غازي سلمان - " الحمامة "* : الحقيقة في رمزية المخيف

عَمد الكاتب الالماني باتريك زوسكند الى تبني الشخصية الواحدة ” الميلودرامية” في روايته القصيرة(الحمامة ) الصادرة عام 1988 ، ما منحه حرية التركيز على هذه الشخصية باعتبارها محور عمله وان يدير الحبكة بقليل من الاحداث الجانبية وبعدد اقل من الشخصيات التي تظل هامشية، بأسلوب سردي قائم على التكثيف والاختزال في الصياغة وبلغة تتميز بدقة معرفية وجمالية ، مستعينا باستبطان العالم الداخلي للبطل والافادة من فاعلية تياري الوعي و اللاوعي في البوح والاعتراف واستدعاء بعض من ذكرياتها من خلال الهذيان والتداعي الحر في تعرية الذات ، فضح هشاشة علاقتها بما يحيط بها، و خصوصا فيما يتعلق بتعايشها المستمر مع عقدة الاضطهاد لأنه من اسرة يهودية (على ما تبين) ،نالت نصيبها من شوفينية النظام النازي في معسكرات الاعتقال .فحين عاد بطل الرواية “جوناثان نويل” اليافع ، من صيد السمك الى البيت وهو يخوض مستمتعا ببرك الماء المتخلفة من المطر عصر يوم من تموز عام 1942 ، متوقعا ان يجد امه ،لم يجد سوى مئزرها المعلق على الكرسي الامر الذي سلب منه تلك المتعة التي سوف يستعيدها وهو في الثالثة والخمسين من عمره ،ويبدو ان شعوره المتلازم بالاضطهاد بعد حادثة الاختفاء القسري لامه ومن ثم لوالده ، احد الاسباب الرئيسية في نزوعه الى الانطواء والعزلة والى الالتزام المنضبط الصارم في سلوكه كفرد مهادن دائما ،ميال للرتابة ،متخوف من المفاجآت و الكاره للفوضى ، إتقاءا لشرور الناس، وهي الرغبة الوحيدة التي يتوق الى تحقيقه:

(قال له الاب ان الام ذهبت . وقال الجيران انها أُبعدت، وانها نُقلت بداية الى فيليدروم ديفير، ثم شُحنت الى معسكر درانسي ، الذي تؤدي دروبه الى الشرق حيث لا يعود احد بعد … وبعد ايام عدة اختفى الاب ايضا) الرواية ص6

كان الكاتب حاذقا حين استطاع ان يسرد حياة ” البطل ” كاملة في سطور قليلة ، وفي غضون يوم واحد ،هو زمن الرواية كله ،بدءا من استعراضه لطفولته وشبابه ابان الحرب العالمية الثانية وانتقاله للعيش مع عم له بعد فقدانه لوالديه ، ثم زواجه بشكل مهين حسب اختيار و أوامر ذاك العم، متأملا من الزواج السكينة والانطواء بعيدا عن اية احداث لكن زوجته تتركه هجرانا هي الاخرى بعد عدة اشهر من زواجهما مع تاجر خضار تونسي ، حتى يرتحل الى باريس وهو الذي لم يجرؤ قط على أن يتخذ قرارًا بشأن يخصه، إلا بعد ان شعر انه خذل فعلا وتيقن من : ” أن الناس لا يمكنه الوثوق بهم ، وأن عليه إذا أراد الهدوء و السلامة أن يبتعد عنهم “. حينئذ نلتقي بـه وهو في سن الثالثة والخمسين ،يسكن شقة احبها لأنها اشبه بجزيرة نائية عن عالمه الجائر المتقلب ، و يعمل حارسا في مصرف بباريس ، وهي المهنة التي تأكد له انها ضيّقت كثيرا من مساحة الاحتكاك بالأخر ، لكنه وفي لحظة اكتشافه لحمامة تحط امام عتبة باب شقته وهو يهم بالخروج صباحا الى عمله ادرك و لأول مرة في حياته ، ان نمطية حياته سلوكا وتفكيرا ومشاعرا قد تعرضت الى زلزال اهتز له توازنه الداخلي و بانَ هزالُ نسيجه، محدثا شرخا في ستره الذي يتحصن فيه لدرء تدخلات العالم الخارجي ، ادرك فعلا ان نمط عالمه الذي حافظ عليه طيلة اكثر من ثلاثين عاما كاد ليستمر في نعيم ركوده ،لولا ان القى حادث وجود تلك الحمامة الحصاة فيه على غير ما يتوقع ، فلم يكن يتخيل ان يحدث اي طارئ مهم سوى موته هو . لقد تَهَدّمَ بُناه النفسي الذي انفق عقودا من عمره في تشييده ، تجنبا لأي فوضى من احداث مارقة ، فمثل هذه الفوضى تكمن فقط في ماضيه البعيد ، ابان طفولته وشبابه والتي لم تعد لديه رغبة في استعادتها كفعلٍ ، او تذكر.

استطاع الكاتب ان يوظف هذا الحدث ” المفزع ” سردا للمنولوج الداخلي للبطل المضطرب بانثيالات المخاوف والوساوس جراء هتك العالم الخارجي لحصون حياته التي تستقوي بالانطواء، فكان عليه ان يرتدّ بعد صدمته لمرأى الحمامة ويلوذ بغرفته ، صومعته ، لأنها تسّور طمأنينته ،وانها ” الكائن ” الوحيد الذي يمكن ان يثقَ به ، ليحيل نظام معيشته فيها ،عاداته وعلاقته الحميمة الميكانيكية بموجوداتها ، الى افعال فوضوية لم يتخيل يوما انه سوف يقوم بها :

(من المرعب التبول في حوض جميل ،ابيض ،نظيف ،لم يتصور انه سيهبط الى مثل هذا الدرك.”هي هذه المرة فحسب “وكأنه يعتذر من حوض الغسيل ،من الغرف) الرواية ص17

واذ يشعر “جوناثان” انه حوصر عميقا داخل نفسه ، وانه ربما يذهب إلى السجن إذا اطلق الرصاص عليها ، وانه ربما ينتهي هنا بجلطة دماغية ، وما هو ازائها الا مجرد كهل لا يرتجى منه ما يفيد في الخروج من محنته ، فلا بد من ان يخطط للخروج من قمقمه ، ومن غرفته التي بدأت تضيق ،لكن عليه ان يتحاشى ذلك الكائن المخيف ، الحمامة، بأرجلها الحمراء ذات المخالب وريشها الرمادي الأملس والتي تكاد ان تقتله دهشة او خوفا، أن تسجنه في غرفته حتى نهاية عمره . واذ نجح فعلا في تنفيذ عملية الفرار شعر وكأنه انتصر، وان كان ” مهزوما ” امام ذلك الكائن القذر ، الذي جَعَلَه يرتدي ملابس الشتاء كلها في يوم صيفي قائض ، و إن تخلى عن حبيبته ، غرفته ،التي أمِن اليها طوال ثلاثين عام .

في اول وقفة له على موضعه كحارس للمصرف بعد فراره من غرفته ، ينفرط عَقد حبّات افكاره القليلة الذي كان متماسكا حتى قبيل لحظات ، انفصلت مكوناته منجذبة بتسارع نحو الفوضى المحيطة بمكانه ، لم يستطع بصره التوقف لحظة ليرى تفاصيل المشهد امامه ، بل راح يرى جزءا صغيرا من كلية الشيء و ما يلبث ان يضيع في تلك الفوضى لتلتقط عيناه شيئا اخر ، او بالأحرى تتعثر بشيء اخر ، وهذا ما لم يعتد عليه ” جوناثان نويل” المكتفي بمشاهدة ما يحتاجه في عمله فقط ، ابواب المصرف ودرجات السلم وسيارة مديره . فيما العالم الذي كان يتحاشى النظر اليه او الانضمام له اصبح الان اكثر اتساعا وتنوعا وضجيجا ، فأشعره بالدهشة والخوف حتى افقده القدرة على تأدية عمله الروتيني الرتيب الا بمشقة ، لكنه بقي واقفا بقليل او بكثير من تماسك الجسد، بالرغم من كل هذا الصخب المحيط ، والافكار التي تتلاطم في ذهنه ، وتخيل ان الموت ربما يغافله على حين غرة ، ربما يمرض الان او ان يضحى متشردا.

لم ينفك الكاتب من مصاحبة بطله في دوامة الهروب والنفور من الاخرين ، منزويا في قوقعة الخوف والتوجس ، و في بحثه المحموم عن اعادة الانسجام مع عالمه الخارجي الذي افتقده قبل ساعات دون جدوى ليأتي مشهد الرجل المتشرد الذي يجلس بالقرب منه في تلك الحديقة والذي يعرفه جوناثان جيدا منذ ثلاثين عاما ، ليجسد امامه كنه وجوده هو ، لكنه الساعة يغبطه بل يحسده :

(فبينما على جوناثان ان يؤدي خدماته يوميا في تمام الساعة التاسعة ، كان المتشرد يقبل في العاشرة او الحادية عشرة مترنحا ، بينما على جوناثان ان ينتصب في وقفته، كان ذلك يسترخي غير عابئ على قطعة كرتون و يدخن فوق ذلك . بينما على جوناثان ان يحرس بنكا ) الرواية ص42

الا ان مشاعر الغبطة والحسد لم تستمر طويلا حين يتمكن ذهن جوناثان من قلب الصورة ،صورة المتشرد المسترخي الكسول المنسجم تماما مع نفسه وعالمه الى صورة رجل “محتاج ” لان الحاجة بالنسبة لجوناثان هي ما يحدد معنى الحرية، فهو:

(يكسب كل قرش بجهوده وشراء كل ما يلزمه بنقوده ، زاهدا، نظيفا دقيقا في مواعيده ، ولم يستدن قط نقودا( الرواية ص47

غير ان الامر ينسحب ايضا على فعل بسيط ، تافه حين يتذكر “جوناثان” انه شاهد المتشرد في يوم ما من اواسط الستينات ، قابعا بين سيارتين بجوار حافة الرصيف يقضي حاجته ، فتلاشت كل مشاعر الغبطة والحسد في نفسه ازاءه فقد كان قد توصل الى عرفان :

)ان جوهر الحرية الانسانية يكمن في امتلاك مرحاض مشترك(.الرواية ص45

ولأنه يمتلكه فانه أحس بلذة الحرية الجوهرية (!). وأدرك الفرق في الشعور بالطمأنينة بين من يتغوط في الشارع كاشفا عن عجزه! و بين مَن يتأكد مِن خلو الحمّام من شخص ما، بين من يتغوط وينام في العراء وبين من يدلف الى غرفته، صومعته ويحكم اغلاق بابها . منذ الان لن يكون نمط حياة المتشرد تجسيداً استفزازياً لجاذبية الحرية وسحرها ابدا حسبما اعتقد “جوناثان” . انه يرى الان صورته المعاكسة التي رسمها لذاته ويعي معناها. اضحت صورة المتشرد حصاة ثانية تلقى في بحيرة حياته، بعد حصاة حادثة الحمامة، بفارق ان الثانية القيت في مياه مضطربة بينما الاولى كانت في مياه ساكنة.

ان تفاهة المخيف في – رمزية الحمامة – لدي “جوناثان” انما يكمن في المخيف الكامن في شخصيته لهذا يستمر “جوناثان” في خوفه لان دواخله باتت مشرعة امام الخوف من “الحمامة” التي تركها وراءه عند باب غرفته لكنها مازالت تنقر جدران طمأنينته الهشة تنسخُ مخاوفَ اخرى في داخله ، ليكون تمزق بنطاله حين كان يتناول غداءه في الحديقة ، خوفا ” تسلسليا”، لا يقل رعبا عن وجود الحمامة ، فيتعاظم خوفه ،هواجسه ووساوسه لأنه اصبح مبعثا لأثارة انتباه الاخرين ،ان يكون تحت انظارهم وهذا ما يزعجه :

)كأن ما تمزق ليس بنطاله ، كأن شرخا عميقا جرى في ذاته ، في المقعد، في الحديقة ، كفلق احدثه زلزال ، وتصور ان الناس المحيطين به قد سمعوه ولا بد ، هذا الـ – زيق – المرعب ويصبون على مسببه جوناثان ،نظرات استغراب من فعله الشنيع ( .الرواية ص51

هذه الحادثة التي الزمته التحدث الى الخيّاطة ، مع مشهد المتشرد المقزز الذي استذكره ” جوناثان ” اضافة الى تمسكه بجزئيات سلوكية اخلاقية ينبغي عليه الالتزام بها مثل نسيانه لعلبة مشروب فارغة على مقعد الحديقة و غفلته عن سماع صوت سيارة مديره في حينه ومرأى الاخرين وهم يؤدون اعمالهم نادل المقهى والزبائن ، سائقي سيارات الاجرة ، ورواد الحديقة التي كان يجلس فيها ، كل تلك المشاهد وغيرها قد خلقت حالة من المقارنة الصادمة بين شخصه الملتزم بواجباته الاجتماعية وتأديته لعمله بدقة متناهية ، حتى انه عاد ليتفقد مكانه في الحديقة لمعالجة ما ظنه “خطأ فادحا ” ليرمي العلبة الفارغة في سلة المهملات ، ومن ثم تأنبيه لنفسه بما يشبه جَلدَه لذاته لأنه اغفل سماع سيارة مديره وتأخر لحظات عن اداء واجبه ، وكذا انتقاده لسائقي السيارات الذين يتسببون في الضجيج والتلوث ، وذلك النادل الذي يستحق الرفس، لأنه يستغل الزبائن ، الاغنياء الذين يسترخون ويشربون المشروبات بالغة الغلاء، بهذا يكون “جوناثان” قد اكتشف العالم الخارجي من جديد ، نشأت علاقة جديدة مختلفة بينهما .و انّ موقفا مغايرا تم تبنيه من قبله . لقد انتهك فعلا حدود عالمه الداخلي متجاوزا ذاته التي بدأت بالانفتاح على محيطها الخارجي، لكنه بالرغم من تمني الاقتصاص منهم بتطرف ، لا يستطيع تنفيذ ما تخيل من رغبة في القصاص من الاخر لانه :

جوناثان الذي صاغ في روحه جمل الوعيد والتهديد الشرطية المرعبة، كان واثقا في اللحظة ذاتها ان لم يتمكن قط من تحقيقها لم يكن ليفعلها، لم يكن يصاب بمرض الاموك ، لم يكن ليرتكب جريمة بدافع الحاجة النفسية ) الرواية ص 64

كذلك ان هكذا جريمة تبدو دائما بشعة من وجهة نظره، انه ليس رجل الفعل، بل مسالم دائما مهادن ومتمهل جدا.

ان تحرير ذاته من شرنقتها العتيقة المتحصن خلفها لأكثر من ثلاثة عقود، وما اثار فيه قصف الرعد والعاصفة من هاجس مرعب معتقدا بانه الكائن الوحيد الناجي بعد نهاية العالم ، منحه القدرة على مواجهة ذاته التي ترتهنه في عمقها، شعر لأول مرة في حياته بالحاجة الاخرين كي ينقذوه ، ينتشلوه من وحدته مناجيا :

)الهي ، اين هم الاخرون ؟ لا استطيع الحياة دون الناس الاخرين، كاد ان يصرخ اراد ان يصرخ بجملة انه لا يستطيع الحياة دون الناس الاخرين في وجه السكون الى هذا المدى بلغت حاجته الى هذا الياس بلغ خوف الطفل العجوز من الاهمال(. الرواية ص75

لقد ايقضه صوت انفجار الرعد والبرق من سباته فتمزقت حصون دواخله ، ليعود إلى غرفته الانيسة الرحبة ، عشيقته ،التي تنتظره كـ “جوناثان” اخر وقد اغتسل بقطرات المطر خائضا ببرك الماء، حافيا مستعيدا متعته الطفولية التي سلبتها حادثة اختفاء والدته .. متخيلا عيون الحمامة المروعتين ، ” ستطير الى الاعلى بخفقة جناح وتلمسه بجناحها ” لكن الممر الى غرفته الان خاليا والحمامة قد اختفت ، لا ريش و لا زغب يرتعش على البلاط الاحمر.

بالرغم من عدم ذكر الحمامة في الرواية الا لمرات نادرة، الا اننا ندركها محلقة في فضاء الروي ، تستهدف يقين قناعتنا بوجودها فعلا في الممر امام باب غرفة “جوناثان نويل” ، مع الايحاء لنا بأنها ربما كانت موجودة اصلا في لاوعيه الذي اطلقها في لحظة مناسبة من أُخريات عمره، مرتجيا او مطالبا بتغيير نمطية حياة البطل المسورة بالانطواء وعدم الثقة بالأخرين . ليمس باتريك زوسكند في ” الحمامة ” كينونة الوجود الانساني ، ينفذ الى دواخل الشخصية كما في روايته الاخرى “العطر” باحثا عن النقيض الاخر المختبئ في أعماق الانسان
------
* رواية الحمامة للكاتب الالماني باتريك زوسكند ترجمة كاميران حوج -الطبعة الاولى – 2007منشورات
download.jpg
download.jpg الجمل
غازي سلمان
بغداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى