علي حسين - علي حسين - دعونا نتفلسف.. المدينة الفاضلة والخروج من كهف أفلاطون إلى الشيوعية (10)

في الرابع والعشرين من كانون الثاني عام 1749 ، اقتحمت قوة من الشرطة ، منزلاً قديماً في احدى ضواحي باريس ، بناءً على شكوى تقدم بها عدد من الجيران يتهمون صاحب الدار بممارسة الشعوذة والسحر ، ولم تجد الشرطة سوى أوراق كتب عليها "رسالة عن العميان" ، كانت هذه الأوراق دليلاً على ان صاحبها المدعو دنيس ديدرو يمارس عملاً مخالفاً للقانون ، وهو التحريض على النظام الملكي في فرنسا : "انه شخص خطير، يتحدث عن الدولة والقانون باحتقار"، هكذا كتب ضابط الشرطة في لائحة الاتهام . ولكن لماذا وجد رجل الأمن ان رسالة ديدرو عن العميان خطيرة الى هذا الحد ، وما هي الأفكار التي أراد الفيلسوف الشاب ان يعبّر عنها ؟ يحكي ديدرو في "رسالة حول العميان" عن حداد أعاد له الطبيب نظره الذي حرم منه طوال عمره.














كان قد تعوّد طوال خمسة عشر عاماً على ان يتحرك ويتعامل مع العالم بواسطة حواس السمع واللمس والشم والتذوق ، فلما عاد له نظره صار لفرط ارتباكه يغلق عينيه ، حتى يتمكن من التعامل مع العالم الذي تعَّوده ، او بالأحرى لكي يتجنب التعامل مع مشاكل الواقع الجديد الذي أصبح فيه يبصر كل شيء، يسأل ديدرو : كيف سيجيب الأعمى حين تسأله عن الأشياء التي تحيط به ؟ ان تعريفاته ستتناسب مع خبراته ومع الطريقة التي يعيش بها في هذا العالم ، الرؤية الى العالم هي الموضوع الذي شغل ديدرو الذي آمن بأن :"الطبيعة لم تعط أي إنسان الحق في التحكم بالآخرين ، ولهذا عند الحديث عن هذا الفيلسوف المشاغب المولود عام 1713 سوف نرى ان الإنسان في نشأته الأولى كان متحرراً من القوانين ، الدينية والأخلاقية ، وأنه عاش حياة سعيدة ، لم تعرف الترف ولا الملكية ، وهذه المرحلة التي يسميها مرحلة الإبصار . بعدها جاءت المرحلة التي تم فيها سلب البصر من الإنسان ، ليصبح أعمى، عصاه التي يستخدمها في التعرف على الطريق هي الكنيسة وقوانين البلاد :"آه ان الفأس في إيديكم ، توجهوا بالضربة النهائية لشجرة الخرافة ، ولا تقتنعوا ببتر الفروع ، بل استأصلوا العشب الذي استفحلت أضراره المعدية ، كونوا على وعي مطبق بأن نظام الحرية والمساواة يتناقض تناقضاً صريحاً مع المهيمنين على مذابح الكنيسة ، وكراسي السلطة".
كان لأفلاطون تصور شبيه لما طرحه ديدرو في رسالة العميان ، كان يرى اننا في هذا العالم نُشبهُ مَن يجلسون منذ ولادتهم في كهف وظهورهم متجهة الى مدخله ، كلما مر أحد او شيء من أمام مدخل الكهف رأوا ظله على الحائط ، كل تصوراتهم عن العالم تنبع من هذه التجربة المحددة ، هذه الظلال هي العالم بالنسبة لهم ، في هذا المثال الذي تخيّله افلاطون ، يقرر أحد هؤلاء في وقت ما أن يقوم من مكانه ليخرج من الكهف تؤلمه عيناه في البداية ، لكنه يقرر البقاء في العالم الجديد ، يظل حائراً لأيام ، بعدها لعلّه سيبدأ في تفهم الحقائق الجديدة التي يقابلها ، لعله سيُدرك أن ما كان يعتبره من قبل هو كل العالم ، لم يكن سوى ظلالٍ لحقيقةٍ أوسع وأعمق وأكثر تنوعاً ، وحين يقرر فيما بعد العودة الى الكهف ، تكون كل تصوراته القديمة عن العالم قد اختلفت بالكامل . ما الذي سيحدث إن حاول ان يخبر رفاقه في الكهف عما رآه ؟ كانت حكاية الكهف هذه ، قد جاءت في الباب السادس من كتاب "الجمهورية" لأفلاطون ، الذي يعد الأشهَر والأعلى قامةً ومكانةً في تاريخ الفكر الفلسفي العالمي ، وقد عاش قبل أربعة وعشرين قرناً ، لكنه مايزال حتى هذه اللحظة يحظى بالثناء، حتى ان برتراند رسل وهو يكتب موسوعته في تاريخ الفلسفة الغربية وصفه بأنه :"الأعظم بين الفلاسفة ، صاحب بصيرة نافذة مكنته من مشاهدة عالمٍ متسامٍ قوامه الخير والصلاح والحب والجمال"، وقال عنه الانكليزي الفريد وايتهيد:"ان تاريخ الفلسفة ليس سوى سلسلة من الملاحظات الهامشية عن أفلاطون"، وقال عنه الفرنسي برغسون:" أفلاطون هو الفلسفة ، والفلسفة هي أفلاطون".
************

المعرفة أولاً
يتفق معظم مؤرخي الفلسفة على ان ارستوكليس ابن أريستون ، سمي أفلاطون لامتلاء جسمه وقوة بنيانه ، ولد عام 427 قبل الميلاد لأسرة أرستقراطية ترجع بأصولها الى ملوك أثينا الأوائل . وطبقاً لموسوعة الفلسفة التي كتبها فردريك كوبلستون، فإن أسرته الغنية أتاحت له ان يتعلم البلاغة والموسيقى والرياضيات والشعر ، كما كتب في شبابه أشعار الغزل وألّف مسرحية متأثراً بيوربيدس . وقد ظل حتى العشرين من عمره تحركه طموحات عائلته في العمل السياسي ، لكن حدث ان التقى الشاب أفلاطون بالمعلم سقراط ، ولم يكن هذا الارتباط اول علاقة لأفلاطون بالفلسفة، فقد سبق له ان تعرف على السفسطائيين ، واستهوته آنذاك أفكار هراقليطس . وقد تركت هذه الأفكار في نفسه أثراً قوياً ، ولكنه في الوقت الذي أخذت عائلته تطالبه بأن يعمل في مهنة أجداده ، جاء سقراط ساخراً ليقول له :"المعرفة اولاً" . لقد كان هذا هو الدرس الأول الذي تعلّمه أفلاطون من سقراط ، فقلب حياته ، وجعله يعيد التفكير في كل ما تعلّم من قبل . فبمجرد ان انتهى من حواره مع سقراط حتى ذهب الى البيت ليحرق كل قصائده ، ويمزق كل ما كتبه من قبل ، وينسى هيامه بالمسرح ، وكل ما يتعلق بعشقه للرياضة ، وتبع استاذه الشيخ الذي بدا وكأنه مارس عليه السحر ،على حد تعبير ديورانت في "قصة الفلسفة : " وقد رفض كل محاولات عائلته للحصول على وظيفة كبيرة في الدولة، فقد فضّل ان يبدأ بالمعرفة اولاً " . كان سقراط يحاول ان يوضح لأفلاطون مفاهيم الشرف والوفاء والأخلاق ، وكيف يكون الإنسان إنساناً ، وكيف يمكن له ان يعيش تحت حكم العقل حياة إنسانية متميزة ، :"ان أعظم خير للانسان هو ان يكون حديثه كل يوم عن الفضيلة والأخلاق والعدالة ، فالحياة غير المحصّنة بهذه القيم ليست حياة "
لم تدم رفقة افلاطون لسقراط طويلاً، فبعد ثماني سنوات من تاريخ اول لقاء ، يتم إلقاء القبض على سقراط وتقديمه للمحاكمة التي تأمر بإعدامه ، كان أفلاطون حينها في الثامنة والعشرين من عمره ، وفي محاورة الدفاع يقدم لنا افلاطون وقائع المحاكمة الشهيرة التي رفض فيها سقراط الاعتذار عن أفكاره وآرائه ، ورفض توسلات تلامذته بترتيب هروبه ، معللاً ذلك بأن الهرب فعل خاطئ لكونه مخالفاً للقانون ومنافياً للأخلاق ، معتبراً أن الأفراد الذين يخالفون قوانين مجتمعهم يقوِّضون الأساس الذي تقوم عليه الحياة الاجتماعية .
بعد موت سقراط يرحل أفلاطون عن اثينا ، وتطول أسفاره ، لكنه في النهاية عاد الى مدينته ليشتري قطعة كبيرة من الأرض ، أنشأ عليها أكاديميته الشهيرة ، والتي ظل يُعلِّم فيها طوال أربعين عاماً . وكانت الأكاديمية مدرسة ومعهداً للأبحاث الفلسفية والعلمية ، وكان تلامذته من الشباب الذين هيّأهم لكي يمارسوا العمل السياسي والفكري . وبعد عشرين عاماً يتلقى دعوة من ملك صقلية الشاب الذي كان معجباً بأفكار الفيلسوف فأرسل له رسالة يدعوه فيها لتطبيق أفكاره على نظام الحكم في مملكته :"الآن توجد فرصة طيبة يمكن من خلالها الوصول الى غايتك ، وتتحد الفلسفة الحقّة والسلطة كمُلك عظيم في الشخص ذاته". في صقلية حاول افلاطون ان يطبق نظريته عن الفيلسوف الذي يصبح ملكاً او الملك الذي يصبح فيلسوفاً ، والتي شرحها لنا في كتابه الشهير "الجمهورية" وفيه يعرض برنامج عمل للحكومة المثالية لمجتمع مثالي .
************

أول نظام شيوعي في التاريخ
" لاينبغي لأحد منهم ان تكون له أية ملكية خاصة من أي نوع عدا ما يكون ضرورياً بصورة مطلقة ، ثانياً لاينبغي لأحد منهم ان يكون له اي مسكن او مخزن على الإطلاق ، وهم وحدهم من بين كل رجالات المدينة لايجرؤون على ان تكون لهم أية معاملات في الذهب او الفضة او ما يمسوهما او الوجود معهما تحت سقف واحد".
يتساءل كوبلستون في موسوعته عن الفلسفة : "هل هذا وصف لنظام ديني قائم على الزهد ، أم وصف لجماعة ثورية ماركسية تريد اقامة نظام شيوعي ، أم انه نوع من أنواع روايات اليوتيبيا لمجتمع مستقبلي ؟ " انها في الواقع جزء من وصايا افلاطون للحكام ، كما وردت في كتابه الأشهر "الجمهورية" التي يطرح فيها عدداً من الأسئلة أبرزها :
1- ما الذي يربط أجزاء الدولة بعضها ببعض ويعطيها الاستقرار؟
2- هل الدولة شيء طبيعي ولازم ، أم أنها مسألة ثقافة يمكن ان تتغير؟
3- هل الموجودات البشرية تتعاون ام تتنافس؟
4- هل الناس متساوون ؟ ولو صح ذلك ، فبأي معنى ؟
5- هل القوانين ضرورية ؟
6- ما الذي يحدث لو ان مختلف الناس لم يتفقوا على أشياء معينة؟
7- هل للدولة غرض أم غاية؟
8- هل الدولة شيء خيِّر أم شيء سيئ؟
وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة على ان يصفوا المدينة التي صورها في الجمهورية ، بانها اول ما عرف العالم من مدن فاضلة ، وكانت غايته الأساسية في محاورة "الجمهورية" ، هي البحث عن العدالة وشروط تحقيقها ، وهذا الموضوع يستغرق اكثر من ثلاثة ارباع الكتاب . وفي الربع الأخير يعرض افلاطون مصادر الفساد التي تصيب الدولة والمواطنين وكيف تتدهور الدول فتتحول الى صورة فاسدة من الحكم .
يدور الحديث في الجمهورية بإسلوب رواية يرويها سقراط لمستمعيه وهم خليط غير متجانس منهم السفسطائي ومنهم الباحث عن الحقيقة ومنهم من يؤمن بالديمقراطية ، ومنهم من يرى في الحرية ضرراً على الاستقرار ، ويبدأ سقراط في السؤال عن ما هي العدالة ؟ فيقول بوليمارخوس انها تقتضي بأن يرد الإنسان كل ماله ، وانها معاملة كل حسب ما يستحق ، ويرفض سقراط هذا التعريف ، اذ كيف يضر العادل اعداءه وبمعنى اخر كيف يقترف العادل ظلما من خلال عدالته ، ويعترض تراسيماخوس الذي يقدم تعريفاً ثانياً للعدالة يؤكد فيه : ان العدالة ليست سوى العمل بمقتضى مصلحة الأقوى . وفي مقابل هذه الآراء نجد سقراط يلجأ الى تشبيه الحكم بأنه فن من الفنون المفيدة للانسان ، غايته تحقيق فائدة للغير لا لأصحابه ، ولهذا فإن الحاكم ضمن مفهوم افلاطون هو من يعمل لا لمصلحته الشخصية ، بل لمصلحة رعيته ، ثم يحاول سقراط ان يقدم وصفاً للعدالة ، فيقول ان لكل شيء وظيفة خاصة به ، فكما ان للعين وظيفة لاتشاركها فيها الأذن وفضيلتها في ادائها لهذه الوظيفة ، كذلك تكون للنفس وظيفة هي الحياة وفضيلتها في حسن توجهها للحياة لتبلغ السعادة ، وما العدالة إلافضيلتها التي هي وسيلتها للسعادة .
وفي رأي برتراند رسل ان العدالة في محاورة الجمهورية مبنية على الأخلاق لا العكس ، والسؤال الأول الذي يثار في المحاورة ، سؤال اخلاقي وهو : ما هي قاعدة الخير التي يتعيّن على الإنسان ان ينظم حياته وفقاً لها ؟ . وهنا يثير احد التلاميذ مفهوم العدالة عند الناس ، فيقول إن الناس لاترغب في العدالة لذاتها ، وانهم لايلتزمون بها إلا مجبرين حتى لايصيبهم أذى من غيرهم إن عرفوا بالظلم .
وهنا يرد سقراط لكي يثبت ان العدالة قيمتها في ذاتها ، وانها الخير الوحيد للنفس الانسانية ، وبها وحدها يدرك الإنسان السعادة .
سقراط : لتعلم إذن منذ البداية وعندما شرعنا في تأسيس مدينتنا ، أخذنا على عاتقنا واجباً هو ان نبيّن ما هي العدالة ، ولقد ذكرنا مراراً إن كنت تذكر انه لاينبغي لأحد ان يمارس إلا عملاً واحداً في المجتمع وهو العمل الذي هيأته له الطبيعة.
- أجل قلنا ذلك
سقراط : وقلنا ان العدالة تتلخص في انصراف كل إلى عمله وبدون ان يتدخل في أعمال الغير ، اي ان العدالة هي في اهتمام كل بما يخصه .
هكذا يبين أفلاطون ان خير الأمم ، هي تلك التي تقدر التخصص وسيؤدي كل المواطنين العمل الذي يتمتعون بالأهلية الطبيعية له ، بغض النظر عن المولد والنسب ، ويمكن للمرأة ان تصل إلى اعلى المراتب بسهولة . لم يكن افلاطون مناصراً للمرأة بالمعايير الحديثة ، لكنه يقول في الجمهورية إن المرأة يجب ان تحصل على الفرص نفسها التي يحصل عليها الرجل ، وان أية امرأة أثبتت كفاءتها يجب ان يسمح لها بالترقي في مراتب المجتمع .
واذا تساءلنا عن الأسباب التي دعت افلاطون الى تقديم هذا التعريف للعدالة والمساواة ، فإن الإجابة سنجدها في الفصل الذي خصص لمفهوم الدولة والمجتمع ، فالدولة تنشأ في رأي افلاطون من "عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته وحاجته الى أشياء لاحصر لها "، ولما كانت حاجات الفرد عديدة لايستطيع القيام بها لوحده ، فهو اذن في حاجة الى مساعدة المجتمع . وهنا يبين لنا افلاطون ضرورة الاجتماع البشري كأصل لنشأة الدولة ، فالدولة لاتنشأ الا لتلبية الحاجات المعنوية والمادية التي لايستطيع الانسان ان يلبيها بمفرده .
ان الدولة المثالية عند افلاطون هي التي تقوم على مبدأ تقسيم العمل بين افرادها الذين يضعهم افلاطون في جمهوريته في ثلاث طبقات أساسية هي: طبقة المنتجين وطبقة الجنود وطبقة الحكام ، وكل طبقة من هذه الطبقات ينبغي ان تؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل متحلّية بفضائلها وبدون ان تتدخل اية طبقة في عمل الأخرى ، ويشترط في طبقة الحكام ان تكون من الفلاسفة :"ما لم يتولَّ الفلاسفة الحكم في الدول ، أوان يتحول من نسميهم ملوكاً وحكاماً إلى فلاسفة حقيقيين ، وما لم نر القوة السياسية تتحد بالفلسفة ، وما لم تسن قوانين دقيقة تبعد من لم يجمعوا هاتين القوتين ، فلن تنتهي الشرور من الدول".
وهنا نتساءل ما الذي يعنيه افلاطون بالفلسفة ، انها عنده السعي الى المعرفة والحقيقة ، فاين الحقيقة ؟ هنا يخبرنا افلاطون ، ان الحقيقة ليست في الظواهر المحسوسة التي تتوالى على أبصارنا وسمعنا لأن هذه الظواهر ليست دائما كذلك ، ولا هي مطلقة فيما لها من صفات ، فلو فرضنا انها جميلة او خيِّرة فإنها ليست جميلة ولاخيّرة الا في جهة معينة ولوقت معين ، اما المطلق الدائم الحقيقي فهو مثالها العقلي ، الجمال في ذاته والخير في ذاته ، وهذه المثل هي وحدها موضوع علم الفيلسوف ، لذلك يفرق افلاطون بين الظن ،وهو المعرفة التي تقف عند حدود الظواهر الحسية، وبين العلم وهو المعرفة اليقينية التي تدرك الحقائق العقلية او المُثل .. ولتوضيح هذه الصورة يقدم لنا افلاطون حكاية الكهف التي ذكرتها في بداية المقال، فواجب الفيلسوف في قومه هو ان يكشف لهم وهمهم ، بعد ان يرتفع بهم من ادراك المحسوس الى المعقول .
ويؤكد الدكتور فؤاد زكريا في دراسته المطولة التي كانت مقدمة للترجمة العربية لجمهورية افلاطون ان الهدف الرئيسي لافلاطون هو وضع فن رفيع لتدبير شؤون النفس ، يتسع بحيث يشمل شؤون الدولة . ولهذا فإن الكمال الأخلاقي لديه لايتحقق الا بالتربية السليمة ، وقد عرض في الجمهورية نظاماً مفصلا للتربية وربطه بالأخلاق ربطاً محكماً، وقد جعل ديف روبنسوف في كتابه الشهير "فلسفة افلاطون" من فكرة التربية محوراً لتفسير فلسفة افلاطون ، فكل الأبحاث التي تضمنتها محاورة الجمهورية وضمنها مناقشة الأنواع المختلفة للدساتير ، واسباب انحلال الانظمة السياسية ، تستهدف في آخر الأمر غاية تربوية . ويوضح روبنسون وجهة نظره بالقول : " قد نظن لأول وهلة ان افلاطون كان يهتم بتأسيس دولة مثلى ،تحكمها صفوة مختارة مختارة ، وكان يخضع الأخلاق والتربية لهذه الغاية ، ولكننا عندما ندرس الجمهورية يظهر لنا بوضوح كامل ما كان يرمي اليه افلاطون ، فهو يبني السياسة على الأخلاق ، لأنه يؤمن بأن ، مبدأ السلوك الذي يرشد المجتمع والدولة هو نفسه الذي يرشد الفرد في سلوكه الاخلاقي " .
************

حلم المدينة الفاضلة
يقولون ان الحكماء أربعة : اثنان قبل الإسلام ، وهما أفلاطون وأرسطو ، واثنان بعده هما الفارابي وابن سينا . وقد لقب الفارابي بالمعلم الثاني ، ويقول "كارا دو فو" في ترجمته للفارابي في دائرة المعارف الاسلامية :" مذهب الفارابي هو مذهب الفلاسفة ، اعني الافلاطونية الجديدة " ، فرغم خوض أبي نصر الفارابي في الأمور الفلسفية كافة، الا انه اشتهر بكتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" الذي يقال انه سار فيه على خطى أفلاطون ، محاولاً بناء عالم مشابه لما جاء به افلاطون في " الجمهورية ، : " انما البشر، على تنافرهم، محتاجون الى الاجتماع والتعاون" . أي ان الإنسان، وفق مفهعوم الفارابي : " لا يستطيع ان يبقى وأن يبلغ أفضل كمالاته إلا في المجتمع. وهو يصف لنا مدينته الفاضله بأنها : " شبيهة بالجسم الكامل التام، الذي تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها" ، وكما ان :"مختلف أجزاء الجسم الواحد مرتّبة بعضها لبعض، وتخضع لرئيس واحد، هو القلب، كذلك يجب أن تكون الحال في المدينة" . وكما ان "القلب هو أول ما يتكوّن في الجسم، ومن ثم تتكوّن بقية الأعضاء فيديرها القلب، كذلك رئيس المدينة" . والرئيس هو انسان تحققت فيه الإنسانية على أكملها. وهي الفكرة المستعاره بحذافيرها من أفلاطون، الأمر الذي دفع المستشرق الفرنسي هنري كوربان للقول ان "المدينة الفاضلة تحمل سمة يونانية باستلهامها الأفلاطوني، لكنها تتجاوب مع التطلعات الفلسفية والصوفية لفيلسوف اسلامي " .
************

البحث عن يوتوبيا
صاغ توماس مور المولود عام 1478 كلمة " يوتوبيا " لتكون اسم البلد الخيالي الذي وصفه في كتابه القصير الذي ظهر عام 1516 ، تحت اسم "يوتيبيا" ، وقد ترجمه الى العربية انجيل بطرس سمعان في ترجمة متميزة ، وفيه يتخيل توماس مور ، والذي كان مستشاراً للملك هنري الثامن، وجود المدينة الفاضلة او جمهورية افلاطون في جزيرة متخيلة ، تأسس عليها مجتمع قائم على مساواة واسعة النطاق ، يحكمه رجال حكماء ، له قوانين صارمة ، لكنه يوفرالحياة الكريمة لمعظم مواطنيه ، ويذهب مؤرخي حياة توماس مور ، ان الرجل كان متاثراً بفلسفة افلاطون وقدم ترجمة من اللاتينية لجمهورية افلاطون اهداها للملك هنري الثامن . في "يوتوبيا مور " ، كما هو الحال في "جمهورية افلاطون" ، ليست ثمة ملكية خاصة، هناك الخير العام والمساواة. ، وقد حلم كاتبها وكان من المقربين للملك بان يعيش مواطنيه الانكليز حياة افضل وبنظام سياسي مثالي ، وهو الأمر الذي ادى به الى ان يسجن ويقدم الى المحاكمة ويقطع رأسه .
************
على مدار قرون ، حاول الكثير من الافراد والمجموعات البشرية تطبيق رؤاهم على أرض الواقع ، حاول البعض ان يحقق ذلك من خلال السلطة ، وحاول اخرون من خلال الفكر والحكايات الاجتماعية ، حتى ان ماركس كتب ذات يوم الى انجلز :" اعود بين الحين والاخر الى كتاب الجمهورية ، الحلم الذي اراد ان يحققه أفلاطون ، مجتمع عادل في دولة يسودها العدل والمساواة.. هذه هي الشيوعية".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى