محمد ناصر المولهي - العادة الشهريّة الجديد

لن أنتظركِ أيتها الحافلة التعيسة، طيلة شهر ناقص، أسبوعا على ما أتذكر، جعلتِ من عمودي الفقري حبات مسبحة منفرطة، أعرف أنني سأعود إليك بعد أيام، لكن اليوم هو يومي، يوم القبض على المرتّب الذي لاحقته شهرا كاملا كما يلاحق سلوقيّ لاهث أرنبا بريّا. إنّ ثقل النقود في جيب سترتي الكشمير جعل قامتي أكثر استقامة، أمشي بثقة برجوازيّ، وأمرّ بين الأنهج على مهلٍ، لست أفرّ كعادتي من واجهات المحلاّت ورائحة الفتيات النضِرات، أقرع حذائي على الأرض في خطوات منغّمة، ولا أصدّق كيف توقفت عن تذمري المتواصل من كلّ شيء تقريبا، حتّى أنّني لم أتذمّر من ثقل أكياس المشتريات التي تتدلّى في يديّ كحبليْ أرجوحة، لقد اشتريت لنفسي قارورة نبيذ ولم أنس حلوتيّ اللّتين تركتهما في المنزل طبعا.

“تاكسي… أنا قادم يا حبيبتيّ”.

فشلت محاولات السائق في اختلاق مواضيع محادثة بيننا، كنت أفكر في ضحكة سارة الواسعة وهي تقبّل دميتها الجديدة، وفي ليلة مفعمة مع حبيبتي، فقد كان يعودني وهج الحب ليتملّكني أيام قبض الرّاتب لكنّه سرعان ما ينحدر إلى الخفوت منتظرا راتب الشهر القادم، حتّى أنّ زوجتي شبّهت مرّة حبي لها بالعادة الشهريّة.

صعدت الدرج، بخفّة سنجاب رغم ثقل الكيسيْن، لم أكن أرغب في قرع الجرس، وأردت أن أفاجئ حلوتيَّ، فأقحمت المفتاح في القفل بلطف لص. ثمّ فتحت الباب برويّة ودخلت الصالون، كان مُنارًا فقط بضوء التلفاز الموضوع في حالة الصّمت، المنزل غارق في سكون غريبٍ حقّا، توغّلت ناحية المطبخ لكنّني لم أجد أحدا، ناديت: “سارا”… “وفاء”. وما من مُجيب، إنّها السادسة مساءً يجبُ أنْ تكونا في المنزل الآن، لكن ليكُنْ ربّما خرجتا لقضاء حاجة ما، أخذت هاتفي واتّصلت بجوّال زوجتي، فكان رنينه أوّل ما جرح الصمت المطبق، تتبعت صوت الرنين فتأكدّت أنّه قادم من غرفة النوم.

“آه منكما يا حلوتيّ أتنامان في هذا الوقت!!؟”.

دخلت الغرفة في مشية مرحة، ولكنّني لم أجد أحدا، فقط كان الهاتف موضوعا على طاولة الخشب الصّغيرة حذو السّرير. عندها سلّمت بأنّهما خرجتا لاقتناء شيء ما، وسيعودان بعد قليل إن لم أقل لحظات، رجعت إلى الصالون، وجلست على الكنبة أشاهد التلفاز، وأنتظر جميلتيَّ وكأنّهما مسافرتان منذ سنوات، مرّت الدّقائق وكلّما تقدّمت كانت تثقُل وكأنّ تعبا يصيبها ويستحوذ عليها بينما رأسي موزّع بين التلفاز والساعة المعلّقة على الجدار، حتّى أننّي كنت أرفع عينيّ لقراءة الوقت مرتين في الدقيقة الواحدة. مرت ساعة بشق الأنفس وكأنّها سنتان أو ثلاث لسجين ينتظر الإفراج عنه، أطرافي كلها تتحرك دون توقف، وبدأ القلق يتسرب من قلبي إلى أصابعي التي كانت تنقر على الجانب الخشبي للكنبة كمناقير فراخ جائعة في العراء، أين هما تلكما الإوزتان؟ ألم تفكر وفاء في حمل جوّالها؟ آه تبا لغبائها، يبدو أنّ ذكاءها يتضاءل كلما ابتعدنا عن ذكرى زواجنا سنة إضافيّة، ثمّ كيف لتلك المرأة أن تحمل طفلتها ذات السنوات الأربع وتخرج بها في مساء ديسمبر البارد هذا؟

آه إن بقيتُ هنا ستهشّم الأسئلة والظنون جمجمتي، سأخرج للبحث عنهما ربما كانتا قريبتين، أوَ يعقل أن يكون قد ألمّ بهما خطب ما؟ لا لا حبيبتي وفاء امرأة نبيهة، أيكون حادث سير أو “براكاج” مثلا لا يفرّق بين نبيه أو كبير أو صغير؟ تبّا لدماغي الذي اجتهد الآن في تمثُّل سيناريوهات متتابعة مثل آلة هوليووديّة نشطة، سوف أخرج للبحث عنهما، نعم سأخرج.

نسيت أن أرتدي معطفي، إنها السابعة والنصف مساء الآن، كان يوم سبت حيث يملأ المخمورون شوارع المدينة، وتتزاحم السيّارات المجنونة لبعض المهووسين، وربما قد لمحت السماء أنني دون معطف فخفّضت أكثر في درجات الحرارة، وأخذت ترش قطرات من المطر تحملها ريح متسللة من ثلاجة عملاقة، ها أنا أعود إلى تذمّري، طيب فلأنْسَ البرد والمطر والمخمورين، أين يمكنني أن أجدهما؟ رحتُ أفلّي الشوارع في خطوات سريعة محوّلا عينيّ من محل إلى آخر ومن شارع إلى شارع، ما مرّت امرأة ممسكة بيد ابنتها إلا وركضت ناحيتها، ورحت أتفحصها كالمجنون، حتى أن إحدى السيّدات كالت لي كمّا من الشتائم وتوعدتني بأن تأتيني بزوجها، فلتذهب إلى الجحيم هي وزوجها ذكر البط، ساعتان وأنا أهرول كالمجنون من مكان إلى آخر، ولا أثر لهذه الغبيّة زوجتي، ما أرهقني علاوة على ترهل عضلاتي المنكمشة جراء كرسي المكتب، هو دماغي الذي لم يتوقف عن إنتاج أكثر الأفكار سوادا، ربما أعذر هذه الآلة المبرمجة فطيلة خمس سنوات لم تغادر وفاء المنزل دون علمي ولم تتأخر بهذا الشكل من قبل، لكن لمَ لا تكون قد عادت الآن إلى المنزل بينما أنا أبحث كالمخبول في الشوارع، آه منّي أنا الآخر أُصابُ بغباء حادّ أحيانا، كلّ ذلك من ثقل الوظيفة والحياة.

عدت إلى المنزل صعدت الدرج بقفزات عنيفة، فتحت الباب كمن يحاول خلعه، التلفاز وحده يضيء المكان ناديت “وفاء….وفاء…سارا…” فتشت المنزل مثل من يبحث عن أدلة الجريمة، بحثت حتى تحت السرير، وفي الخزانة، في الحمام… لم أجد تلكما اللّعينتيْن، كنت أحسّ قلبي نصف برتقالة في آلة عصر، نبضي متسارع جدا، وأنفاسي تركض بسرعة بين فمي ورئتيّ، إنّها العاشرة مساءً ها قد بدأ صوت شجار المخمورين وفرامل سيارات المهووسين بغزو الشارع، لم أتمالك نفسي، دماغي تعطّل الآن كمحرك قديم مجهد، صفقت الباب وخرجت، كنت يتيم الأبوين ونشأت نشأة صعبة في دار للأيتام وتشاركني وفاء يتمي هذا، لقد نشأنا في المكان الرديء نفسِه، لذلك لا نزور أحدا ولا أحد يزورنا، دون أن أشعر توجّهت إلى الطريق وأومأت إلى سيّارة أجرة وناديت تاكسي، صعدت كان الرجل مبتسما يسألني عن وجهتي، لم أعرف بم أجيبه، قلت فقط “زوجتي وابنتي تائهتان لا أعرف أين “، ثم انتابتني نوبة هيستيريا، آه لقد تعرضا إلى حادث، أسمع صراخ زوجتي التي يغتصبها الآن شخصان على مرأى من سارا، هدّأ السائق من روعي:

- “لا تخف يا أخي ربما هما في مكان ما وفقط تأخرتا في العودة”.

- ” لا…لا…. لا يمكن لوفاء أن تذهب إلى أيّ مكان دون علمي، انظر لقد تجاوزت العاشرة والنصف ولم تعد، لم تفعلها أبدا من قبل، لم تفعلها أبدا”.

- “طيب ربّما وقع معها حادث صغير كما تقول لكن لا بأس لا تخف يا أخي، أقترح أن نزور المشافي القريبة…. “.

- “بسرعة إذن أرجوك”.

من مستشفى إلى آخر كنّا نركض أنا والسائق لاهثين نسجّل اسمي وفاء وسارة، ليبحثا عنهما ربما وفدتا مصابتين بشيء ما هنا، أو ربما وجدوهما في ثلاجة الموتى، آه لا، هذه الفكرة مرعبة تبا لدماغي الأحمق، ولكن في كل مرة كانت تعود إلينا الممرضة الغبية مبتسمة بفمها المغموس في حمرة الشفاه ومكياجها المدهون على وجهها لتقول “آسفة لم يفد علينا هذان الاسمان”. إنّهما زوجتي وفلذة كبدي أيتها الحمقاوات ليسا اسمين، فذكرهما بهذه الطريقة يرسّخ عندي فكرة أن يكون الموت قد اختطفهما مني، تبّا للموت أيضا، الموت الذي لم يدعني أرى والديّ ونسيبيّ.

لم أعد أحتمل أكثر، في الطريق أوقفتنا الشرطة بينما كنا مسرعين بالسيارة، طلبا تفحص بطاقاتنا، نزلت من السيّارة في محاولة لإقناع الشرطيين بتركنا نواصل البحث وأستعجلهما، حتى قال لي أحدهما:

- “عد إلى السيّارة يا هذا”

أمسكني كشاة تُجرُ من حقل مرعى الجيران، في محاولة منه لإرجاعي إلى السيّارة، لم أتحمل ذلك غلت الدماء في كل ميليمتر من شراييني وأوردتي، تسارعت دقات قلبي حتى غدت طنينا، لم أفطن كيف انقضضت عليه ورحت أبرحه ضربا، وكأنه هو من اغتصب زوجتي أمام عيني سارا العسليّتين، ثم شعرت بضربة خلف رأسي وعمّ الظلام.

لم أفق إلا في قسم الشرطة وشرطي يسألني عن اسمي،

- “ماذا أفعل هنا؟؟”.

- “ستتعلّم أيها الوغد عاقبة مد يدك على شرطي، لقد قمت بشرم أذنه بأسنانك أيّها الكلب المسعور؟”.

لم أكن أهتم للشتيمة أو غيرها..

- “زوجتي وابنتي تائهتان رجاء، أريدكما أن تعثرا لي عليهما واحبساني، أنا كلب بن كلب أتدري، المهم جد لي حبيبتيّ”.

و انخرطت في نوبة بكاء بينما كانت يداي مقيدتين خلف ظهري، ألقوا بي في مكان الإيقاف، لكنني لم أتوقف عن الصراخ “ابحثوا لي عن وفاء وسارة… ابحثوا لي عنهما…”.

لم يثنني أن الفجر الذي يُسجّي كلّ جسد وصوت قد لاح من نافذة صغيرة مشبّكة بالحديد، ما اضطر رئيس القسم إلى استقبالي بعينين متورّمتين من قلّة النوم، أعطيته اسميْ زوجتي وابنتي فلم يجد لهما أثرا في قاعدة البيانات، لكنّه طمأنني ووعدني بأنهم سيجدونهما قريبا.

ثلاثة أيّام وأنا مسجّى في زنزانة إيقاف جديدة مكمّم الفم ومربوط اليدين، وها أنا أخرج لأرى النور أخيرا. ديسمبر يبرّد هذه المدينة التي ابتلعت حبيبتي، وأنا تتلقفني الشوارع كمعتوه تائه.

دخلت المنزل صفقت الباب ورحت أصرخ بأعلى صوتي بينما جارتي السمينة تحدث حلقة من النسوة بهذيانها المعتاد:

- “يا لذلك المسكين، لم يصدّق بعد موت ابنته الرضيعة وفرار زوجته منذ ثلاث سنوات أو أكثر، وما زال في رأس كلّ شهر يهيم في الشوارع بحثا عنهما”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى