جمال الغيطاني - نوم

جمال.jpeg

لا أعرف متى بدأ ذلك؟ أحيانا ننتبه إلى العرض غير المألوف بمجرد وقوعه، تظل المرة الأولى محددة، جلية، نستعيد نشوءها، بزوغها المفاجئ، تعجبنا، تفحصنا، غير أن الغالب، الأعم انتباهنا بعد التكرار، لا يمكن تعيين لحظة، أو تحديد يوم، بالقياس إلى كافة ما عرفته هذا مستجد على ذلك إن نومي عسر، لا ألجه إلا بعد وقت غير قليل، أحيانا أتقلب لأكثر من ساعتين بينما ينشط ذهني وتتوالى الصور وتتزاحم المشاريع، يستنفر كل ما تم تأجيله يشتد ذلك خاصة عندما أكون مضطراً للاستيقاظ في وقت محدد مبكر لسفر أو قضاء حاجة لا يمكن التراجع عنها أو موعد يقتضي عناية وترتيباً. أما أن أسند رأسي إلى الوسادة وأروح على الفور في النعاس فهذا ما لم أعرفه حتى زمن مكوثي في المستشفيات التي اضطررت إلى قضاء أوقات فيها، لم أعرف هذا إلا في الشهور الأخيرة، يمكن القول بعد أن بدل الطبيب أنواع الدواء الخاصة بالشرايين، هل للأمر علاقة؟
ربما، لم أستفسر بعد لغياب الدكتور في سفر طويل، أنتظر عودته، لا أثق إلا به، لا أفضل تعدد الجهات التي ألجأ إليها في أمور تتصل بي.
في تلك الفترة التي تتراجع الآن مبتعدة بدأت ألاحظ قصر المدة التي أسلكها صوب الغفو، لم أعد أعاني التقلب وتغيير وضع الوسادة والتردد مرات على دورة المياه لإفراغ ولو قطرة أشتبه وجودها في مثانتي. ارتحت إلى ذلك. إلى اختفاء المعاناة التي كانت تؤرقني والتي دفعت بي إلى الترديد دائماً أنني لم أعرف النوم طوال ستين عاماً إلا مرتين أستعيدهما دائماً، الأولى عندما أمضيت في الشتاء السكندري أسبوعين متدرباً في معهد دراسي، كان ذلك عام أربعة أو خمسة وستين في سيدي بشر، كان ممكناً رؤية البحر من نافذة حجرتي المسدل عليها ستائر بلون الحليب، كما المبنى في نهاية الطريق الخالي في ذلك الوقت من الخريف، قرب الشتاء، عمارات خالية وشوارع نظيفة خلو تماماً من الضجيج وبحر يمتد بوجودي إلى حيث لا ادري ولا يمكنني التعيين، لن أنسى أبدا الهدوء الذي دثرني، والاستيقاظ نشطاً متوثباً كأنني أقدم من جديد، المرة الثانية في مدينة بون استضافني طلبة يقيمون في بناية قديمة، شقة فسيحة، غرفة مرتفعة الأسقف، فوق الأرض أغطية ومفارش وتكون مرقداً وثيراً متصلاً بالأرض مباشرة، طلبت الراحة قبل توجهنا إلى الجامعة. دخلت وتمددت في الرابعة، استغرقني نوم عميق، بصعوبة استيقظت على نداءات طالبتين دخلتا الغرفة ويبدو أنهما لاقتا صعوبة في إيقاظي، أستعيد استغراقي الذي لم أعرف له مثيلاً وتمرغي عند تمام صحوي وطلبي الخجول منهما أن يدعاني بمفردي قليلاً حتى أتمكن من الصحو، قالت إحداهما إن الوقت ضيق جداً، والمواعيد صارمة.
الناس ينتظرون فيما عدا ذلك لم أعرف النوم العميق، دائماً أمضي بنقصاني، عدم كفايتي منه، أردد خلال السنوات الماضية أنني في حاجة إلى الاستغراق، لذلك لا بد من التقاعد، غير أنني لم أجرؤ على تنفيذ ما نويته لأسباب يطول شرحها، غير أنني عندما انتبهت إلى رحيلي السريع إلى النوم ارتحت إلى ذلك في البداية، غير أنني بدأت أقلق عندما لاحظت تزايد تثاقلي، عادة كان ينقصني وقت معلوم ما بين استيقاظي واكتمال إفاقتي، لنقل ساعة حتى ساعتين، غير أن ذلك التثاقل يصحبني حتى وصولي إلى المكتب، أحط، فوق المقعد ولا أقعد.
أتحرك على مهل وكأنني التزم محاكاة التصوير البطيء، أقاوم رغبة في استئناف الإغفاءة، بدأت أتنبه إلى دخولي حال لم أعرفه من قبل، عندما يزداد ثقل جفوني ويبدو أمري كأني أحمل أثقالا فوق رأسي تزيدها قوة غامضة، مجهولة، أقوم لأغلق باب المكتب. أعود لأسند رأسي إلى ذراعي, أروح في النوم على الفور رغم أن الجلسة غير مريحة. وجسدي منحن إلى أقصى حد، أستيقظ على رنين الهاتف ألحظ قطرات لعابي التي سالت غصباً عني، أمسحها أفرك حدقتي، أفتح الباب لأستقبل ضيفاً جاء يستفسر عن بعض آرائي في الأحوال السارية التي لم أعد معنياَ بها. أطالع ما كان يستنفرني من قبل وكأني أقرأ أو أرى من وراء زجاج خفي فلا صلة ولا رابط إلا ما يبدأ من الدم وينتهي إليه.
أصعد السلم المؤدي إلى الطابق الذي أقيم فيه متمهلاً، لا تعنيني المدة التي أستغرقها، ما أدهشني أنني أدنو من الإغفاءة عند توقفي ما بين الطوابق متلمساً الراحة، لو اتبعت أمري لانحنيت مستنداً على الدرابزين وغفوت، في السنوات الماضية، بل حتى شهور قريبة ظننت أن عادة النوم فترة ما بعد الظهر قد ولت، فقد أتمدد على ظهري مغمض العينين، مستعيداً أو مستدعياً، أسترخي قليلاً لأقوم مغادراً إلى ما انتويته وقررت الشروع فيه، هذا عكس ما عرفته في الأسابيع الأخيرة إذ أصبح إدلاجي في النوم يسيراً، بل إنني لم أعد أجتاز الدرب غير المرئي الواصل بين اليقظة والغفو، صرت أمضي بيسر ونعومة، لا تقلب ولا ضجر، غير أنني بدأت أنتبه عندما أدركني ذلك في غير أوانه أو مكانه.
بدأ الأمر في العربة، خاصة عند عودتي إلى البيت عصراً، أجلس دائماً إلى جوار السائق، إما أن اقرأ ما فاتني من الصحف، أو كتابا أبسطه فوق ركبتي، أقلب أوراقه أثناء الحركة، كثيراً ما أتأمل حركة الطريق، العابرين، الملامح، أحوال الوجوه. تدفق الأنواع المختلفة من العربات، لم أعرف من قبل النوم أثناء الحركة إلا في الأيام الأخيرة، فوجئت برأسي يهوي ومرة أخرى انتبهت إلى ارتفاع أنفاسي مما جعلني أفتح عيني بسرعة وأتلفت حولي محرجاً من السائق الذي ظل مركزاً إلى الأمام. أكره الإغفاء على مرأى من الآخرين، أو في أماكن عامة فماذا يجري؟
شيئاً فشيئاً بدأت أرحل بسرعة، بل بمجرد ركوبي العربة، طفو ناعم، وثير، يليه استغراق، بل إنني صرت قادراً على إبقاء دماغي مرفوعاً بدون أن يميل صوب صدري، قلت إنه التعب، غير أنني كنت أعرف نوعاً مغايراً من النوم لم أطرقه ولم يأتني من قبل، كثافة ناعمة فيها قرب وبعد، إيغال وخروج، لم يعد يواتيني انزعاج، بل صرت أمضي إلى هذا النوع من النوم، أتوق إلى ذلك الغياب الميسور الموقوت، لفترة لم يعلق عندي أي حلم أو بقايا رؤية، ثم بدأت أرى صوراً تتداخل مع بعضها، كأن ألمح جزءاً من رجل ما يرتدي سترة زيتونية اللون يقف خارج السيارة ملتصقاً بها رغم حركتها بسرعة، أو سيقان غير متصلة بجسد تعبر أمامنا على مسافة، يد تمسك مكبر صوت يدوي شهرة فوق سلالم عريضة من رخام لا تؤدي إلى شيء.
لم أر صورة متكاملة أبداً، مجرد شظية من شيء ما، ظهور صورة ما يعني صحوي، أستيقظ عليها، في أبو ظبي تطور حالي، دعاني صاحب قديم إلى العشاء في بيته، تطوع أحد زملائه لتوصيلي إلى الفندق حيث أقيم، كنت قريباً من بيته، سيارة فاخرة، وثيرة، تعددت أسئلته عن مصر وأحوالها والمتوقع من الأحداث في مسارات مختلفة، أعرف تلهف المغتربين للإطلاع على الأحوال، كنت مضطراً إلى الالتفات ناحيته، رفع صوتي قليلاً، أثناء تطلعي إليه بدأ سعيي إلى جوهر تلك الإغفاءة الوثيرة التي أمضي عبرها غائباً، وحتى أقاوم انزلاقي الهادئ، أن أبقي جفوني مفتوحة، قبضت يدي اليمنى باليسرى، وبرغم ذلك ولجت ذلك القبو الذي لا أعرف إلى أين يؤدي.
لا أدري كم استغرق الأمر لأنني عندما رجعت كان ما زال يتحدث مفصلاً رأيه الذي لم أوافقه عليه، بدا لي بعيداً عن الواقع، مغايراً لما أجده، هل انتبه إلى غفوتي؟ أم أن تركيزه على الطريق حال دونه، لم أقدر الوقت الذي غبته بدقة، لكنني أيقنت من ملامح الطريق أنه ربما يكون جزءاً من الثانية ومع ذلك بدا لي حولا، كأني استغرقت أياما، بعد عودتي ملت إلى الصمت، الإصغاء، مبديا الإيماء أو معلقا بالصوت، الغريب أنني بعد تمددي فوق الفراش لم أنعس، إنما تقلبت قلقاً حتى كدت أرى ملامح الأرق القديم، عللت ذلك بتوتر ينتابني ليلة السفر، غير أنني أيقنت من بدء معرفتي لنوم مغاير لكل ما عرفته على امتداد عمري وتنقلي وأسفاري، نوم يدانيني حيث لا أتوقع، ويشملني عندما لا أدري، نوم يطلبني، يمضي إلي ولا أسعى إليه، يأتيني عندما لا أرغب، يأخذني على مهل، باسترخاء بدون مستفزات أو عثرات، لم أشك للأقربين ولم أبد انزعاجاً ولم أفكر في استشارة طبيب كأنني اخشي أن أفشي سراً ائتمنني عليه من أجهل، من لا أعرف، بل انتبهت فجأة إلى توقي للقائه عند بدء شموله لي، وتزايد أوقات التوالج والانسحاب.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى