شهادات خاصة حسن بيريش - محمد شكــري كما عرفته.. الإنسان، في النهاية، لا يعانق إلا نفسه· (16)

أحبها عن بعد

يكنُّ محمد شكري لأمه، السيدة ميمونة، حبا كبيرا· أما أبوه حدو لم أحبه يوما· كان عالة على أمي· لم يكن أبا محبا لأبنائه·
مرة سألته:
ــ هل كانت علاقتك جيدة بأمك؟
ــ علاقتي بأمي ظلت جيدة حتى وفاتها· كنت أحبها عن بعد· لم يكن ارتباطي بها قويا· كنت أزورها بين فترة وأخرى· أمي كانت سيدة محترمة· حظيت بحب كل من عرفها· لم أرفع صوتى يوما في وجهها· ولم أجرحها بكلمة نابية·
ــ ماذا كان موقفها من كتاباتك؟
ــ كانت تفخر بي· ولم تحاول قط الاعتراض على ما أكتبه· ذات مرة ذهب شخص إلى أمي وقال لها: ابنك شكري يؤلف كتبا تسيء إلى سمعة أسرتك· فقالت له: هو يعرف ما يفعل· لن أتدخل في عمله·
ــ هل صحيح أن والدك رفع دعوى قضائية ضدَّك بتهمة أنك لا تساهم في مصروف الأسرة؟
ــ نعم· حدث هذا في الستينات·
بدا شكري متضايقا من أسئلتي الفضولية· سارعت إلى تغيير الموضوع، قبل أن يجيئني صوته مستنكرا: آلسي، إديها ف سوق راسك!·

ــ يوميات

ــ ظهر 2003/1/2:
كنا نتحدث عن الصداقة بين الكُتَّاب· قال شكري:
ــ ليس كل من تعتبره صديقا هو كذلك بالفعل· أنا قدمت استقالتي من صداقة الكثير من الكُتاب!
ــ لماذا؟
ــ اكتشفت أنهم ليسوا أصدقاء· سلوكهم لا يحض على الصداقة·
بعد قليل صمت، أضاف:
ــ لم يعد التواصل مع الآخرين يغريني· إن الإنسان، في النهاية، لا يعانق إلا نفسه·
ــ أعجبني التعبير· رجوته أن يكتب لي عبارته بخطه· كتب العبارة، ورسم في ذيلها طائر بلا أرجل·

ــ مساء 2003/1/3:
أثرت معه اقتباساته القرآنية في وجوه· قال:
ــ لم أتعمد هذه الاقتباسات· جاءت بشكل تلقائي· ربما استحضرتها من مخزون قراءاتي·
ــ هل تقرأ القرآن؟
ــ ليس كثيرا· مرة أو إثنتين في السنة· القرآن يغني الكاتب لغويا·
ــ ما هي السورة التي تعجبك؟
ــ أي سورة تعجبك؟
ــ سورة يوسف· وأيضا سورة الكهف·

ــ مساء 2003/1/6:
تحدثنا زهاء نصف ساعة· بين وقت وآخر كنت أتطلع إلى وجوه الجالسين حولنا· سألني شكري:
ــ لِمَ تحملق في وجوه الناس؟
ــ لأعرفهم أكثر·
ــ نظراتك الفضولية قد تقودك إلى الاشتباك معهم، لا إلى معرفتهم!
ضحكنا· طلب شكري من النادل أن يملأ كأسه· استرخى على كرسيه· شرد بعيدا·
ــ فيم تفكر السّي محمد؟
انفصل عن شروده· صوته مبلل بالأسى:
ــ أفكر في الذين ماتوا منذ سنوات، ولم يدفنوا بعد! إن مجرد التفكير في العجز البشري يثير فيَّ القلق·
ــ هل تخاف الموت؟
ــ ما أخشاه هو الموت في الحياة· العجز التام يفقد الإنسان صلته بالحياة، وبالعالم·
ــ تقصد الشيخوخة؟
ــ نعم، عندما نشيخ نبدأ في استجداء حياتنا!

ــ ظهر 2003/1/9:
هل وصلك الخبر؟
بادرني شكري حالما دلفت إلى (الريتز)·
ــ أي خبر؟
ــ وفاة الرسام محمد الدريسي· وجدوه ميتا في ميترو باريس· ربما أصيب بأزمة قلبية مفاجئة·
خيمَّ صمت ثقيل على جلستنا· قال شكري في حزن:
ــ أنا متألم جدا لوفاته· الدريسي كان متوترا، عصبيا، لم يستطع التغلب على أزماته النفسية· منذ أسبوعين زارني في (الريتز) وطلب مني عنوان طبيبة إسبانية لإجراء تحاليل· كان معي المصور رشيد الوطاسي· طلبت منه أن يصحبه إلى عيادة الطبيبة·
جاء امحمد البوكيلي· طلب من شكري أن يعد لإذاعة طنجة شهادة عن الدريسي· ثم انسحب لارتباطه بموعد·
في الطريق إلى بيته، قال لي شكري:
ــ فكرت في الاتصال بزوجة الدريسي ماريا، وابنه هشام، الذي كان يحبه حد العبادة، لكني تراجعت· من الأفضل تأجيل العزاء·
ودعني وهو يقول:
ــ هناك من يقف في الصف ليعيش· وهناك من يقف في الصف ليموت·

ــ ظهر 2003/1/10:
وجدته صحبة مصطفى كناد وطارق سليكي· أشار شكري إلى أوراق فوق الطاولة:
ــ كنت بصدد تنقيح شهادتي حول الدريسي· كتبتها هذا الصباح· استغرقت مني أربع ساعات كاملة· سأقوم بتسجيلها في المساء بالإذاعة، لتذاع غدا السبت·
طلبت منه أن أقرأها· اعتذر قائلا:
ــ آسف· لا يمكن· لا أحب أن يقرأ أحد ما أكتبه إذا كان لم ينقَّح بعد· أعتذر·

ــ ظهر 2003/1/23:
كنت أقرأ قائمة الطعام المعلقة على واجهة مطعم (الريتز)·
جاءني صوته الضاحك من الخلف:
ــ لا تخاف· الأسعار هنا ليست مرتفعة·
التفت· صافحته· قال:
ــ أتعرف ماذا حدث لي في سوق السمك منذ نصف ساعة؟
ــ ماذا حدث؟
ــ استفزني شخص على نحو لا يطاق· كدنا نتشابك بالأيدي لو لم يتدخل بائع سمك يعرفني·
ــ التافهون يتكاثرون مثل النمل·
ضرب بقبضته على المنضدة· لهجته غاضبة:
ــ قد أغفر التفاهات· لكني لا أتحمل الاستفزاز·

ــ مساء 2003/2/17:
سألته:
ــ هل قرأت ما كتبه علي العلوي عن الخبز الحافي في جريدة الزمان اللندنية؟
ــ لا·
ناولته المقال· قرأه بتأن· رده إليَّ· لم يعلق بشيء· ولم أسأله عن رأيه·
قرأ الكاتب محمد البقاش المقال· قال لي: شكري لم يخطئ في قوله: لم أسافر قط في البحر· كلمة (في) تأتي بمعنى (على)، يقول الله تعالى: ولأصلبنكم في جذوع النخل، بمعنى على النخل·

ــ مساء 2003/7/18:
تحدثنا عن كتابنا المشترك حوار مع محمد شكري ـ أسئلة الكتابة /أسئلة الحياة· اتفقنا على مختلف التفاصيل· طلب مني أن أحرر عقدا بخط يدي· قرأه· أدخل عليه بعض التعديلات الطفيفة· وقع كل منا· ناولني مظروفا أبيض:
ــ خذ هذا التسبيق·
أردت أن أغادر· استبقاني قليلا· كتب إهداء جميلا على الصفحة الأولى من مجموعته القصصية الخيمة مدها لي:
ــ ضع ما معك من مال في هذه الخيمة· حتى لا يضيع منك في الطريق! هاها·· هاها·

ــ مساء 2003/7/20:
سيسافر شكري غدا إلى الرباط ليتلقى العلاج في المستشفى العسكري·
يبدو متعبا· لكن معنوياته جد مرتفعة·
تدهشني مقاومته لمرضه اللايسمى· أثمِّن فيه قدرته الاستثنائية على تجاوز محنته·
بهجته العابرة أقوى من كآبته التي يظهرها مرة ويواريها مرات·
ودعته وقلبي ينفطر حزنا·
في العاشرة والنصف ليلا· تلفن لي الروائي كمال الخمليشي· تحدثنا عن مرض شكري· قال كمال:
ــ شكري يعاني ألمه في صمت· حفاظا على كبريائه يتظاهر بأنه ليس مريضا· أزوره في المستشفى فيغلب تفاؤله تشاؤمي·
تذكرت صيحة شكري في (سوقه الداخلي): أنا الذي أخلق ألمي· أنا من أعدمه·

ــ عصر 2003/7/24:
هتفت له على رقم هاتفه النقال:
ــ كيف الحال السِّي محمد؟
صوته واهن، مبحوح، يفتقد نكهته المميزة:
ــ على كل حال مازلت حيا· لم أمت بعد!

ــ ظهر 2003/7/26:
التقيت الشاعر الصديق سعيد كوبريت، أمام سينما (غويا)· أخبرني أن شكري يجتاز مرحلة صعبة جدا· قال:
ــ معظم الذين أصيبوا بالداء الخبيث استسلموا لقبضة الموت، رغم مقاومتهم·

ــ مساء 2003/7/29:
جلست في ركن قصي بمقهى (فان جوخ)· وشرعت فيه كتابة مذكراتي مع محمد شكري·
لا أعرف كيف، ولا من أين أبدأ·
ما أصعب الانتقاء!

ــ عصر 2003/8/3:
أبدى لي القاص محمد سدحي قلقه من خطورة الوضعية الصحية لشكري· أخبرني أن الصحفي طلحة جبريل كتب نصا مؤثرا عن شكري في جريدة الشرق الأوسط·
محمد سدحي يكن حبا كبيرا لمحمد شكري، وكذلك الشاعر الصديق عبد السلام التميمي·


8/25/2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى