حنان بكير - رجل بلا ظل.. قصة قصيرة

قطار منتصف الليل يغوص في الظلام الدامس، يشق طريقه وسط الغابات حينا، وقريبا من البحر أحيانا أخرى.. لينقلني إلى بيتي. بعض ركاب العربة حيث أجلس، بدوا متعبين بعد يوم شاق، منهم من استسلم لغفوة قصيرة، وبعضهم مثلي.. ما زال لديهم من الطاقة ما يحملهم على القراءة. كتابي كان مشوقا إلى الحد الذي أخذني من كل شيء حولي.
تنبهت فجأة إلى أني تجاوزت للتوّ محطة بيتي.. هوّنت الأمر على نفسي، وقلت سأنزل في المحطة التالية وأعود سيرا على الأقدام إلى البيت، رغم وحشة الطريق المعتم، فأنا اعتدت السير فيه .. ولكن نهارا.
ترجلت من القطار مسرعة تملؤني بعض الرهبة. ترجّل من القطار أيضا أحدهم، درت على نفسي عائدة، فتبعني ذلك "الأحد". لم أره لكني أحسست به. سرت فسار خلفي، بدأت نبضات القلب تشي بخوفي. أسرع خطواتي فيسرع خطواته خلفي. من يكون ذلك الرجل؟ على هذه المحطة نادرا ما يصعد أو ينزل الركاب، فهي منطقة غابات و البيوت هنا محدودة العدد.. العتمة المطبقة لا تسمح بظهور الظل، وحده الثلج الأبيض يلمع.. من تراه يكون؟ تيقنت بعد مسافة، إن الرجل الذي بلا ظل يتبعني خطوة خطوة.. أفصح قلبي عن رعبه الشديد بأن صار يضرب عظام صدري بقوة وكأنه يريد الإفلات مني!
من يكون هذا الرجل الذي فقد ظله؟ هل يكون عنصريا مريضا وجاءته فريسة سهلة، وعليّ انتظار طعنة سكين أو خنجر؟؟ أم هو " أحد" لم يعجبه نقدي لطرف سياسي أو دينيّ معين، وجاءته الآن الفرصة الذهبية!
توقفت عن التخمين.. فقط انتظر حدثا مؤلما. الطريق الملتوي والمظلم، يطول ويتمطط دون أن ينتهي. لم أجرؤ على الالتفات ولن افعل ذلك! فالموت أصبح أمرا محتوما! ورحلتي انتهت هنا. فكّرت فقط بما سأفعله لو انقضى كابوسي على خير، وماذا لديّ لأنجزه قبل رحيلي الأخير... انه هروب إلى الأمام.
لاحت أضواء تقاطع الشوارع الذي يودي احدهم إلى حيث اسكن.. سكنت قليلا وان كان ذلك " الأحد" ما زال يتابع خطوي أسرع فيسرع، أبطئ فيبطئ.. استكنت قليلا، فهو على، الأقل لو أراد بي شرا، لفعله في العتمة!
إنحرفت إلى الطريق الذي أريد، فتبعني.. وأنا لا أجرؤ على الالتفات.. هل يعقل أن طريقه هو طريقي ذاته؟ سرت نزولا فتبعني... حتى الأضواء لم تعد تمنحني الأمان، أخذت الطريق المختصرة إلى بيتي، فسار خلفي.. هذا الطريق لا يؤدي إلا لسكان البناية والتي لا تتجاوز الطابقين..
فوضى مشاعري قادتني للاعتقاد بأن ما يتبعني هو ظلّي الذي أثقلت العتمة والبرد خطواته، فأصبحت اسمعها.. صعدت درجات عدّة حيث موقف سياراتنا، فصعد الدرجات مثلي. كدت أنفجر ضحكا هستيريا.. لم يبق أمامي الا بضع درجات حتى أصل باب البناية، فأسرعت احتمي بالدرجات كمنطقة آمنة، فهذا الأحد، لن يدخل بنايتي. لكنه خيّب ظنّي وصعد خلفي، بيدي المرتجفة فتحت وأسرعت بالدخول، فدخل خلفي.. وضعت المفتاح في فتحة باب شقتي، فوضع هذا الأحد مفتاحا في فتحة باب شقته التي تجاور شقتي التي انتقلت اليها من فترة قريبة! فتجرأت على النظر اليه.. انه جاري الذي لم أره من قبل! ألقيت رأسي على كف إحدى يديّ وقلت له بعصبية منهكة:
لماذا نسيت محطتك؟ أجابني
لأنك أنت نسيت محطتك!
فأنا أعرف انك جارتي، فاسترسلت في القراءة، معتقدا بأني سأراك حين تنزلين، فقد كنت تجلسين على المقعد أمامي!
أنت شعرت بالأمان بوجود شخص آخر، فلماذا تركتني أسيرة خوف قاتل طيلة الطريق؟ لماذا لم تعرّف عن نفسك؟ قلت له وأنا أكتم غيظي.
أنا نرويجي وأنت عربية، فلم أشأ أن أتطفل على ثقافتك، ربما كنت حذرة من الحديث مع رجل غريب!
تمنينا ليلة سعيدة لبعضنا.. دخلت شقتي وأطلقت سراح قهقهة مكبوتة.. يحقّ لي الآن أن أحتفل بلحظة ميلادي الجديد بكأس نبيذ أمام وجاق النار.


* نشر في بيان اليوم يوم 22 - 12 - 2014

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى