أماني أبو رحمة - القصة القصيرة عند فرجينا وولف.. تعريف وتحليل - ترجمة لدراسة الباحثة: كرستين رينير

1- عرفت فرجينيا وولف بوصفها روائية، ولكنها كتبت العديد من القصص القصيرة التي تتراوح بين خرافات الحيوانات،

وحكايات فلسفية، وكتبت القصيدة النثرية. إذ يعوق عدد النصوص التي كتبتها وولف وتنوعها، تعريف القصص القصيرة الوولفية بوصفها نوعا أدبيا خاصا، وفي الحقيقة، فان ما عدا دين بالدويت الذي نشر كتابا بعنوان " فرجينيا وولف، دراسة في القصة القصيرة" فان النقاد حللوا قصص وولف القصيرة في عدد محدود من الدراسات المقارنة. وربما ساهمت الظروف التي نشرت فيها القصص القصيرة في هذا التجاهل النسبي، إذ نشر في حياتها 18 قصة قصيرة فقط من أصل 46 قصة كتبتها وولف في الفترة من 1906- 1941، في عدد من الدوريات مثل، فورم، كريتيديون، ذ اثينيوم، أو في مجموعات قصصية نشرتها دار هوغارث للطباعة (قصتان، الحدائق الجديدة، الاثنين أو الثلاثاء). وبعد وفاتها، حاول ليونارد وولف توفير هذه النصوص للعامة، فنشر (بيت الأشباح وقصص أخرى) عام 1944، فيما نشرت ستيلا ميكنيكول (السيدة دالاواي) عام 1973، وفي عام 1985 نشرت سوزان ديك: (فرجينيا وولف، القصص الأقصر كاملة) وهي مجموعة لا يمكن تصنيفها روايات ولا قصص، سبع عشرة منها ينشر للمرة الأولى.

2- لا أهدف إلى وضع قائمة بهذه القصص القصيرة ولكن لأوضح حقيقة أن أيا منها، فيما عدا (السيدة دالاواي)، لم تكن مرتبة منهجياً. تميل وولف في اختيار عناوين المجموعة إلى اختيار عنوان احد القصص وتسمية المجموعة باسمها كما في (الاثنين أو الثلاثاء) و(بيت الأشباح وقصص أخرى)، مما يدل على عدم تجانس نصوص المجموعات، السبب الذي يمكن أن نرجعه إلى حقيقة أن النصوص قد كتبت كما تقول الروائية في الفترة بين روايتين، وعدّتها هي فترة توقف مؤقتة، أو فترة نقاهة، أو طريقة لكسب المال،وبأي حال لا يبدو أن القصص كانت نتاج مخطط متكامل.

3- وفي حالة كهذه، ما نوع القراءة التي نفضلها لقصص وولف القصيرة. هل يرضينا مثلا أن نقوم بقراءة تفصيلية دقيقة، الأمر الذي وان كان مجزيا بنتيجته، إلا انه سيؤكد في النهاية عدم تجانس القصص ككل. وهل نقرا النصوص حسب تسلسلها الزمني كما فعلت سوزان ديك في طبعتها؟، أم أن نقوم بمقاربة القصص بعيدا عن التسلسل الزمني و بوصفها سيرة ذاتية ؟ وهنا ستأخذ في الحسبان " التجريب القلق لوولف في شكل القصة القصيرة وتقاناتها " كما فعل بالدوين، وحتى لوان هذه المقاربات كانت جيدة ة إلا أنها لا تبدو عادلة في تناول نصوص وولف.

البديهة الضمنية في نظر معظم نقاد قصص وولف القصيرة هي أنها كانت تجريبية. معامل لتفريخ الروايات، وكما كتب بالدوين شخصيا " مكانتها في التاريخ الأدبي تعتمد كليا على الروايات، في حين أن قصصها تمنح اهتماما عرضيا أو جانبياً". هذه المقاربة بكل صراحة تختزل القصص القصيرة إلى نوع أدبي ضئيل أو هامشي بلا أي قيمة ذاتية.

الموضوع الذي أريد توضيحه هنا هو ما إذا كانت وولف نفسها تعد القصص القصيرة نوعاً أدبيا هامشياً وهل كان لديها أي نوع من النظرية حول هذا النوع، يؤكد بالدوين ببلادة:

"من سوء الحظ، لقد تركت قليلا من التقارير حول نظريتها في القصة القصيرة، ولا يوجد بيانا عاما مثل (الرواية الحداثية) أو (السيد بينيت والسيدة براون) يتعلق بالقصة القصيرة، ومن ثم فان التعليقات حول القصص القصيرة يجب أن تتعلق بتصريحاتها حول الرواية وما يمكن الاستدلال عليه من القصص نفسها".

4- وإذا ما قلبنا في يوميات وولف، سنسلم بحقيقة أنها أشارت إلى كتابة قصصها القصيرة والى نشرها، والى استقبالها، إلا أنها لم تذكر كلمة واحدة حول النوع نفسه، وأيضا فان فهرس مقالاتها الذي أعده مكنيلي كان فيه أبواب عن المقالات، الرسائل، الروايات، الشعر والنثر، ولكن لاشيء عن القصة القصيرة.

5- إلا أن قراءة بعض من هذه المقالات قد يكون عظيم الفائدة في مبحثنا،إذ على الرغم من أن كلمة القصة القصيرة لم تبرز في أي عنوان إلا أن مقالات مثل (عادة قراءة الروايات) و (وجهة النظر الروسية) و(مقال في النقد)، يمنحنا وجهة نظر مثيرة ويظهر لنا أنها بعيدة كل البعد عن اعتبار القصة القصيرة شكلا ثانوياً، بل ان وولف عدتها نوعا أدبيا مستقلا بحد ذاته بكل ما في الكلمة من معنى،بعيدا عن الرواية. وبينما أشارت الى موبسان، فوبير، تشيخوف، او مانوفيلد، فقد حاولت أن تعرف النوع الجديد الذي لم يعثر على اسم له حتى الآن، ذلك أن المصطلح القديم" القصة القصيرة" يؤكد كما أوضحت في كتابها (الرواية الحداثية) أن:" قول- القصة، أمر ربما لم يعد كافيا عندما نتعامل مع النصوص الحداثية". كما أنها حاولت أن تعرف عقد القراءة التي يرتكز عليها هذا النوع الجديد، كما كتبت حول قصص تشيخوف:

" ولكن من المستحيل القول هذا كوميدي، أو هذا تراجيدي، كما أننا لسنا متيقنين ـ لان القصص القصيرة، كما تعلمنا يجب أن تكون موجزة وحاسمة ـ ما أذا كانت هذه النصوص الغامضة وغير الحاسمة يمكن أن تسمى قصصا قصيرة"

القصة القصيرة في مقالات فيرجينيا وولف:

6- في هذه المقالات، تعرض وولف القصة القصيرة بوصفها فن الإيجاز والصدق. ففي مقالة (إعادة قراءة الروايات)، تختار وولف أن توضح نقطتها، من خلال تحليل قصة قصيرة حتى" لا نقيد أفقنا، دعونا نختار قصة قصيرة،(قلب بسيط)". وهكذا جاء اختيار قصة غوستاف فلوبير ،لأنها توسع أفاق البحث فقط، وبكلمات أخرى، فانه لا يبدو هنا أن وولف تضع أي فروق بين الروايات والقصص فيما عدا ما يتعلق بالطول،إلا أنها توسعت في ذلك في (مقال في النقد) عندما وجهت نقدا حادا لقصص همنغواي القصيرة التي تخصص فضاء واسعا للحوار:

"ربما أن الحوار المستفيض هو الذي يقود إلى نقائص أخرى في القصة القصيرة: عدم التناسب. الفقرة المستفيضة ستجعل هذه الأعمال الفنية مائلة وغير متوازنة وستقود إلى ضبابية، في الوقت الذي ينشد فيه المرء الوضوح والتركيز، مما يربك القارئ"(المقالات 455)

7- وبطريقة غير مباشرة، فقد عرفت القصة القصيرة هنا، على أنها فن التناسب والكمال. وثانياً فان الخاصية التعريفية الأخرى للقصة القصيرة من وجهة نظر وولف هي الصدق. ففي " وجهة نظر روسية" عادت وكررت التركيز على أمانة وصدق تشيخوف. برزت هذه الفكرة أيضا في مقالاتها حول الرواية، وسنعود إليها مرارا وتكرارا لنتمكن من وضع صورة واضحة لما تعنيه:

" يعرف الصدق من حيث علاقته بالكتابة بمصطلح شخصي جدا ويقال انه مستمد من ثلاث أفكار أخرى:عدم الحسم، الحرية، والتكثيف".

8- حتى تكون القصة القصيرة صادقة، لا بد أن تكون غير حاسمة بالدرجة الأولى، (مقال 184) مفتوحة، وتطرح مزيدا من الأسئلة أكثر من أن تمنح إجابات. كما في قصص انطون تشيخوف ولهذا فإنها محيرة جداً لقارئ ـ اعتاد على الروايات الفكتورية التي تقدم جوابا لكل سؤال ونهاية قاطعة لكل عقدة ـ لا يفهم لماذا تبدأ هذه السرديات بوضع غير موصوف وتنتهي بعلامة استفهام. فقط عندما يتعلم التخلص من عاداته القرائية، سيبدأ القارئ في تقبل هذا النوع من القصص. عندها وعندها فقط سيتمكن القارئ من استيعاب النموذج الأساسي للقصة. وان يفهم أن البساطة السردية للبداية ناتجة من أن تركيز الكاتب لم يعد على العلاقات الإنسانية ولكن على العقل أو الروح، وسيتمكن القاري من فهم أن نهاية القصة غير حاسمة بسبب صدق الكاتب الجوهري:

"الأسلوب الذي بدا عرضيا، غير حاسم، و مليء بالتفاهات. يظهر اليوم ذوقا رائعا أصيلا نقيا، مختار بجسارة، مرتب بطريقة لا تخطيء، ومحكوم بالنزاهة والصدق بحيث لا يمكننا أن نجد له نظيرا حتى بين الروس أنفسهم". (المقالات 185). 9- إن الاختيار وليس التلاعب، هو الذي يقود إلى شكل جديد لا إلى حيلة أو خدعة، ويقود إلى الصدق في الحياة كما أوضحت في(الرواية الحداثية): "إن الإحساس،بأنه لا توجد إجابة، وأن الحياة المختبرة بصدق تطرح سؤالا بعد سؤال، يجب أن يترك مدوياً بعد أن ننتهي من قراءة القصة"" (الرواية الحداثية 109).

10- كان اختيار اللاحسم في النهاية مرتبطا بالحرية الجديدة، من الناحية الرسمية والبحثية، ولان القصة القصيرة اللاحاسمة يمكنها تجاوز تعقيدات النوع في الشكل المغلق كما يمكنها أن تفتح منافذ لموضوعات جديدة بدون "المادة المميزة للرواية": كل ما هو خاص بالرواية. كل إحساس، كل فكرة".

إن الشرط المسبق لمثل هذه الحرية هو أن ينبذ الكاتب التحفظات الأدبية الفكتورية، التي من الممكن أن تكون جيدة لكنها وقبل كل شي غير أمينة لأنها تنقل الحقيقة بطريقة روتينية خالية من الحماسة " لاشي، لا أسلوب أو طريقة، لا تجريب، حتى الطيش والشذوذ كان محرما، فقط الخداع والكذب". (الرواية الحداثية 110)

وبلا شك فان مثل هذه الحرية توسع حرية القارئ: "عندما نقرأ مثل هذه القصص عن لاشيء أبدا، فإننا نوسع أفقنا" (وجهة النظر الروسية، المقالات 185).. فقد أعيد تعريف عقد القراءة في حالة القصة القصيرة التي أصبحت الآن ليست مفتوحة النهاية فحسب بل أنها تدعو القارئ إلى الولوج في النص و يشارك في عملية الكتابة.

11- وأخيرا فإن ثالث مكون للصدق هو " التكثيف العاطفي" وهي الفكرة التي عرفت في (إعادة قراءة الروايات). إذ أفردت وولف بداية هذه المقالة لكتاب (صنعة الرواية، لمؤلفه الانجليزي، بيرسي لوبوك) وتوظيفه لمصطلح " شكل " الذي استعاره من الفن البصري. وحسب لوبوك فان الشكل هو الحاكم الأعلى الذي يمنح الكتاب جوهره:

"ما أراد السيد لوبوك أن يقوله لنا هو أن الكتاب نفسه يعادل شكله، ويقتصد بكثير من الرقة والوضوح آثار الطرق التي يتبعها الروائيون لبناء التركيب النهائي الدائم لكتبهم".

هذه الطرق ـ تتابع وولف شارحة ـ تتعلق بوجهات النظر التي يوظفها الروائيون. ومن الواضح أن وولف تتهم لوبوك بالشكلية، وانه يختزل النص إلى بنائه وتنتقد توظيفه لمصطلح" شكل" وبالنسبة لها "فان الكتاب نفسه ليس شكلا نراه بقدر ما هو عاطفة نحسها. انه من خلال العاطفة يمكن للمرء أن يدخل إلى لب العمل الفني.

12- تستعمل وولف بعض الأحيان مصطلح" شكل" وفي أحيان أخرى تفضل طريقة، أو فن. ولحسم الأمر وضعت وولف تعريفا جديداً: "عندما نتحدث عن الشكل فإننا نقصد: أن عواطف وانفعالات معينة قد وضعت في علاقات صحيحة مع بعضها البعض".

وبكلمات أخرى، فان الشكل والعاطفة لا يمكن أن ينفصلا في الكتابة الجيدة. في هذه المقالة تنتقد وولف شكلية (لوبوك) وترجح رأيا قريبا لرأي (روجر فراي)الذي كتب: "افهم أن الشكل والعاطفة (عمل الفن) ينقلان بوصفهما مرتبطين معا بجمالية بالغة ولا يمكن فصلهما بحال".

ولتوضيح فكرتها علقت على قصة فلوبير القصيرة القلب البسيط. " النص ابعد ما يكون عن الصراحة، ومفتاح النص يعرض فقط من خلال التكثيف المفاجئ للعبارة: (السيدة والخادمة تقلبان ملابس الطفل الميت). هذا التكثيف السردي يستفزنا عبر وميض الفهم".

من لحظة الفهم تلك التي هي لحظة الانفعال والعاطفة والتكثيف للقارئ، يكون لإرباك النص معنى. ويرتبط ذلك بالتكثيف الذي يرسله الكاتب في كتاباته " كلما ازداد تكثيف إحساس الكاتب، كلما كانت تعبيراته بالكلمات أكثر دقة بدون انزلاق أو ضجيج " لا يمكن الحصول على هذا التكثيف ثلاثي الطبقات والذي يعني بالنص والكاتب والقارئ إلا إذا كانت العاطفة عميقة وأصيلة(مراحل الرواية، 71) ، وبذلك فان التكثيف حسب وولف يستمد من الإخلاص والدقة.

تحليل تعريف وولف للقصة القصيرة:

13- عبر هذه البيانات المختلفة عن القصة القصيرة، طورت وولف نظرية في النوع تستحق التحليل بالتفصيل. ففي مقالها (إعادة قراءة الروايات)، ركزت على الإيجاز بوصفه أول سمات القصة القصيرة، وتماما كما عند ادجار الان بو الذي قال بان "القصة القصيرة يجب أن تقرأ في جلسة واحدة"، وعلى الرغم من أن هذه السمة بسيطة وواضحة، إلا أنها ليست مميزة بما يكفي، وتميل قبل كل شيء إلى اختزال القصة القصيرة إلى نوع لا يمكن تقيمه إلا من خلال مقارنته بالرواية وطولها. إلا أنها عادت في مقالتها (مقالة في النقد)، إلى فكرة الإيجاز. وبعيدا عن تعريف القصة القصيرة بوصفها رواية منمنمة، فقد ثمنت وولف الإيجاز كقيمة بحد ذاتها، تجعله مرادفا للتمام والكمال و مثلما عرفها البرتو مورافيا و جوليو كورتازار، حديثا بوصفها جنسا نقيا و شكلا كاملا.

14- الخاصية الثانية في تعريف وولف للقصة القصيرة في مقالها هي:الصدق. لقد استعارت وولف هذا المصطلح من الأخلاقيات، وقد ارتبط لفترة طويلة بالكتابة الواقعية. وبالتالي فهي احتفظت بالمكانة الأخلاقية للكاتب الواقعي الذي يثمن الصدق. واستبقت النظام الثنائي حيث، (الصدق، الأصالة،العمق، الطبيعة) في مواجهة (الاغتراب، الخداع، الآلية التي تفتقد إلى الحماسة) وحيث، (الصدق في المخيلة) يقابل (صدق المحلل النفسي) و(الصواب) يقابل (الخطأ) ولكنها، من داخل هذا النظام، فقد قلبت الأمور رأسا على عقب، واتهمت ما كان موصوفا بالصدق بأنه غير صادق، وبهذا فقد حورت تعريف الصدق جوهرياً. فإذا كانت الكتابة الصادقة يجب أن تكون حقيقية بالنسبة للواقع،فإنها لا تستطيع أن تفعل ذلك بوساطة تفاصيل الحقيقة في الحياة وخلق وهم الحقيقة. رأت وولف أن كل محاولات تقليد عرض الواقع غير صادقة لأنها مخلصة لعدم نقاء الواقع.

وضعت وولف شكلا جديدا للصدق، بديلا عن الصدق الفكتوري ونبض مرجعياته. وصرحت بان أول مكوناته هو اللاحسم والحرية، متمثلا في نبذ الاتفاقيات الأدبية لصالح عملية الاختيار والإبعاد، وتحول السرد من العلاقات الإنسانية إلى "العقل" و"الروح" و كما تقول وولف: "التحول من الحياة الخارجية إلى الحياة الداخلية".

يعتبر الصدق إذا أولا وقبل كل شيء مرادفا لانتهاك الاتفاقيات، ونبذ اللانقاء في القص. وبعبارة أخرى جاء الصدق ليتوج عملية تعاضد الحرية والنقاء.

15- يعرض المكون الثالث، التكثيف العاطفي، الصدق بطريقة أكثر ايجابية، وحسب (إعادة قراءة الروايات) فان التكثيف العاطفي مشتق مباشرة من إيجاز القصة القصيرة ويجعلها مليئة بالمعاني. باختيار هذه الخاصية، فقد أشارت وولف إلى القصة القصيرة بوصفها لحظة تكثيف عاطفي، لحظة كينونة، لحظة الكينونة إذن: هي تلك التي يحفزها السرد وهي السرد نفسه (شكل كامل يشع لحظة كاملة) وهو بدوره يخلق عاطفة مكثفة لدى القارئ، وبالتالي يمكن أن نقول عن كاتب القصة القصيرة انه، كالشاعر، تكمن قدرته في جعلنا ممثلين ومتفرجين في وقت واحد (كيف يجب أن نقرأ كتابا؟) ، ويخلق في القارئ عاطفة مكثفة تشبه الصدمة العنيفة التي تنتجها العاطفة الشخصية " كينونتنا في تلك اللحظة مركزية ومحددة، كما أي صدمة شخصية عنيفة" وهذا يأتي قبل أي نوع من الفهم " وحقا بعد ذلك يبدأ الإحساس بالانتشار في حلقات أوسع عبر عقولنا، لنصل إلى إحساس ابعد، وهذه بدورها تبدأ في التصويت والتعليق ونصبح واعين لصداها وانعكاساتها

وتخلص وولف إلى القول " إننا نتعلم عبر إحساسنا".

في هذه المناجاة لمراحل عملية الإبداع، من الإدراك إلى التلقي، أعطت وولف مكانا مركزياً للإحساس، في استدعاء للرومانتيكية، وأيضا لـ(جورج ادوارد مور) الذي ربط الشعور أو العاطفة بعنصر المعرفة في الإدراك الجمالي:" من الواضح انه في هذه الحالات من الإدراك الجمالي، يوجد معرفة صريحة لما هو جميل في الشيء، ولكن يوجد أيضا بعض الإحساس والعاطفة، ويرتبط التكثيف العاطفي عبر كلمات مثل اللقطة، والحدة المفاجئة، مع السرعة والإيقاع، وتعود وولف إلى ذلك بصراحة في كيف يجب أن تثرا كتاباً:تنمو الرغبة فينا بفعل نصف تقرير وتقريب لتمنعنا من البحث في الظلال التافهة للشخصية الإنسانية، لنستمتع بمزيد من التجريد ونقاء الحقيقة الروائية وبذلك نخلق مزاج وتكثيف وتعميم ولا وعي التفصيل تحت وطأة ضربات متكررة منتظمة بطبيعة تعبيرية شعرية. هذا التكثيف الشعري يغطي مساحة واسعة من العواطف والانفعالات.

16- هنا يرتبط التكثيف بالتجريد (في العبارة" التكثيف والتعميم") والإيقاع ("تحت وطأة ضربات متكررة ومنتظمة").

يبني الإيقاع، المتولد من اقتران الإيجاز والتكثيف، النص ـ عبر التكرار البنيوي أو المعنوي والأصداء والألحان ـ ويولد ذروة الصدمة العاطفية. الإيقاع بالنسبة لوولف، تماما كما هو عند (ادوارد مورغان فورستر)، أساس الإحساس الصادق في الكتابة. وللتجريد فقد تم تعريفه هنا بمصطلحات تصويرية بوصفه غير مجازي، تجريديا، ومرادفا للموضوعية:

"عنيفة جداً عملية الاختيار، ذلك إننا ـ في مرحلتها النهائية ـ قد لا نجد أثرا للمشهد الفعلي الذي ارتكز عليه الفصل، الحياة معرضة لآلاف التمارين والقواعد التي تم قتلها ولجمها وهناك من السديم بزغ شيء مرعب قاحل دائم لا يزول، الجسد والجوهر اللذين يرتكز عليهما اندفاعنا نحو العواطف المضطربة والمشوشة".". (الحياة والروائي 401).

إن عملية الاختيار والحذف تسمح بنسخ تكثيف العواطف بينما يتحول النص إلى نوع من المعجزة اللابشرية. (الحياة والروائي مقال 404).

17- بإلقاء الضوء على نقاء هدف المبدع، وتأثيره على القارئ، فان التكثيف العاطفي يجعل من الصدق مرادفا إلى حد ما للنقاء، وفوق ذلك كله يحول القصة القصيرة إلى نص طاهر ونقي. ويعود الفضل إلى هذا التكثيف العاطفي في الطبيعة المفارقة لجماليات وولف، عن طريق مزجها بين فكرتين متنافرتين ظاهرياً: التجريد والعاطفة ينتجان من حافزين متناقضين: الحذف والإشباع، ويمكن إدراكهما بالحواس. وأخيرا فان هذا التعريف للتكثيف العاطفي يظهر لنا أن القصة القصيرة اقرب ما تكون إلى الشعر منها للرواية التي كانت وولف تقارن بها القصة القصيرة في بداية المقالة (إعادة قراءة الروايات) ذاتها. كما عادت وولف وأكدت ذلك في (ملاحظات على مسرحية إليزابيث): " العواطف القصوى ليست قصرا على الروائيين"، (المقال 66)،هي خصائص للدراما والشعر.وأضافت حول مسرحية اليزابيث: "العاطفة مركزة، عامة، عميقة في المسرحية (المقال 66)،. يا لها من لحظات تكثيف، من عبارات جمال مدهش تقذفها لنا المسرحية"، ويعود الفضل لهذا التكثيف في أن "المسرحية شعرا" (المقال 66)،. التكثيف، في النهاية، هو خاصية للشعر: الشكل الكتابي الأسمى.

18- جاء مفهوم الصدق الذي استعارته وولف من الأخلاقيات، هنا ليعرف جماليات وولف دلالة (الصدق) هنا منفصلة عن دلالتها التقليدية، عملية إنذار بتغيير المنظور، وخرق معرفي.

إن المؤشر الذي كان في الكتابة الفكتورية بداية وهدفاُ يوظف هنا فقط كنقطة انطلاق نحو نظرة تجريدية نقية حيث يتم من خلالها إزالته والقضاء عليه. وفي الوقت نفسه، باختيارها لمصطلح الصدق لتعريف القصة القصيرة، فقد جعلت له مكانا بين الأخلاقيات والجماليات، في فضاء جديد لا ينتمي لا إلى الجماليات الفكتورية، ولا إلى الجمال النقي، ولا إلى الفن لمجرد الفن، لأنه ـ مع ذلك ـ يرتبط بالأخلاق. علاوة على ذلك ومن خلال التعريف التعددي للمصطلح، أكدت وولف على نقاء القصة القصيرة، حين عرضتها كنتاج لحافز النقاء، فضلا عن إشارتها إلى التهجين النوعي للقصة القصيرة، حين اعتقدت أنها اقرب للشعر والدراما منها إلى الرواية، تشبه كثيرا المسرحية الشعرية، وتماما كما قصدت أن يكون عملها الأخير" الأمواج ".

وبذلك يكون النقاء الجمالي عند وولف مرتبطا بالنوع الهجين، وبعبارة أخرى فان التهجين والتخصيب الهجين أصبح شرطا ضرورياً للجمال والنقاء. وبذلك تسير وولف عكس التيار وتجرد التهجين من كل دلالاته الازدرائية (تماما كما فعلفي " والتر سكوت" حيث " المهجنين، المغيرين "(مقال 243) يمتدحون، أو في روايتها "فلاش" حيث يكون "فلاش" اسعد حالا بين المهجنين الايطاليين أكثر منه بين الانجليز نقي العرق، في حركة لا يمكن فصلها عن دلالات أيديولوجية.

19- التعريف الذي وضعته وولف للقصة القصيرة من خلال ربط مفاهيم الإيجاز والصدق يمكن مقارنته بالتعريف الذي وضعه بعض الكتاب والنقاد حديثاً، منهم، (جون وين) إذ يشبه كثيرا تعريف المنظّر الأول للقصة القصيرة ادجار الآن بو " الشكل الأدبي الذي تشبهه القصة القصيرة هو الشعر"، وآخرون مثل (جين ماريا سخافر)، التي وضعت قائمة بالخصائص النوعية التي لا تسمح بتمييز القصة القصيرة عن الرواية. وفقط الخصائص الخمسة التي اختارتها ايلين بلديشواير (الانفجار الزمني، توظيف الصور، التأكيد على الحياة الداخلية، النهايات والمعاني المفتوحة، والتكثيف العاطفي الهائل) هي التي تبدو أنها تتوافق مع تعريف وولف، ولكنها على الرغم من ذلك لا تأخذ في الحسبان العلاقة الديالكتيكية التي وضعتها وولف بين القصة القصيرة الجديدة وتلك الواقعية. وفي النهاية يبدو أن تعريف (جون جيرلاك) و (بيير تيبي) أكثر إفاضة، كتب جيرلاك: تمزج القصة القصيرة بين الإيجاز والتكثيف الخاص بالشعر الغنائي، والسمات السردية (الحبكة والشخصية والأسلوب) للرواية. فيما أضاف تيبي: تبدو القصة القصيرة فضاء للمواجهة بين الشعر والسرد) غير أن هذا بالنسبة لوولف ليس السرد هو الذي في خطر المحو، وفي حين اختار تيبي أن يتحدث عن مواجهة بين الأنواع فضلت وولف أن تفكر بمصطلحات التخصيب الهجين. وفي آخر المطاف فان أيا من هذه التعريفات لم يذكر الأنواع الأخرى التي تتقاطع معها القصة القصيرة، مثل الدراما على سبيل المثال. في النهاية فان نظرية وولف عن القصة القصيرة تختلف عنهم جميعا بينما تضمهم جميعا في نظرية خاصة بها.

20- بتعريف القصة القصيرة بوصفها صادقة وموجزة، فان وولف تعرف المثل التي تهدف إليها: اللحظة المكانية من التخصيب الهجين بين الشكل والعاطفة، النثر، الشعر، والدراما. مثل هذا التعريف، بكل ظلاله وتعقيداته، يضع القصة القصيرة في مركز البحث عن جمالياتها الذاتية.

وبالتالي فهي لا تعرضها بوصفها متعة بسيطة أو في موضع علاقة كهنوتية مع الأنواع الأخرى، ولكن بوصفها مشاركا كاملا في العملية الإبداعية.

في النهاية فإن نصوص وولف التي سميت خطأ قصص قصيرة، والتي فشلت كل النظريات الموجودة في وصفها يمكن أن نطلق عليها حسب مقالات ولف نفسها "روايات صادقة قصيرة"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى