شعبان يوسف - حول قصة قصيرة

بات في الاعتقاد أن عقدَي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانا عقدَي ازدهار القصة القصيرة بامتياز، وفيهما ظهرت مواهب ظلت مضيئة في سماء الأدب العربي حتى هذه اللحظة التي نحياها، مثل يوسف إدريس في مصر، وزكريا تامر في سورية، ومحمد خضير في العراق. وفي كافة البلاد العربية الأخرى ظهرت بواكير لافتة في هذا الفن، وفي مصر كانت تصدر مجلّات تخصّ هذا الفن تحديداً منذ عقد الأربعينيات مثل مجلات: «قصص للجميع، والـ 10 قصص، والـ 20 قصة، والقصة»، وكانت المجلّات كلّها تقريباً تنشر قصة قصيرة في كل عدد، مثل مجلّات: (آخر ساعة، والكواكب، وحواء، والتحرير، وصباح الخير، وروز اليوسف، والمصور)، وكذلك الصحف مثل: (الأهرام، والأخبار، والجمهورية، والمساء) التي كانت تهتم بهذا الفن اهتماماً بالغاً، وكذلك صدرت مجموعات قصصية مشتركة، وأعدّت دور النشر قصصاً لكتاب عديدين وجمعتها في كتب، وكَلَّفت كُتّاباً كباراً للتعليق عليها مثل محمود أمين العالم من مصر، وغائب طعمة فرمان من العراق، وقد فعلت ذلك على سبيل المثال دار النديم، ونشرت كتاباً عنوانه «ألوان من القصة القصيرة» قَدَّمه الدكتور طه حسين عام 1955، ولم يقتصر اهتمام طه حسين على تقديم هذه المجموعة فقط، بل إنه قَدَّم لمجموعة «جمهورية فرحات» ليوسف إدريس عام 1956، وبلغت هذه الظاهرة ذروتها في عقد الستينيات الذي أنجب كوكبة من الكتاب مثل يحيى الطاهر عبدالله، وإبراهيم أصلان، ومحمد إبراهيم مبروك، وعبد الحكيم قاسم، وبهاء طاهر، وغالب هلسا، ويوسف القعيد، وسليمان فياض، ومحمد صدقي، وغيرهم، وكانت المجلّات تُصدِر أعداداً خاصة عن القصة القصيرة، ومن بين هذه المجلّات أصدرت مجلة «القصة» التي كان يرأس تحريرها محمود تيمور عدداً خاصاً عن شباب كتّاب «القصة»، تحت عنوان: «عن الطلائع»، وصدر العدد في يونيو 1965، ومن بين الذين حظيوا بالنشر في هذا العدد: محمد البساطي، ومحمد حافظ رجب، وضياء الشرقاوي، وأحمد هاشم الشريف، وغيرهم، وكل هؤلاء أصبحوا نجوماً لفن القصة في العقود التالية، وعملت المجلة على تكليف عدد من النقّاد لكي يعدّوا قراءات نقدية عن القصص المنشورة، وقد كان لجمال الغيطاني قصة عنوانها «أحراش المدينة»، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره، وكانت القصة باختصار تحكي قصة شاب خرج من السجن، ولم يجد أمه، مما دفعه للبحث عنها في أماكن مختلفة، واصفاً إياها بدقّة وسارداً لتفاصيل استثنائية في حياتها ولِما كان بينهما، وقد عَقَّبَ- نقدياً- الناقد الراحل الدكتور علي الراعي، وكان علي الراعي ذا حضور نقدي وثقافي كبير، فكتب يقول: «في هذه القصة تأثّر الكاتب خُطى نجيب محفوظ تأثّراً واضحاً وخاصة رواية «الطريق»، هنا التكنيك ونفسه الموضوع، بطل نجيب محفوظ يبحث عن أب، وبطل القصة يبحث عن أم، ويبدو أن كاتب القصة قد جعل للأم في قصته أكثر من معنى، كما جعل نجيب محفوظ يمنح للأب في روايته معنى مركباً، فقد يعني الكاتب بالأم الصلة العضوية التي تربط الإنسان بالحياة، وقد ترمز عنده إلى حياة هانئة عاشها البطل قبل السجن ثم خرج فلم يجدها، وقد تشير إلى ركيزة كان يستند إليها، فانهارت... والتكتيك الذي يستخدمه نجيب محفوظ للوصول إلى قرّائه تراه هنا مطبَّقاً بحذافيره...

تواجد الماضي والحاضر.. تداخل الصور.. إلقاء الوصف التقريري وتحويله إلى صور مركَّزة.. إلقاء حوادث الزمان والمكان في رواية حوادث القصة والاعتماد على تتابع الصور كما يحدث في الأفلام.. إلى آخره، ولا أعرف أن الكاتب قد كتب قصصاً أخرى غير هذه، ولكني أنصح له بعد أن يتشرَّب تكتيك ومادة نجيب محفوظ، بأن ينتقل إلى مرحلة أعلى من مراحل الكتابة، وهي مرحلة الإبداع على أساس مما تعلَّمَ على نجيب محفوظ وغيره..».

وأزعم أن هذه القراءة هي أول ماكتبه ناقد بحجم ومكانة علي الراعي عن إبداع جمال الغيطاني، ورغم أن جمال الغيطاني كان مايزال في بداياته، إلا أنه تحفَّظَ على قراءة الدكتور علي الراعي، وأرسل ردَّاً مطوَّلاً معلِّقاً على هذه القراءة، والحقيقة أن هذا التعليق كان ينمّ عن وعي مبكِّر وناضج لدى الكاتب الشاب، ونشرته المجلة في العدد التالي مباشرة، وقد جاء في التعليق: «.. يقول الدكتور علي الراعي أن موضوع القصة هو نفس موضوع رواية «الطريق» لنجيب محفوظ، الحقيقة أن القصة من هذا النوع من القصص الذي يطلقون عليه «قصص البحث»، وما رواية «الطريق» إلا حلقة في سلسلة طويلة من هذه القصص، لها جذور بعيدة ممتدّة في أحشاء التاريخ، وما البحث إلا موضوع من هذه المواضيع الخالدة التي ظل الأدب الإنساني يتناولها في مختلف العصور وشتى المراحل، شأنه شأن الحب والكراهية والغيرة والبطولة، إننا نجد في الأدب الفرعوني قصة إيزيس الباحثة الصبورة عن أشلاء زوجها أوزوريس الذي قتله إله الشرّ (ست)، كذلك في الأدب والأساطير اليونانية حيث يدور ياسون في بحث دائب شاق عن الجزيرة الذهبية لكي يسترجع ملك والده، وحيث نرى تليماك يذرع الأرض طولاً وعرضاً بحثاً عن أوديسيوس أبيه المفقود، كذلك نجد البحث في قصص السندباد وشهرزاد التي تعجّ بها «ألف ليلة وليلة»، أما في العصر الحديث فنجد قصص البحث عند مارسيل بروست الروائي الفرنسي في سعيه وراء الزمن الضائع، وعند جويس في قصته الرائعة «عوليس»، حيث يبحث مستر بلوم طوال يومه عن الهدف الذي يقصده «زوجته»، أيضاً نجد فرجينيا وولف تغوص في أعماق النفس بحثاً عن الذات، وفي أدبنا العربي الحديث يبحث صابر عن أبيه، عن الحياة الكريمة والحرية، وفي أحراش المدينة يبحث البطل عن أمه التي خرج من السجن فلم يجدها.إذن، فقصص البحث قديمة قدم الأدب الإنساني نفسه».

وراح الكاتب الشاب جمال الغيطاني يقارع الحجّة بالحجّة طوال تعقيبه النقدي المميَّز في مرحلة مبكِّرة جداً من حياته، والجدير بالذكر أن الغيطاني نشر مجموعته التي أحدثت دويّاً كبيراً عام 1969، وهي «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، ولم تكن هذه القصة المذكورة ضمن ما نُشِر من قصص في تلك المجموعة.



المصدر: مجلة الدوحة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى