أسامة بدير - ملاك

لقد عاهدت نفسى منذ سنوات طويلة ألا أكتب رأى إلا عن قناعة تامة وربما تجربة شخصية مرت بحياتى… وها أنا الآن اكتب مقالى الأسبوعى عن تجربة شخصية وقفت أمامها مُكبل الأيدى، أتأمل تلك التجربة بكل واقعية وتجريدية، دون أدنى زيف… تجربة إنسانية بحتة اختلطت فيها كل معانى الرومانسية الجميلة الراقية مع منظومة القيم والأخلاق السائدة فى مجتمعنا العربى…

كيف ذلك؟ وما وجه الربط بين التجربة الشخصية ومعنى الرومانسية ومنظومة القيم فى المجتمع العربى؟

.. قصتى بدأت عبر شبكة التواصل الاجتماعى الفاس بوك عندما وجدت حرب ضروس بين قرابة الخمسة آلاف صديق على صفحتى يتناحرون بين مؤيد ومعارض لجماعة الإخوان المسلمين التى فى سدة الحكم الأن.. شتائم وبذاءات من كلا الطرفين، وإن كانت حدتها أقوى بكثير من جانب الطرف المعارض لسياسات الرئيس الدكتور مرسى وجماعته.

قررت تدشين صفحة تحمل اسم الشبكة الدولية للرومانسية فى محاولة منى لتهدئة النفوس، ومن أجل استراحة محارب لكلا الطرفين، كانت رؤية الصفحة تتلخص فى أنها تسعد بكل الأصدقاء أصحاب الحس المرهف والذوق العالى والرقة فى التعامل مع الآخرين، وكل من يحلم بعالم يسوده الحب والوئام والتعاون والسلام بين الشعوب…..

ومن أجل تحقيق الصفحة لرسالتها السامية نوهت إلى أنه ينبغى على الاصدقاء نشر اسهاماتهم فى صورة شعر، قصة قصيرة، زجل، خواطر شخصية، فى إطار إثارة المشاعر والأحاسيس التى تسمو بالإنسان وترتقى به فى سياق حقوقه كإنسان، لبلورة وتفعيل الرومانسية والدعودة إلى نبذ العنف والصراعات بكافة أشكالها وصورها.. فالبحب وحده يحيى الإنسان.

وبعد مرور ثلاثة أيام فقط بلغ عدد الأصدقاء على الصفحة 664 صديق يساهمون بإسهاماتهم الرقيقة التى تؤكد على كل معانى الرومانسية الجميلة، التى ينبغى أن تحكم العالم أجمع فى جو من الحب والوئام بينهم جمعيا على اختلاف أيديولوجيتهم الفكرية والجيومكانية.

وفى ظل هذا المناخ الصحى الذى جمع بين بنو البشر من أجل تحقيق رسالة حب وسلام بين شعوب العالم أجمع… كانت “ملاك” فتاة مغربية جميلة ورقيقة بإسهاماتها على الصفحة تزيدها جمالا وحرارة…

“ملاك” فى أواخر العقد الثانى من عمرها.. تملكها عواطف جياشة تحركها لإبداع كلماتها العذبة الحنونة التى حملت كل معانى الرومانسية الجميلة، إلا أننى كنت اختلف مع بعض من كلاماتها التى كانت تخرج عن سياق رؤيتى السامية التى ترتقى بالإنسان ذكرا كان أم أنثى، بعيدا تماما عن اثارة الشهوات الجنسية وحتى لا تجعل قائلتها مطمعا لكل صاحب هوى جامح لتلبية عاطفة الجسد.

لقد تواصلت مع “ملاك” ودار بيننا حوار طويل وعميق ربما استمر لساعات طويلة اقتربت منها أكثر فأكثر… فتعرفت على ذلك الكائن الملائكى الذى صارع طويلا من أجل البقاء على قيد الحياة حتى اللحظة… كانت “لملاك” قصة إنسانية صعبة ومؤلمة ذاقت خلال تسع سنوات هى عمر قصتها الشخصية كل ألوان القهر والتعذيب… لقد تزوجت “ملاك” فى سن صغيرة جدا رغم أنفها نتيجة ضغوط أسرتها من شخص يكبرها بـ20سنة واستمر الزواج لتسع سنوات، ارتكب معها ذلك الرجل كل ما ترفض الحرة الأبية أن يحدث معها.. كانت سقطاته كثيرة.. وفضائحة مستمرة.. أخيرا اكتشفت “ملاك” أنه يخونها… كان الموقف رهيبا خاصة عندما تكون الزوجة عفيفة رقيقة جميلة الكل يرى فيها أنها الزوجة المثالية التى يحلم بها أى شاب.

لكن للأسف الشديد هذا الزوج الخائن الذى أضحى لا يتمتع بأى مصداقيه ولا أبسط سمات الرجولة فى نظرها استمر فى تنفيذ مخططه الحقير من أجل الحصول على كل ملذاته، والسعى لأن ينهل منها ما يستطيع فى سلسلة من المشاهد القذرة والحقيرة يعف اللسان عن ذكرها والقلم عن كتابتها.
عاشت “ملاك” سنوات من الظلم والقهر والاستبداد فى ظل مناخ ملوث تحت ضغط عادات وتقاليد بالية تحكم مجتمعنا العربى، وتسيطر على حياتنا وسعادتنا رغم كونها تعد إرث من الماضى السحيق الذى ينبغى أن يتم التخلص منه حماية لكرامة فتياتنا، وصونا لهن من حياة الاستعباد الذى قرر الرجل الشرقى وفق مفهومه الخطأ والباطل، أنه بمجرد الزواج بفتاه يكون امتلاكها وباتت من ضمن ميراثه يفعل بها ما يشاء بصرف النظر عن كونها إنسانه لها ما له من الحقوق تماما وربما أكثر.

أخيرا استطاعت “ملاك” التخلص من زوجها الشرير بعد أن خلعته بقوة القانون.. لكن أصبحت “ملاك” امرأة مجروحة جرح كبير بات ينزف ليل نهار.. كان علاجها الوحيد على حد قولها نظم الشعر الرومانسى الذى كانت تحلم شأنها شأن أى فتاة أن تعيش على واقع كلماته الرقيقة الدافئة..

ورغم كل المواقف الصعبة التى مرت بحياة “ملاك” إلا أننى أبديت تحفظى على الشعر الذى كانت تكتبه، على اعتبار أنه شعر من وجهة نظرى يكتب فى اجندة خواطرها الخاصة، ولا ينشر على العامة خاصة أن الفاس بوك وسيلة نشر جماعية فيها الصالح وفيها الفاسد، صاحب المتعة الرخصية الذى يفهم الشعر الرومانسى على غير حقيقته ما يجعل قائلته مطمع شهوانى بحت وينظر لها نظرة شهوانية حقيرة.

اشتد الخلاف بينى وبين “ملاك” بسبب نشر هذه الأشعار بكلماتها الرومانسية الساخنة، كان مبررها الدائم لى أن هذه الكلمات هى المتنفس الوحيد فى حياتى أعيش لأجلها وأموت بدونها.

وفى ذات مرة قالت لى “ملاك” أننى على استعداد لأن اتوقف عن كتابة هذه الأشعار لكن عندها سوف انتحر، فقلت لها لهذه الدرجة.. فقالت لو أنك عشت يوميا من حياتك مقهورا.. مذلولا.. تنتهك فيه حريتك وتدنس كرامتك.. ولا تستطيع فعل شيىء سوى الإستمرار يوميا بعد الآخر فى الحياة على هذا المنوال، ما كنت قلت هذا الكلام.

وجدت فيها إصرار غير عادى على الاستمرار فى كتابة هذه النوعية من الشعر رغم تحذيرى الدائم لها، كونه يحط من شأنها، ويهين كبريائها ويدنس كرامتها ويجعلها مطمع لأناس كثر على الفاس بوك، وأكدت لها ذلك من خلال تعليقات الاصدقاء التى كانت تكتب أسفل إسهاماتها.

بعد جولات من النقاش بيننا نجحت فى تحقيق بعض التقدم معها فالمرأة العربية تمتاز بقدر لا بأس به من الذكاء الاجتماعى والحب والحنان الذى تستطيع من خلاله أن تفرق بين الغث والسمين.. بين من يريد لها الخير ويخاف عليها ويحميها حتى من نفسها، وبين من يريد أن يملكها لهوى فى نفسه ثم يلقى بها بعد ذلك فى أقرب سلة مهملات بعد أن ينال منها ما أراد، استطعت أن أثنيها بعض الشيىء عن نشر مثل هذه النوعية من الأشعار ولكن سرعان ما عادت عن ذلك بعد مرور يوم واحد فقط معللاة نقضها لعهدها معى بأنها لا يمكنها أن تتوقف لان الشعر حياتها، وأكدت أنها باتت بين خيارين كلاهما أصعب من الآخر، التوقف عن كتابة الشعر يعنى لها الانتحار…

فجأة اختفت “ملاك” من على الفاس بوك ولست أدرى ماذا أفعل؟ أخشى أن تكون انتحرت أو حدث لها مكروه…
والسؤال الذى بات يطرح نفسه الأن بين كل المثقفين العرب وقادة الرأى والفكر التنورى المعتدلين فى مجتمعنا العربى: ألم يحين الوقت للتخلص من عاداتنا البغيضة التى تكرس من مفهوم أن المرأة متاع للرجل بمجرد عقد قرانه عليها يكون قد امتلاكها وباتت ارثا له؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى