حسام الدين نوالي - انتصارُ الواقعيّ في “تراتيل الغسق” لصفاء اللوكي ..

في أحد نصوص ألف ليلة وليلة، يسعى الملك “محمد بن سبائك” لمقايضة عرشه بحكاية، ويتساءل الدكتور عبد الله إبراهيم عن ما الذي يجعل “ملِكا” يخضع لسلطة التخريف لدرجة أن “يستمرئ وضع مملكته تحت أقدام راوٍ يطلق له عنان التخييل ويبدد إحساسه بالعزلة” (1).
وفي فجر الخلق الإنساني، يقايض آدم الجنةَ بحكاية الآتي المفترض، والتخييل الذي رسمه إبليس في غوايةِ الخلود” هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى” (2)، و”أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين” (3) بحيث يصير وجوده داخل الجنة وجودا في “عزلة ما” سيسعى لتبديدها عبر تصديق تخريف إبليس. فما الذي يجعل آدم يبادل بالخلود الواقعي الآني في الجنة خلودا آخر مفترضا موهوما متخيلا؟
الإقامة في المتخيل في المثالين القديمين تقابلهما الإقامة في الافتراضي الرمزي في عصر مواقع التواصل الاجتماعي وفي عصر المجتمع الرقمي اليوم، الذي ـ بصيغة ما ـ يستند إلى التخييل والتمثّل. ويبدو أنه ستقابلها إقامات مشابهة في الآتي السحيق، ما لم تتحقق طفرةٌ ما في الوحش التخييلي الذي يسكن الجنس البشري.
ذلك الوحش الذي غنّت له الكاتبة “صفاء اللوكي” تراتيلها القصصية في الغسق، وعن الغسق، ولم ينم، ولم تأخذه سِنة، ولكنه توزّع في المجتمع الحكائي الذي بنَتْه على أربع وعشرين نصا في مجموعتها القصصية الأولى (4) وتكاثَر. وانتقل من النصوص إلينا فعشّش في القارئ وتناسل في امتداد الخيال والرمز فيه.
فالتراتيل التي ليست غير معادل دلالي للامتداد الروحي، وللصوت الديني تحديدا، ستلتصق بالغسق ـ الذي ينتمي للعالم المادي وتحولاته ـ في عتبة أولى، وتوهم بدندنات الرهبان والقرآن المشهود، فيما سترتّب الكاتبة رسائلها بمهارة كي تقول عكس ذلك، وستلزمنا مسيرة بضع وعشرين نصا لنكتشف في آخر عبارة أن الغسق لم يكن غير مساحة الحزن التي يؤججها الغياب والمسافة بين الحبيبين؛ وأنه إقامة دائمة تعود إليه “الآنسة زرقاء اللون” باستمرار إلى ما لا نهاية (ص 66). وأن الترتيل امتدادُ وتكرارُ خطٍّ طويل لحكاية الحزن والغياب.
هذا الغياب الذي سيمثّل مدار المجموعة وفلَك نصوصها وتنويعاتها، كما لو أنها جميعا ـ أو بالكاد ـ تجليات وممكنات للحكاية ذاتها: حكاية العزلة وامتداداتها.

امتداد أول:
يمثل”الحلم” اكتمالا، وانتصارا داخل النصوص، وحيث يتوهج الحلم فإن الفرح يكبر، ويتحقق، ويصير امتلاءً. فيرتب الحلم عالم الاتصال، حيث الحبيبان يجتمعان افتراضا في النصوص ويفترقان واقعا: (لقاء 19، ثمة نور يتسلل 30، سيد الغياب 45، روتين 47…) وحيث المتعة كلها تتشكل في ما يرسمه الطرفان ـ تخييلا ـ حتى أن ساردة نص “ثمة نور يتسلل” تتردد بين فتح الباب للطارق وبين استمرار وقوفه خلف الباب “ذلك الطارق الذي يحاول إيجاد مكان في مضغة جامدة، لكنها لا زالت تخفق” (ص33). كما لو أنها تمدد بياض الحلم وتمططه وتدغمه في الواقع، إذ اندماج “الأبيض والأسود له نكهة خاصة” (ص32) تتحقق فيه المتعتان معا.
عزلة الشخصيات تدفعها لمقايضة واقعها بحلم، تماما مثل “آدم”، ومثل “محمد بن سبائك”، واقعٌ يكون فيه الطرف الآخر “سيد الغياب” باستمرار (ص45)، فتعيش الشخصيات روتينا تقرر فيه الأنثى كل يوم أن تفصح عن حبها، ويقرر الذكر كل يوم أن يفصح عن حبه ولا أحد منهما يفعل (ص45)؛ وحتى حين يعترف لها بعد مدّة بحبه فإنها تكشف له عن خاتمها وتتمنى “لو كان أسرع بشهر واحد فقط” (ص64). وبالمقاابل، فرغم أنهما يلتقيان يوميا، ويتجولان، ويقول لها “أحبك”، ويتواعدان، إلا أن حقيقةً تكتمُ أنفاسه ولا يستطيع البوح بها، سيعلنها في اعتراف ثقيل مفاده: “أحببتها، ولكن كأمي” (َ45).
طرفان سيظلّان على الدوام “ينسجمان، يحترقان، يفترقان”. (ص58). مثل شخوص المجموعة كلها لا يسع الواقع أفقها الوجداني والتخييلي لذلك “تجمع أغراضها وتغادر في أول رحلة مكوكية لعالم آخر” (ص49) والطرفان يحجزان عند أول مقعد.. هي من حيث أتت، وهو من حيث أتى” إلى عالم يؤثثه الحلم، ويبنيه الخيال (ص62).

امتداد ثان:
وحيثما يوجد الحلم فثمة بياض يقابله، ولأن “جيداء” “بيضاء الروح… فسيكون كل شيء على ما يرام”. (ص21).
البياض هنا ليس خواء، ولا فراغا، إنه امتداد عكسي للغياب، يصير اتصالا مثل بياض عين النبي يعقوب، بياضاً ليس غير هروب من الفقد والغياب إلى لقاء الابن يوسف هناك حيث لا يراه أحد، وهناك حيث الالتصاق بالله. ولهذا فلا غرو أن يوصف أرفع إله في كينيا وهو “مورونجو” بـــ”مالك البياض” (5) إذ البياض رؤية بالقلب كما يقول العابد الصوفي كلما “زُجّ به في الأنوار”.
تلك الرؤية بالقلب التي تخترق العتمة، تماما مثل الفتاة التي “بقلبها الأبيض كانت توقن بأن أهمية الشيء في الضوء” (ص23) ، كما لو “زُج بها في الأنوار”، لتكتشف بصوت الجدة أن “حبيبها من وهم” (ص24)، ذلك الوهم الذي كان يرتب نبضها وهي تنتظره، وتعد الكعك والقهوة وتترقب الباب، حتى إذا سمعت طرقا تفْتَحُ فلا يكون هناك ـ مثل بدر شاكر السياب ـ غير “طرق الرياح على الباب” (ص51).
خسارات ستتكرر في عدد من النصوص، وانكسارات في الانتصار للبياض وامتداداته، بحيث لا يغدو هذا البياض هروبا من الغياب وتحقيقا للوصل ـ مثل يعقوب ـ، بل يصير مضاعفةً للضياع وتجذيرا للفراغ. لهذا ستختار الساردة رحيلا قاسيا، وترتيبا جديدا للعالم، يصير فيه القلب ـ الذي يمعن في الانتظار والحب ـ أقل قيمة من فنجان الشوكولا الذي يغدو “أغلى ما أملك” (ص48).
وهو اختيار ـ في مستوى آخر ـ لمبادلة سواد الشوكولا ببياض الرؤيا، والخيال، بعدما كان اندماج الأبيض والأسود له نكهة خاصة (ص32)، وسيصبح الانتصار للشوكولا انتصارا للواقعي، وللحياتي بعدما صار “ذلك الشيء السائح بيننا أبيض كالشبح وباردا كأجسادنا” (ص61).

امتداد الحكاية:
حين تختار القاصة صفاء اللوكي الاشتغال على المادة الحكائية البسيطة والممتدة منذ فجر الإنسانية، وهي حكاية امرأة ورجل وعشق وغياب، فإنما تختار الحكاية الرتيبة، والمثخنة سردا ودرسا واشتغالا في الشعر والسرد والحياة، وحين تختار الانتصار للواقعي مقابل الرمزي، فإنما لتسير عكس التيار من آدم إلى آخر حرف حكائي في الآتي السحيق. ولتعلن أن انخراطنا اليومي في الافتراضي والتخييلي سواء أكان اختيارا واعيا أو حتمية عالمية الآن، فإن الرباط الأزلي للعشق سيظل متمنعا عن الخيال وعن الوهم والافتراض، ويتحقق ويعيش في الواقع، هنا حيث الحضور، وحيث فنجان الشوكولا، وحيث بابٌ لا تقرعه الريح… وحيث القداسة في تراتيل يتلوها العاشقون لبعضهم البعض.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السردية العربية، عبد الله إبراهيم.
2- طه، 120.
3- الأعراف، 20.
4- صفاء اللوكي، تراتيل الغسق- مطبعة آسفي-غراف- ط1- 2015.
5- معتصم زكي السنوي- الأبيض لغة الصمت…- موقع مجلة “المدى”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى