عبد النبي فرج - عزلة المحب.. قصة

سرب من النساء المنقّبات يمرنّ أمامي. أنا الواقف في الدكان أنصت لشوبان متعة أو رغبة في التمايز، لست متيقنا من شيء؟ من أين يأتيني كل هؤلاء النسوة؟ ينبثقن كأنهن زهور الريمان السوداء، التي تنبثق مكتملة، ثم تعود لتطور أوراقها مرة أخرى، إلى الداخل أنظر إليهن في استسلام قدري، وكأنني أرى سد مأرب وهو على شفا الانهيار، ولا أملك وسيلة لوقف الكارثة، لا يوجد ما يمنع الكارثة سوى يدي، أقف مرعوبا، ومروراً من تلك البداوة المجسمة، سيراً على قدمين ممتلئتين ملفوفتين، في جوارب سوداء، وعيون تتلفت في حذر، أو عداء، يتجاوزنني، ونظراتهن لا يمكن أن تحددها هل هو إغواء؟ أم عداء؟
لم يعد شيء واضحاً، الرمادي أصبح سحابة ضخمة تغشي عيني.
يصلن إلى سراي هند قرب المساء ويغلقن الباب والسؤال يلح عليّ: كيف يمكن فض مغاليق هذا الكون الذي اسمه هند؟
عندما أتت عندي في الدكان أردت إحداث شرخ ما لدخول هذا العالم الغامض، كنت منتشياً بالفعل، فأخذت أحكي عن أميرة خرافية الجمال تحلم بأن تطير فوق المكان الذي تعيش فيه إلى عالم غير محدود، وعندما فتحت عينيها وجدت نفسها تطير بالفعل، كانت سعيدة حد الجنون إلى أن تذكرت أسرتها فسقطت من علٍ على صخرة ضخمة وتناثر دمها.
نظرت بنصف عين لعلني ألمح اهتماماً أو رغبة في الإنصات ولكن بدت لا مبالية، ثم وضعت ورقة الطلبات في حياد، استلمت الورقة وأنا اشعر بضآلة الشأن. انتهيت من وضع الطلبات في كراتين، وقدمت لها الحساب، فأخرجت حقيبتها الصغيرة وأخرجت بضع أوراق من المئة جنيه وناولتني ثلاث ورقات، ووضعتهم على البنك، وطلبت منى أن أحضر سيارة لتوصل الطلبات.
قلت بحدة: وأنا مالي، هو انا كاتب يافطة مكتوب عليها "توصيل الطلبات للمنازل؟"
قالت: أنا آسفة، باين أخطأت.
أحسست أنها صبت عليّ ماء بارداً، خاصة أن لها طريقة راقية في التعامل، وعندما خلعت النظارة كانت دموع تتجمع في عينيها.
تركت البنك وذهبت الي آخر الدكان وأنا أشعر بالخزي، وكم أنا مفتعل ورأسي مملوء بالهواجس والظنون والوساوس القهرية التي توجهني وتدفعني للخسران.
أغلقت الدكان في المساء وذهبت حتى اقتربتُ من السراي. أنا الدرويش المغبون في كل الأزمنة تحت هالة من الكِبر و التواضع والمحبة الزائفة، أدور حول السور وبي رغبة لاقتحامه، وأعلم أن الجوهرة تتألق هناك، وأن بقائي في الخارج فيه تلفي وهلاكي، وإن كنت أعلم أن هذا البيت مرصود وأن قدري هو أن أدور حوله في رحلة أبدية.
السرايا التي ترقد في ثبات وجبروت، رغم ما يبدو عليها من قدم. وقد افترضنا أنها ستهدم على يد الأميرال يوسف عبد الرحمن الضابط في سلاح الفرسان، بعد أن تمت إحالته إلى الاستيداع، بعد شائعات عن دور له في التآمر على الثورة وإصابته بطلق ناري، قيل إنه خطأ من بندقية صديقة، أصابت العمود الفقري وقد نجا بأعجوبة، فقط شلل وخرج من المستشفى على كرسي متحرك، وضاع أمله في أن يكون سفيراً لمصر في بلجراد. استقر على السرير ووجهه يتقلب بين الأسى المريض والفرح المعذب وهند راكعة على ركبتيها في مواجهته وهى تردد:
أحبك أيها المحب.
والأميرلاي ينظر إليها مد هوشاً ومرعوباً من زهور النوران التي تنمو على وجهها، وكأنها خفافيش صغيرة.
قال: هند أنت روح طفلة وخايف عليك من دنس المدينة.
أداة مدهشة زرع فيها توهجاً جعلها تفكك محتويات الشقة.
وفى الصباح كانا مغروسين في ربوع الريف وظل داخل السراي من عام 62 إلى 67 يقرأ القرآن متابعاً الجرائد والمجلات التي تتناول أحدث الأسلحة وبؤر التوتر في العالم، وكل حين تنتابه موجات عنف لا يستطيع خلالها السيطرة على ذاته، يقذف زجاج الشبابيك بأدوات الزينة الخزفية، وحوض السمك الزجاجي، ويمزق الستائر التي يراها واحدة من الأسباب الرئيسية في عقم الواقع وتحلله، يجأر بصوت درامي عتيق يناجى الله لتفكيك هذا العالم الداعر.
وهند التي كانت ترتدي البكيني، وتسير على شاطئ البحر مكتفية بذاتها. باعتبارها حالة فنية أكثر من كونها واقعاً حياً حتى وهى ترتدي الحجاب، وتسمع التواشيح، وتقرأ القرآن، وتنام مبكراً لكي تنغمس في الحلم، وتشكل هذا الحلم حسب مزاجها الشخصي. وفى ليلة رأت نفسها تسير في صحراء خالية من البشر، وكف قدمها تطبع على الرمل، وينمو مكانها عشب، رغم أن الكون يمور بريح عاتية، ورغم ذلك لم تستطع الريح أن تمحو آثار قدميها، ولأنها تؤمن بالحدس والحلم والخيال اعتبرت أنها مختارة لدور يتجاوز ذاتها. وفى حلم آخر رأت نفسها وحيدة في صحراء، والسماء فوقها خالية من السحب إلى أن جاءت سحابة تركت الكون كله، وصبت عليها ماءً أسود قاتماً. قامت على أثره، أضاءت النور وصلت ركعتين في فزع، واعتبرت أن هذا الحلم هو نداء آخر ولذلك قامت وارتدت النقاب لكى تحدث توازناً في هذا الكون المضطرب، خاصة بعد موت المحب، وزواجها من ابن عم لها، كان يقف في العزاء كالبرنس.
هذا الغندور، جميل الصورة والممتلئ حيوية وقوة. عندما تم الزفاف، وكان يتوقع أن يغمره النعيم، اكتشف أنها عكس ما تصور تماماً في هذا الجانب، فكان يظل صابراً حتى تكاد خصيته تنفجر، فيحلب ذاته ويجلس على كرسيّ خيزران أمام البوابة يتعجب من النسوة اللاتي يدخلن، والأجسام اللينة التي تستحق أن يغوص السكين في لحومهن.
وآخر الليل يفرقع نصف صندوق بيرة، ويلهث حول السرايا إلى أن تخرج الست صارخة:
أنت تعمل اضطراباً في الكون بصوتك المرعب وسلوكك المنحط، المنحط مش كفاية؟
ثم تغلق الباب بقوة، ليأتي الانسجام، الانسجام.
وهو ينغلق على ذاته، ثم يسير على المشايات التي تفصل الزهور في الأحواض المثلثة والمكعبة والدائرية، والتي جاءت حسب تصور الست،
كان سكراناً طينة، ينظر إلى زهور الفل، الياسمين، النرجس، بحقد ويراها السبب في الخديعة. وفى يوم صمم وهو قليلاً ما يصمم على شيء أن يفض بكارة هذه السرايا، ولذلك قام مفتوناً بما يملك من فتوة وجبروت، لم يستخدمها طوال عمره. في رشاقة لص صعد على مواسير المجاري وكسر شباك الحمام ودخل، ومنه إلى الممر الذي يؤدى إلى البهو، ومنه صعد إلى الدور الثالث، وتسلل إلى الصالة، ومنها إلى حجرة الأنتريه.
ابتسم وأوسع فرجة في الستارة فرأى خلالها النساء متخفّفات من ثيابهن السود، ولحومهن الشاهقة البيض تتألق، ويتطوحن على صوت موسيقى ناعمة، وجسومهن الطرية اللينة تهتز اهتزازاً خفيفاً حتى يمسسن بعضهم مساً.
روّع وأحس أنه قد تم إسقاطه، وأنه في حالة ضياع أبدي. لم يعرف إلى أي مدي إلا عندما سمع صوت هند يخرج منها عذبا وصلبا تهتز له السرايا وتشهق شهقات مروعة حتى لم يعد قادراً على الاحتمال، أخذ يجرى وينزل درج السلم في جنون، يبحث جوار الجدار عن بندقيته الميري إلى أن وجدها وأخذ يحرك الأجزاء متوعداً.
لازم القحبة تموت.
يضع رصاصات ويضغط على الزناد فكانت البندقية تكذب منه بسبب الصدأ، وفى عنف تجاربه انطلقت رصاصة في رأسه فتهشمت وسقط ميتا والنسوة المعتكفات اندفعن بعريهن إلى الخارج. كان ممدداً على الباب، تقدمن من الجثة وحملنها ودخلن به السرايا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى