شهادات خاصة حسن بيريش - محمد شكــري كما عرفته.. إدريس الخوري تخلى عن صداقتي، وبوزفور أفضل كاتب قصة في المغرب (15)

محمد شكري

ــ ما يحدث في العراق كارثة :

في أوج تلقي العراق ضربات الولايات المتحدة، اتصلت بشكري لتحديد ميعاد لباحث جامعي يرغب في إجراء حوار معه· وافق· حدد لنا موعدا في (الريتز)، حين التقيناه، بادرنا قائلا:
ــ عذرا، لا يمكنني الحديث عن كتاباتي، في وقت يُضرب فيه الشعب العراقي بالقنابل الأمريكية ـ البريطانية· ما يحدث في العراق كارثة· كارثة حقيقية·
غادر الباحث· سألني شكري باهتمام:
ــ ألم تكتب شيئا عن العراق؟
ــ كتبت قصيدة قصيرة منذ أسبوعين·
ــ إقرأها عليَّ·
أقاليم الجنون
بين خيام الموت يعسكر الأنين بجحافله
يُغتال الظمأ في قعر الورد
تشيخ السنديانة السامقة في هدأة البياض·
ويرحل البوح إلى أقاليم الجنون·
* * *
بين الماء والريح، بين النار والرماد
يذوب الصقيع مطرَّزا بشغب غسقه
آهٍ من ليل نحيل يلعق دمي
يتغذى من لهاثي المقدس
يسقط قناع عريي المعتقل بالشروخ
وينكأ جرحا لعينا يأبى الضماد
صورك جميلة· لكن لغتك أجمل ـ قال شكري·
ــ للسن حساباته:
ــ قلت لمحمد شكري، ونحن نعبر الطريق إلى الرصيف الآخر حيث مبنى البريد:
ــ قرأت الحوار الذي أجراه معك خافيير فلانزويلا في (الباييس)·
ــ هل أعجبك؟
ــ نعم، إنه يتضمن آراء جديدة لم تصرح بها في حواراتك السابقة·
دخل إلى مبنى البريد· دقائق ثم خرج· لم يجد في صندوق بريده أية رسائل أو طرود· في الطريق إلى بيته· سألته:
ــ أصحيح أنك ضاجعت َ تسع نساء في يوم واحد؟!
ألقى عليَّ نظرة فاحصة:
ــ من قال لك هذا؟
ــ أنت قلته للصحافي خافيير فلانزويلا في···
ــ (مقاطعا) آ·· تذكرت · نعم· حدث هذا عندما كنت في العشرين من عمري·
ــ أما زلت َ تمارس الجنس؟
ــ على فترات متباعدة· للسن حساباته· عندما كنت في مثل سنك· كنت أضاجع النساء في النهار· وأستمني ليلا! كان جسدي قويا· وكانت الرغبة جد مشتعلة·
أمام مقهى (روكسي)، قال لي ضاحكا:
ــ أنت تحمل معك مهنتك أينما كنت ·
ــ لم أفهم·
ــ تصر على أن تنتزع مني حوارا حتى ونحن نسير في الشارع!
ضحكنا· تذكرت ما قاله شكري في كتابه "بول بولز وعزلة طنجة": "كم أكره من أن تستمر معه مهنته أينما حل!"·

ــ منظر هذا الأنف:

كنا جالسين، ذات ظهيرة، في (الريتز)· دخلت امرأة تعدت الثلاثين· جميلة· جسدها بتفاصيل ناطقة· تلفتت بعينيها بحثا عن شخص ما، وقفت عيناها عند وجه شكري· أخذت تفحصه من تحت إلى فوق· بينما هو يبادلها نظراتها مسندا ذقنه إلى كفه اليمنى· ابتسمت· حيتنا بهزة من رأسها· ثم انصرفت ·
قلت لشكري:
ــ يبدو أنها تشبهك بأحد تعرفه· وربما رأت صورتك في مجلة أو جريدة، فأرادت أن تتأكد من ذاكرتها البصرية·
ــ أو ربما أثارها أنفي المعقوف، وأشفقت على نحولي!
ضحكت · أضاف ساخرا:
ــ كلما تطلعت إلى وجهي في المرآة· يضحكني منظر هذا الأنف!
(يشير بسبابته إلى أنفه)·
جاريته في سخريته:
ــ أنفك معقوف وليس طويلا· هذا من حسن حظك السي محمد!
ــ من حسن حظي؟! كيف؟
ــ على الأقل أنت نجوت من هجاء الشاعر للأنوف الطويلة:
لك أنف أنفت منه الأنوف
أنت في البيت تصلي وهو بالكعبة يطوف!
انفجر شكري ضاحكا حتى دمعت عيناه، وانتابته نوبة سعال·
ــ شخصية رائعة:
زرته في (الريتز) صحبة الكاريكاتوري عبد الغني الدهدوه· وجدنا معه يحيى بن الوليد، إدريس علوش، ورشيد الوطاسي· قدم له الدهدوه رسما كان يحمله معه:
ــ رسمت لك بورتريها متواضعا· يسعدني أن تقبله هدية مني·
تأمل شكري الرسم بإمعان· قال ليحيى بن الوليد:
ــ شيخوختي اللعينة لا يراها جيدا إلا الفنانون·
ابتسم يحيى· هز رأسه موافقا· التفت شكري نحو الدهدوه:
ــ أشكرك· هذا بورتريه جيد· سأضعه في غلاف أحد كتبي القادمة· أعدك بذلك·
ودعناه· سأل الدهدوه:
ــ كيف وجدت محمد شكري؟
ــ تلقائي· منطلق على سجيته· متواضع· شخصية رائعة·

ــ السم في العسل!

سألت عنه في (الريتز)· قيل لي: "لم يأت بعد"· تلفنت له·
قال: "أنا في بيتي، تعال إن شئت "·
أعصابه متوترة، يبدو جد منزعج· وضع ملعقة من العسل الحر في دانون، قدمه لي:
ــ لا أملك في البيت بنا ولا شايا· سوف يعجبك هذا المزيج· إنه لذيذ ومفيد صحيا·
أشعل سيجارة، نفث ذخانها بغيظ:
ــ هل قرأت ما كتبه عني إدريس الخوري في جريدة "القدس"؟
ــ لا· ماذا كتب؟
التقط الجريدة من على المنضدة· أخذ يقرأ بصوت مرتفع· يتوقف عند بعض العبارات والجمل· يعلق: "هذا خطأ"، "ما قاله هنا غير جائز"، "الخوري يتحول إلى واعظ: هذا يجوز، هذا لا يجوز!"، "الخوري يشن هجوما ضدي، لكنه يعرف كيف يغلف هجومه بكلماته المادحة!! السم في العسل!"·
طوى الجريدة، وضعها جانبا، قال في أسى:
ــ بهذا الذي كتبه تخلى الخوري عن صداقته لي· بدوري سأتخلى عن صداقتي له·

ــ الإنسان جد هش:

ضغطت على الجرس، انفتح الباب، ابتسامة شكري واسعة، مرحبة:
ــ آ·· أهو أنت ، تفضل·
هدوء شامل يخيم على البيت ، كتب متراكمة هنا وهناك، ملابس بعضها معلق على المشجب، وبعضها ملقى على أريكة في البهو· رائحة عطر (ديودرون) ملأ جو المكان· جلسنا في الغرفة الصغيرة· على المائدة زجاجة نبيذ· علبة سجائر، علبة (كلينكس) كبيرة· أدوية مختلفة، ساعة يد، ونظارة سميكة·
أشار شكري إلى جنبه الأيسر:
ــ منذ يومين وأنا أشعر بألم حاد في إحدى كليتي· زرت طبيبا تربطني به صداقة قديمة، أعطاني أدوية لتسكين الألم، ونصحني بالتوقف عن الشراب· الإنسان جد هش·
ــ أعرف أنك ترفض تلقي النصائح من أي أحد· لكن ينبغي أن تستجيب لتعليمات الطبيب· عدم استجابتك يعني مزيدا من الألم·
ــ صحيح ما تقوله· إنني لا أستطيع التوقف عن الشراب· ما أستطيعه هو التقليل منه·
كان معي "النظر في الوجه العزيز"· ألقى نظرة على الكاتب:
ــ قرأته منذ سنوات ، أيعجبك أحمد بوزفور؟
ــ نعم، أقرأ له باستمرار· وأنت ؟
ــ بوزفور أفضل كاتب قصة في المغرب·
ــ ما الذي يعجبك في كتاباته؟
ــ لغته الشاعرية، بوزفور أرقى إبداعا من بعض الكتاب المغاربة، الذين يوظفون في قصصهم جملا جاهزة· مثل: "لم يكن له في الأمر يد"، "نظرا لأن"، "خصوصا وأن"· هذه لغة تقريرية، إدارية، مبثوثة الصلة بالأدب·
ــ أنت تفصل بين الإبداع باللغة، والإبداع في اللغة·
ــ نعم، الإبداع في اللغة، هذا هو الأرقى، المبدع الحقيقي يرتفع باللغة إلى مستويات تعبيرية جد مبتكرة· التعامل العادي مع الكلمة يسقط الكاتب في فخ التعبير الجاهز·
ــ كتابة فقرة واحدة كانت تستغرق من أرنست همنغواي الصباح بأكمله·
ــ وكذلك سارتر، لورنس، تولستوي، عزرا باوند، أراغون، فتجرالد، أدونيس، الطيب صالح، وعبد الرحمن منيف·
ــ ومحمد شكري أيضا·
ــ نعم، أنا أتأمل كثيرا، ولا أكتب إلا قليلا، يستهويني التعبير الذي يختزل التجربة في جملة أو جملتين· لا أشرع في الكتابة إلا وأنا محاط بالقواميس· الدقة في التعبير لها أهميتها، وأهم منها التعامل مع اللغة كإبداع وليس كتفسير أو تبليغ·



8/24/2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى