محمد طه الحاجري - الكلب والديك في كتاب (الحيوان) للجاحظ

يعرف كل قراء الجاحظ تلك الخصومة الحادة العنيفة التي أثارها أبو عثمان، في أول كتابه الحيوان، بين الكلب والديك، وتلك المناظرة الطويلة المسترسلة المفتنة شتى الأفانين، والذاهبة في شتى مذاهب الكلام بين صاحب هذا وصاحب ذاك؛ دون أن يكون بينهما - في حقيقة الأمر - خصومة، أو سبب يدعو إلى المناظرة، وإنما هي عبقرية الجاحظ التي لا تفتأ تبدع وتبتكر، وأسلوبه المتدفق الذي لا يألو يشقق الكلام ويولد المعاني والصور. ذلك الظن السائد نلجأ إليه كثيراًُ في تفسير مثل تلك المناظرة الغريبة. ولكني أحسب أن الأمر بين الكلب والديك أعجب من أن يكتفي في تفسيره بتلك الصفة الغالبة، والنظرة العاجلة المقاربة.

فلقد أطنب الجاحظ في تلك المفاضلة إطناباً غريباً، حتى كسر عليها جزءين كبيرين من كتابه، لعلهما يقربان من ثلثه؛ ثم كأنه لم يكتف بذلك، فترى حديث صاحبه الكلب وحديث مناظره صاحب الديك يتخللان الأجزاء الأخرى.

ثم إن هذه المفاضلة غريبة أيضاً في كتاب الحيوان، فقد سار الجاحظ في أبواب الكتاب التي تلي ذلك الباب على منهج غير ذلك المنهج، فليس إلا وصف الحيوان، وبيان عاداته وطبائعه، ومزاياه ومساوئه، ورواية النوادر عنه، والآثار الأدبية التي تدور حوله، وحكاية كلام بعض علماء الحيوان والمعنيين بأمره، مثل أرسططاليس وأقليدون، دون أن يعرض للمفاضلة بين هذا الحيوان وذاك، إلا قليلاً لا نكاد نلحظه. فالأمر بين الكلب والديك إذن ليس متمشياً مع طريقة الجاحظ في الكتاب عامة، فما الذي جعله يميزه من غيره، ويسلك فيه أسلوباً على حدة

وأخرى لا سبيل إلى الإغضاء عنها، وهي وجه اختيار هذين الحيوانين بالذات ليكونا موضعاً للمقارنة والموازنة والمفاضلة وما من سبب، فينا يبدو، يجمع بينهما، أو يدع سبيلاً للتنظير والتفضيل. ولعل السبيل بين الضب والنون أو بين الملاح والحادي كما يقول البلاغيون أكثر استقامة مما هو بين الكلب والديك. ولو أن الجاحظ يريد المقارنة وحدها، والمقابلة بين خلقيهما، لكان ذلك مستساغا؛ أما أن يجعلهما خصمين، وينصب لكل منهما صاحباً يهاجم باسمه، ويدافع عنه، ويناضل دونه، دون أن يكون بينهما جامعة طبيعية إلا جامعة الحيوانية، فأمر لا نستطيع أن نصفه إلا بالغرابة. فهلا ناظر بين الفيل والبعير، أو بين الثعلب والذيب!!

ورابعة تلفت نظرنا، وتثير دهشتنا، وهي ما أشار إليه في أول كلامه من أن هذه المناظرة كانت تثور بين شيخين من علية المتكلمين، ومن الجلة المتقدمين، فما للمتكلمين ولهذا؟ وما شأن الكلب والديك في الكلام على الصفات والقدر، أو المناظرة بين النار والمدر؟! لسنا ننكر أن من أول ما كان يعنى به المتكلمون، وخاصة المعتزلة، بيان دقائق صنع الله في الكون، وحكمة الله في الخلق، على نحو ما في رسالة (الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير) لإمامنا الجاحظ. فهل نستطيع أن نفهم أن تلك المناظرة إنما كانت تأخذ هذه السبيل وتتجه إلى تلك الغاية؟ إن من العسير أن نقنع أنفسنا بهذا في مثل ذلك الذي صوره الجاحظ بين الكلب والديك. وإذا أجزنا ذلك بوجه من الوجوه فأنا نتساءل مرة أخرى: ما بالهم لم يختاروا من جميع الحيوان موضوعا لهذه المناظرة إلا ذينك الحيوانين - على ما في المفاضلة بينهما - فاقتصروا عليهما، ولم يعدوهما؟

فالمسألة كما يرى القارئ الكريم غامضة، لا يكفي في بيانها ذلك التفسير العام المبهم الذي يفسر به أسلوب الجاحظ جملة واحدة.

إن ذهناً دقيقاً كذهن الجاحظ مارس الفلسفة وأساليب المتكلمين، حتى صار رأساً لطائفة من المعتزلة تدعى باسمه، ليس من القريب احتماله أن يأخذ في الكلام اعتباطاً، فيناظر بين الكلب والديك وليس بينهما وشيجة أو سبب. فإذا كنا لا نرى بينهما صل ذاتية، فلا بد أن تكون بينهما صلة أخرى خارجية، هي التي مهدت السبيل للمناظرة، فما هي هذه الصلة وأين نلتمسها؟

هل هناك صفات أضيفت إلى الكلب تقابل صفات أخرى أضيفت إلى الديك بحيث يكونان متناظرين؟ أما أننا يجب أن نتلمس ذلك تلمساً في روح العصر الذي كتب فيه الحيوان، وفي التيارات الاجتماعية التي كانت سائرة فيه، وفي الآثار الأدبية التي بقيت لنا حول هذين الحيوانين.

وإذن فأنا أزعم أن هذه المناظرة بين الكلب والديك كانت صدى من أصداء تلك الحالة الاجتماعية الشديدة السلطان في العصر العباسي، والتي أخذت تتغلغل في المجتمع الإسلامي منذ أوائل القرن الثاني، وبلغت عنفوانها في عصر الجاحظ وأعني بها تدافع العنصرين العربي والأجنبي على التأثير في الحياة مما أنتج تلك الخصومة العنيفة بين العرب والشعوبية، تلك الخصومة التي جعلت تمتد وتنتشر وتغمر الجو هنا وهنا حتى لم يخلص من سطوتها ذانك الحيوانان المسكينان، لأن إحداهما كان يضاف إلى العرب والآخر كان يضاف إلى العجم. فالعرب كانوا في نظر الفرس قوماً جفاة غلاظاً رعاة إبل وغنم؛ الكلب أصدق أصدقائهم، وألصقصاحب بهم، وأعز رفيق لديهم، وهو ما هو ضعة شأن وهوان منزلة وخبثاً ولؤماً وقذراً ودناءة. والفرس في نظر العرب كانوا قوماً أنباطاً أصحاب قرية، قد أخذتهم طبيعة حياتهم بالاستكانة والذلة، فلا كرم ولا نجدة ولا أريحية، كل ما لهم الدجاج والديكة، تمثل ضعفهم، وتبرز بخلهم وضيق حياتهم. وهكذا أخذت الخصومة بين العرب والشعوبية مظهراً طريفاً من الخصومة بين الكلب والديك والتنابذ بينهما.

وهنا يجئ دور المتكلمين الذين أشار إليهم الجاحظ، ونحن نعرف عنهم أنهم لم يساهموا في هذه العصبية، وإن نسب المسعودي إلى طائفة منهم شيئاً منها، فرد عليه الأستاذ الكبير أحمد أمين في الفصل الذي كتبه عن الشعوبية في كتابه (ضحى الإسلام)، فأرادوا أن يحولوا تيار هذه الخصومة العصبية إلى ناحيتهم، وأن يصبغوها بصبغتهم، وأن يجعلوا من هذه المناظرة سبيلاً من سبلهم إلى بيان حكمة الله في المخلوقات، ودقائق صنعه في الكائنات. ثم جاء الجاحظ فأخذ هذه المناظرة وجعلها باباً في كتابه، فأفاض فيها وتدفق، وجمع فيها بين الكلام والحكمة والأدب على طريقته.

هذه صورة المسألة كما ثبتت لدينا، ولا تكلف فيها ولا تعسف، وإن بدت في أول الأمر غريبة. فأما أن الشعوبية كانت تعيّر العرب باتخاذ الكلاب فأحسبه مما لا نزاع فيه، فقد كانت لا تفتأ تتجنى على العرب المساوئ والمعايب، ولعل في هذا القول الذي يرويه الجاحظ عن بعض المتعصبين على العرب ما يدلنا إلى أي حد كان تجنبهم. قال الجاحظ: (وزعم لي سلمويه وابن ماسويه مطيّب الخلفاء أنه ليس على الأرض جيفة انتن نتنا ولا أثقب ثقوباً من جيفة بعير، فظنت أن الذي وهّمهما ذلك عصبيتهما عليه، وبغضهما لأربابه).

أما الديك فكان عند العرب من أظهر ألوان الحياة الفارسية، فهم دائماً يضيفونه إلى العجم. ومن ذلك قول الشاعر:

لعمري لأصوات المكاكي بالضحى ... وسوء تداعي بالعشي نواعبه

أحب ألينا من فراخ دجاجة ... ومن ديك أنباط تنوس غباغبه

وعن قتادة أن أبا موسى الأشعري قال:

(لا تتخذوا الدجاج في الدور فتكونوا أهل قرية) ويفسر الجاحظ هذا بأن الديك من خصائص الحياة المدنية، وكان ولاة العرب حريصين على أن يظلوا عرباً، وأن يحتفظوا بمواهبهم الحربية التي لا تلبث أن تضعف فيهم، ثم تتلاشى منهم، إذا هم ركنوا إلى حياة القرى، فاتخذوا الديكة التي هي منأبرز مظاهرها.

وهكذا نرى أن الصلة وثيقة بين العجم والديك بقدر ما هي وثيقة بين العرب والكلب، وأن كلا منهما يعتبر من خصائص الحياة الاجتماعية لذويه، وأن العرب كانوا يكرهون الديك وينفرون منه بقدر ما كان الفرس يمقتون الكلب ويسخرون من أصحابه.

وهناك دليل آخر على ما أسلفنا من أن الديك كان شديد الصلة بالأعاجم فيما يرى العرب، حتى كان يرمز في العقل العربي إليهم، وهو - فيما نحسب - دليل قوي، لأنه يجئ من عالم الأحلام، ومجالها العقل الباطن فيما يذهب إليه المحدثون من الباحثين. ذلك هو ما حكاه الدميري في كتابه (حياة الحيوان الكبرى) قال: (روى مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوماً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني رأيت رؤيا لا أراها إلا لحضور أجلي، وهي أن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، فحدثتها أسماء بنت عميس، رضي الله عنها، فحدثتني بأن يقتلني رجل من الأعاجم) وهناك رواية أخرى للحاكم ليست فيها أسماء بنت عميس: (قال على المنبر رأيت في المنام كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات فقلت أعجمي يقتلني) ثم إنه مهما تكن قيمة هذه الرواية فان تأويل الديك بالأعجمي يدل وحده دلالة صريحة على ما ذكرنا. ويضاف إلى هذا ما حكاه ابن سيرين من أنهم كانوا يؤولون الكلب الأسود بالعربي. وإذن فقد تم الأمر من وجهيه، وتضافرتالدلائل على أن ذلك الغرض الذي افترضناه قريب لا تكلف فيه ولا تعسف.

على أن هذا الغرض - فوق تفسيره لموقف الجاحظ - يفسر لنا طائفة من الأحاديث الموضوعة، لم نفهم من قبل السر في وضعها، والعناية بصنعها، فنحن نعرف كيف كانت الطوائف المختلفة تجتهد في وضع الأحاديث ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتأييد مذاهبها، ونشر الدعاية لمبادئها، ومثل هذه الأحاديث نستطيع في غير عنت أن ندرك السر في وضعها. أما تلك المجموعة من الأحاديث التي نحن بصددها فيبدو في بادئ الرأي أن وضعها كان عبثاً ولهواً وسخرية، وإلا فما ظنك بهذه الأحاديث التي وضعت عن الديك، ووضعته في صف الملائكة المقربين. كذلك الحديث الذي ذكره صاحب التهذيب، في ترجمة البزي - وقد قال عنه إنه ضعيف الحديث - وهو: (الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل، يحرس بيته وستة عشر بيتاً من جيرانه) أو ذلك الحديث الآخر: (ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى: صوت الديك، وصوت قارئ القرآن وصوت المستغفرين بالأسحار). أو ذلك الحديث الثالث الذي يعتبر بدعه فنية خليقة بالخيال الفارسي المترف، وقد رواه الطبراني في معجمه: (إن لله سبحانه وتعالى ديكاً أبيض، جناحاه مُوشّيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ: جناح بالشرق وجناح بالمغرب، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء، يؤذن في كل سحر، فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين الإنس والجن، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض، فإذا دنا يوم القيامة يقول الله تعالى ضم جناحيك وغض صوتك، فيعلم أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت) ومثل ذلك كثير مذكور في الكتب.

أفي الحق أن كل ذلك كان عبث عابث ولهو لاه ساخر؟ أكل ذلك العناء في وضع تلك الأحاديث، والتكلف لها وتلفيق أسانيدها، وذلك الجهد الذي لا نشك في أنه كان عظيماً من أجل امرارها وإدماجها بين الأحاديث الصحيحة، أكل أولئك كان لهواً ولعباً لا غاية ولا هدف يتجه نحوه؟؟

كلا! وإنما هي الشعوبية التي أسرفت في وضع الأحاديث عن فارس وسلمان الفارسي وغير ذلك، هي هي التي أوحت بتلك الأحاديث الغريبة في تمجيد الديك وتقديسه، باعتباره رمزاً فارسياً.

وإذن فقد استطاع ذلك الفرض أن يكشف لنا عن السر في وضع تلك الأحاديث الغريبة، وأن يبين لنا لوناً من ألوان ذلك النزاع بين النزعة العربية والنزعة الشعوبية.


محمد طه الحاجدي
مجلة الرسالة - العدد 178
بتاريخ: 30 - 11 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى