجاكت.. ساعدتها على ارتدائه.. سألتها بعد لحظات:
ـ إنت دفيانة ؟.
هزت رأسها وتنهدت وهى لا تزال منكمشة.. مضينا نتبادل الحديث الذي يزرع حديقة كاملة بالسعادة، وسطحا عامرا باليمام.. ما أجمل تلك اليمامة التي أهدتها إلىَّ العناية الإلهية !.
عندما حط فوق كتفي جاكتا خفيفا ذا لون غريب نسبيا إذ صممه فنان مجنون ألقي بفرشاته لطشات صفراء بلا ملامح محددة على أرضية بنية، قال لي: إنت دفيانة.
لم أجد الكلمات.. فى الحقيقة وجدتها، لكنني لم أستطع النطق بها. اختفي صوتي وتعثرت حنجرتي وشعرت بالظمأ. هززت رأسي شاردة.. كان الماكر قد قضي علىَّ.. لكني تذكرت السيدة عائشة.. جارتي الملهمة.. قلت فى أعماقي وأنا أشعر بالنشوة: بركاتك يا ستنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى