برقاد أحمد - تعالق السّيرة الذّاتية بتخوم الأجناس السّردية

ملخّص:

تعتبر إشكالية تعالق الفنون السّردية من أصعب القضايا استعصاء على النقاد لشدة تواشجها وزئبقية مفاهيمها على الـرّغم من سعيهم الحثيث لوضع معايير ومقوّمـات تُصنّـف وفقها- خاصة السّيرة الذّاتية-إذ لم تعد تقف عند تلك الحدود التي رسمها رائد منظريها فيليب لوجان(Philippe Lejeune)،بل أضحت تغترف من جميع خصائص وأساليب الأجناس السّردية الأخرى، الأمر الذي يدعو إلى طرح تساؤلات جوهرية؛ أهمّها: ما هي الحدود الفاصلة بين هذه الأجناس السّردية؟ وما مدى تفاعلها وتأثيرها في انزياح جنس السّيرة الذّاتية نحو هذه الأجناس- خاصة الرّواية- باعتبارها الفنّ الأكثر تماهيا وتداخلا معها؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في هذه الورقة البحثية.

الكلمات المفتاحية:

السّيرة الذّاتية- الرّواية- فيليب لوجان- التّرجمة الذّاتية الفنّية-الميثاق الأوتوبيوغرافي-السّارد- المذكّرات، اليوميات، السّيرة الغيرية، تخوم السّيرة- المتخيّل السّردي.


تمهيد:

يُشكِّل فنّ السّيرة الذّاتية شكلا جليّا للكتابة الأدبيّة التّوثيقيّة لدى مختلف الثّقافات، وهي حصيلة تجربة حياتيّة تجسّد مسار الذّات في جميع أبعادها؛ الاجتماعيّة والفكريّة والسّياسيّة…، فإلى جانب كونها نصّا أدبيّا، تُعدّ وثيقة تاريخيّة أو اجتماعيّة تـارة أو أنثروبولوجية أو نفسيّة تارة أخرى[1].فقد شهدت مؤخّرا ذيوعا واسعا وتطوّرا ملحوظا في السّاحة الأدبيّة العالميّة، كما بدأت تشكِّل حقلا علميّا مميّزا في ظلِّ الإقبال المتزايد على كتابة الذّات تدوينا وقراءة ونقدا، لأنّها لم تعد مجرّد عمل بسيط، أو مجرّد حديث يتناول مفاخر النّفس ومآثرها، بل تعدّت ذلك إلى تصوير فنّي رائع للتّجربة ونقل الحقائق التّاريخيّة، فأصبحت بذلك مادة كتابات الكتّاب ومدار دراسات النّقاد.

ويبدو أنّ عناية النّقاد والدّارسين بهذا الفنّ بدأت متأخّرة نوعا ما، مقارنة بالفنون السّردية الأخرى، حيث كانت الانطلاقة الفعلية «بداية من السّبعينات من القرن العشرين بصورة خاصة وذلك بتحسّس مقوّمات الكتابة السّير ذاتية وبسط مختلف إشكالياتها؛ سواء ما تعلَّق منها بمقوّماتها الفنيّة أو بمضامينها المخصوصة، أو بقضايا تصنيفها الأجناسية، وقد كان هذا المجهود النّقدي الآخذ في التّنامي يوما بعد يوم، والمركّز بالخصوص على نصوص السّيرة الذّاتية الأوروبية مدعاة إلى خصّ هذا الجنس الأدبي بما يحتاجه من عناية واهتمام»[2]، لأنّ النّصوص الرّوائية -قبل هذه الفترة- أخذت حصّة الأسد من عناية النّقاد والقرّاء على السّواء، ممّا خلّف تقصيرا على مستوى الاهتمام بنصوص السّيرة الذّاتية. فما المقصود بالسّيرة الذّاتية وما فهومها ؟

1- السّيرة الذّاتية( لغة واصطلاحا):

أ- لغة:

قبل أن تلبس السّيرة رداء المصطلح، كانت لها أبعاد لغوية كمفردة معجمية، نورد بعض معانيها حسب ما جاءت في أهم المعاجم العربيّة، فكلمة (سيرة) مأخـوذة مـن المادة اللّغويـة (سيـر)، ففــــي (القاموس المحيط) للفيروز أبادي:«السَّيَّرُ: الذّهاب كالمسير والتّسيار والمسيرة والسّيرورة. والسَّيْرة: الضّرب من السّير، والسِّيْرَةُ بالكسر: السّنة والطّريقة والهيئة…»[3]، أمّا في المعجم( المفصّل)، فهي«سيرة الحياة أو ترجمة الحياة، وهـي عبارة عـن ترجمة حياة أحـد الأعلام»[4].

أمّا في المعجم الوسيط:«سّير فلان سيرة، حدّث بأحاديث الأولين، كما وردت (السّيرة) بمعنى السّيرة والطّريقة، والسِّيرة الحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره. والسّيرة النبويّة وكتب السّيـرة « مأخـوذة مـن السّيرة بمعنى الطّريقة، وأُدخل فيها الغزوات، وغير ذلك ويقال: قرأت سيرة فلان: تاريخ حياته (جمع سيّر)»[5].

من خلال هذه الأبعاد اللّغوية لكلمة(سيرة) يتّضح جليّا أنّ المفردة غنيّة بدلالات ومعان عدّة وفق ما يقتضيه السّياق، فبالرّغم من أنّها تنبثق من نفس الجذر، إلاّ أن المتتبّع لمعانيها في المعاجم السّابقة يلحظ أنّها تصبُّ في رافد ومعنى واحد، هو نقل أحاديث الأولين.

ب- اصطلاحا:

أمّا اصطلاحا، فيبدو أنّ الجزم بإعطائها تعريفا دقيقا من الصّعوبة بمكان، نظرا لطبيعة هذا الجنس الزّئبقية من جهة، وتباين مقاربات الدّارسين والنّقاد من جهــة أخرى، فقد أقر(جورج مش)* (Mitch Georg)بأنّ هذا الجنس الأدبي من أكثر الأجناس الأدبيّة استعصاءً على التّعريف، فهو يكتفي بقوله:« يمكن تعريفها بواسطة تلخيص ما يدلّ على مصطلح السّيرة الذاتية (Autobiographie)؛ وصف (Graphia) لحياة شخص (Bios) بواسطة الشّخص نفسه (Auto)»[6].

وهذا ما ذهب إليه أيضا (جورج ماي) الباحث في هذا الفنّ، إذ يرى أنّ السّيرة الذّاتية جنس أدبي حديث نسبيّاً، بل لعلّه أحدث الأجناس الأدبية، لذلك أحجم هو نفسه من وضع تعريف [7]، فصعوبة تحديد مفهومها جعلها تتّخذ أشكالا متعدّدة منها: الرّواية، والمذكّرات، واليوميات، والسّيرة الغيرية، أو ما يسمّى بتخوم السّيرة الذّاتية.

في حين أنّ(فليب لوجان) (Philippe Lejeune)-أحد أشهر المنظّرين لهذا الفنّ السّردي- يعرِّفها: «قصّة ارتجاعية نثرية، يروي خلالها شخص ما (قصّة) وجوده الخاص، وذلك عندما يؤكِّد على حياته الفردية، وخاصة على تاريخ شخصيته»[8]، كما يضع الميثاق الأوتوبيوغرافي (Autobiographie) شرطا لوجودها، قائلا: «فلكي تكون هنـاك سيرة ذاتية (هو أدب شخصيّ بصفة عامة)، يجب أن يكون هناك تطابق بين المُؤّلف والسّارد والشخصية»[9]، ويتّم ذلك بطريقتين:

إمّا ضمنيا أو جليّا؛ في الأولى على مستوى علاقة المؤلّف والسّارد، وهذا الميثاق يأخذ بدوره شكلين؛ أحدهما يتمثّل في استعمال عناوين لا تترك أيّ شكٍّ حول إحالة ضمير المتكلّم على اسم المؤلّف (قصة حياتي، سيرة ذاتيّة…)[10].أمّا ثانيهما؛ فهو توظيف مقطع أولي يلتّزم فيه السّارد أمام المتلقي بالتّصرف مثل المؤلّـف فلا يشكّ في أنّ ضمير المتكلّم في النّص يحيل إلى الكاتب مباشرة. أمّا الثانية (جليا)؛ من خلال الاسم الذي يأخذه السّارد، أي الشّخصية في المحكي نفسه هو نفسه اسم المؤلّف المعروض على الغلاف[11].

في حين نجد بعض التّعاريف التي أوردها نقاد عرب منها، ما جاء في تعريف أنيس المقدسي، الذي يرى أنّها: «نوع من الأدب يجمع بين التّحري التّاريخي، والإمتاع القصصي، ويراد به درس حياة فرد من الأفراد ورسم صورة دقيقة لشخصه»[12]، تعريف يركّز على عرض المُدوّن لتاريخ حياته الصّادق في ثوب أدبيّ فنّي، يُظهر فيه براعته الفنيّة التي تثير القارئ بلمسته الجمالية.

أمّـا عبد العزيز شـرف فيعرّفها قائلا:« السّيرة الذّاتية تعني حرفياً ترجمة حياة إنسان كما يراها هو، بينما لطيف زيتوني يرى أنّها حياة أو جزء منها مدوّنة بقلمه، وهو كشف للذّات وحركة النّفس الدّاخلية»[13]، وصراعاته النّفسية والمجتمعية، مازجا بين العالم الباطني للذاّت والعالم الخارجي الذي يعيش بين أحضانه.

بينما يحيى إبراهيم عبد الدّايم يرى أنّ «التّرجمة الذّاتية الفنّية هي التّي يصوغها صاحبها في صورة مترابطة، على أساس من الوحدة والاتّساق في البناء والروح… وفي أسلوب أدبي قادر على أن ينقل إلينا محتوى وافياً كافياً عن تاريخه الشّخصي وتجربته الحياتية…[14]، تعريف يجمع بين الحياة الواقعية التي يعيشها منشئ السّيرة والبعد الفنّي من خـلال البناء والصّياغة، وهو تعريف يتّسم بالدّقة مقارنة بالتّعاريف الأخرى.

الملاحظ أنّ جلّ–– هذه التّعاريف المقتّرحة للسّيرة الذّاتية شابها التّعميم وفشلت في استخلاص المقوّمات الأجناسية القارة، ممّا أدّى إلى تضارب الآراء واستحالة ضبط مدوّنة سير ذاتية حديثة متجانسة من حيث الشّكل والمضمون وفق المعايير التي سنّها فيليب لوجان المنظر رقم واحد لهذا الجنس السّردي.

فالنّص السّير ذاتي يغتّرف من جميع خصائص وأساليب الأجناس السّردية الأخرى، حيث نرصد نصوصا -على سبيل المثال- تبدأ رواية في افتتاحها السّردي، من خلال إعلان المؤلّف ولكن سرعان ما يحدث التّحوّل السّردي باتجاه الحالة السّير ذاتية، وكذلك هو الشّأن مع اليوميات والمذكرات… الأمر الذي يدعو إلى طرح تساؤل جوهريّ مفاده: ما هي الحدود الفاصلة بين هذه الأجناس السردية ؟ وما مدى تفاعلها وتأثيرها في انزياح جنس السيرة الذاتية-خاصة الرواية- باعتبارها الفنّ الأكثر تماهيا وتداخلا معها؟

1- تعالق السّيرة الذّاتية بالمذكّرات واليوميات:

أ- المذكّرات:

يعتبر هذا التّدوين من أبرز الكتابات التي تلامس السّيرة الذاتية، فهي« سرد كتابيّ لأحداث جرت خلال حياة المؤلّف، وكان له فيها دور، وتختلف عن السّيرة الذّاتية بأنّها تخصّ العصر وشؤونه بعناية كبرى، فتشير إلى جميع الأحداث التّاريخية التي اشترك فيها المؤلّف، أو شهدها أو سمع عنها من معاصريه، وأثّرت في مجرى حياته»[15]، ولذا عُدّت تأريخا لأحداث مزامنة لحياة كاتبها، تبرز دوره من باب المشاركة فيها أو الشّهادة على وقوعها، لا تغوص في حياته الخاصة كونها تهتّم بمحيطه أكثر ممّا تهتّم بحياته في مختلف أبعادها.

يعود ظهورها إلى القرن السّابع عشر، حيث عمد الكثير من الشّخصيات آنذاك إلى إبراز دورهم في تشكيل الأحداث العامة دون ميل كبير إلى تصوير حياتهم الخاصة، فمنهم من اهتم بجوانب سياسية وحربية؛ كمذكرات بروس، ليتزايد هذا الاهتمام في القرنين التّاسع عشر والعشرين أين كُتبت مذكِّرات أخرى مختّصرة متعدِّدة المواضيع لتكون شاهدة على مراحل تاريخية، محتواها مرتبط بالأحداث والظّروف التّاريخية المحيطة بكاتبها على حساب الواقع الذاتي لمدونه[16].

من هنا يتّضح أنّ منشئها ينصرف إلى «سرد التّاريخ والأحداث والموضوعات والقضايا أكثر من اتجاهها إلى البناء الشّخصاني للرّاوي، كما الحال في السّيرة الذّاتية أو الغيرية، إذ يقتضي البناء السّيري التزاما بحدود الشّخصية في خصوصياتها الذّاتية، وفي خروجها إلى الأحداث والموضوعات والقضايا، وفي المذكّرات يكون الرّاوي أكثر حرية في سرد مرويات معيّنة وإغفال أخرى على النّحو الذي يطابق سياستها وغايتها المرجوة، قياسا بتلك الحرية التي يتمتّع بها الرّاوي السّيري»[17]، وهذا التّباين لا يمنع من وجود تقاطعات في الجانب الفنّي كتوظيف تقنية الاسترجاع.

فالسّيرة الذّاتيّة، على خلاف المذكّرات تروي أحداثا شخصيّة وتنأى عن سرد الأحداث العامّة في حين تركّز المذكّرات عادة على تدوين الأحداث دون التّعليق على الحياة الشّخصيّة لكاتب المذكّرات، وهذا ما وضّحه الناقد قابيرو، مبيّنا مرونـة السّيرة مقارنة بالمذكّرات والاعترافات بالقـول: «تترك السّيرة الذاتية مكانا واسعا للاستلهام، ومن يكتبها ليس ملزما البتّة أن يكون دقيقا حول الأحداث كما هو الشّأن في المذكّرات، أو بأن يقول الحقيقة المطلقة كما هو الشّأن في الاعتراف، ينطلقان من الحاضر إلى الماضي، ومن لحظة الكتابة إلى لحظة التّجربة»[18].

ب- اليوميات:

تتقاطع اليوميات مع السّيرة الذّاتية في تناولها سرد ما يتعلّق بحياة كاتبها أيضا لكونها «سجل للتّجارب والخبرات اليوميّة، وحفظ الأخبار والأحداث الحياتيّة للشّخص»[19]، إلاّ أنها تختلف عنها في عدم إلزام صاحبها بالنّمط الفنّي المألوف في السّيرة الذّاتية، إذ لا يشترط في كتابتها الأسلوب الأدبي المشوّق، ومن هنا تكون خالية من اللّمسات الجمالية التي يتّصف بها النّص الأدبي عن غيره.

2- تعالق السّيرة بالرّواية والسـيرة الغيرية :

أ- تعالق السّيرة بالرّواية:

لا يختلف اثنان على أنّ الرّواية أضحت فنّا أدبيا مهيمنا على السّاحة الأدبية إبداعا ونقدا، وهي«جنس أدبي راق، ذات بنية شديدة التّعقيد، متراكبة التّشكيل تتلاحم فيما بينها وتتضافر لتشكّل لدى نهاية المطاف شكلا أدبيا جميلا[20]، وذلك بفضل قدرتها المذهلة على التّعبير عن الواقع بمختلف أبعاده، ومرونتها في استيعاب بقية الأجناس وتوظيف تقنياتها.

لهذه الأسباب المتعلّقة بمرونتها وزئبقيتها وحسن توظيفها لمختلف تقنيات الأجناس السّردية الأخرى، خاصة ذات البعد الاعترافي، أضحت « تتّخذ لنفسها ألف وجهٍ وترتدي في هيئتها ألف رداءٍ وتتشكّل أمام القارئ تحت ألف شكلٍ، ممّا يعسر تعريفها تعريفاً جامعاً مانعا»[21]. فقد عُرف عنها أنّها من أبرز الأنماط السّردية قدرة على النّهل من الأجناس الأدبية السّابقة؛ كالأسطورة والملحمة والسّيرة بنوعيها؛ الذّاتية والموضوعيّة.

ومن خصائصها -أيضا- أنّها عمل نثري قوامه الخيال، تقوم على فكرة الصّراع طويلة الحجم، ولكن دون طول الملحمة غالبا، تجمع بين اللّغة الشّعرية الملحمية واللّغة العامية كما أنّها تقوم على التّنوع، وتعدّد أنماط الشّخصيات، في حين يربطها سارتر بالتّاريخ، لأنّه يرى أنّ التّاريخ والرّواية مترابطان ترابطا عضويا، وهي الصّورة التي كانت الرواية عليها لدى(بالزاك)[22]، ولكن هذا الطّرح سرعان ما تلاشى مع تطوّرها.

وهناك من يرى أنّها عموما الجنس الأكثر تحرّرا، لأنّه جنس غير مكتّمل لا حدود له ولا ضفاف، أمواجه ممتدّة من دون شواطئ، فهو جنس ما ينفك يجهز على الأجناس التقليدية ليجعلها في خدمته، فقد تخطّت الرواية قوانينها وأدواتها لتستعير من الأجناس الأدبية الأخرى تقنياتها وأدواتها[23]، بما فيها السيرة الذّاتية.

هذه الأخيرة هي الأخرى لم تعد تقف عند تلك الحدود التي ألفناها فيها في بداية نشأتها بصفتها نصّا سرديا يستّند على التاريخ والواقع، بل صارت تنزاح إلى معانقة أفق الخيال، والوهم والاختلاف، والانتقاء والحذف والمجاز والاستعارة والتّرميز، والكذب مع مصداقية التّجربة الفنيّة وأدبية الجملة وشاعرية دلالاتها، وحكائية عناوينها، وأسطرة متنها وما ينضوي تحت هذه الثيمات وغيرها[24]، لتكون بذلك قريبة من الرّواية.

ولعلّ تماهي وتداخل هذين الشّكلين أدى إلى صعوبة وجود تعريف مقنع ونهائي يميز بينهما، فقد نجد عنصرا مفارقا في علاقة هذا الجنس بالجنس الآخر، ولكنّ الحـدود الفاصلة قـد لا تبدو مطلقة ونهائيّة،لا في الأسلوب ولا فـي الشّكل،وهـذا مـا أشار إليـه جون ستاروبنيسكي( Jean Starobiniski) سنة 1970م، حين قال أنّه«ينبغي أن نتجنّب الحديث عن أسلوب أو حتّى عن شكل مرتبطين بالسّيرة الذّاتية، إذ لا وجود فـي هذه الحالة لأسلوب أو لشكل ينبغي الالتزام بهما»[25].وهو ما جعل فيليب لوجان فيما بعد يعترف بنقص تعريفه الأول، قائلا:«غير أنّ الحدّ الذي وضعته كان يترك عددا من القضايا النّظرية معلّقة، وقد أحسست بالحاجة إلى تهذيبه وضبطه بمحاولة العثور على مقاييس أكثر دقّة، وبذلك لم يكن لي بدا من أن أصادف في طريقي المناقشات الكلاسيكية التي يثيرها نوع السّيرة الذّاتية دائما، مثل: العلاقات بين السّيرة والسّيرة الذّاتيّة والعلاقات بين الرّواية والسّيرة الذّاتية، وهي قضايا مقلقة بسبب تكرار البراهين وبسبب الغموض الذي يكتنف المصطلح المستعمل»[26]،.وهو اعتراف صريح بعدم جدوى الحدود التي أقرّها في ميثاقه السّردي في ظلّ بروز أنواع سردية لا تعترف بهذه المعايير الّتي رسمها.

في حين ردّ جورج ماي إشكالية ضبط المفهوم ومراجعات فيليب لوجان إلى تعالق السّيرة الذّاتية ببقية الأشكال الإبداعية عامة والسّردية منها خصوصا، نظرا لتماثلها وتناسلها والعلاقات الجدليّة المتشابكة التي تربطها ببعضها، ممّا يجعل إمكانية الفصل بينها أمرا مستعصيّا[27]، وهي مبرّرات مقبولة إلى حدّ كبير تؤشّر إلى هشاشة التّعاريف والمعايير الفاصلة بين الأجناس السّردية.

ومن هنا يتّضح أنّ السّيرة الذّاتية نصّ يحاكي كلّ النّصوص، وبنية تدمج فيها كلّ الأنواع والأجناس الأدبيّة خاصة الرّواية، التي رأى باختين أنّها البوتقة التي تنصهر فيها كل أنواع الفنون، لأنّها تسمح بأن تُدخل إلى كيانها جميع أنواع الأجناس التّعبيريّة، سواء كانت أدبيّة أو خارج أدبيّة ، فنظريا أيّ جنس تعبيريّ يمكنه أن يدخل إلى بنية الرّواية، وليس من السّهل العثور على جنس تعبيريّ واحد لم يسبق له، في يوم ما لم يلحق بالرّواية[28]، والسّيرة بنوعيها-الذّاتية والغيرية- أكثر الأجناس التصاقا بها إلى درجة أنّ هذا التّلاحم شكّل بؤرة حيرة للنّقاد والدّارسين.

ب- تعالق السّيرة بالسّـيرة الغيرية:

إنّ العلاقة بين السّيرة والتّرجمة الغيرية علاقة وطيدة، لما بينهما من أوجه اتفاق، فقد دأب المؤرّخون في عهد قريب أن يُسمّوا العمل السّردي المرتبط بالذّات ترجمة حين لا يطول نفس الكاتب فيها، فإذا ما طال النّفس واتّسعت التّرجمة سُميت سيـرة[29]. فحدّها يلامس حـدّ السّيرة الذّاتية لكونـها « تتناول التّعريف بحياة رجل أو أكثر تعريفا يطول أو يقصر، ويتعمّق أو يبدو على السّطح، تبعا لحالة العصر الذي كتبت فيه، وتبعا لثقافة المترجم ومدى قدرته على رسم صورة كاملة واضحة دقيقة من مجموع المعارف والمعلومات التي تجمّعت لديه عن المترجم له »[30]، فموضوع ومدار اشتغالها هو تلك الشّخصية المرصودة رصدا فنيّا بجميع أبعادها داخل المجتمع الذي يرتبط هو الآخر بعصر له خصوصياته.

في حين مادة السّيرة الذاتية هو (الذّات)، يتطابق فيها المؤلِّف والسّارد والشّخصية الرّئيسة، بينما موضوع السّيرة الغيرية هو (الآخر)، يقوم السّارد بحكي حياة إنسان آخر ورصد ظروف نشأته مقتفيا مراحل تطوّر حياته وانتقالاته في فضاء زمكانيّ معين، وغالبا ما يكون المترجم له في السّيرة الموضوعية شخصية اعتبارية متميّزة، تتبوّأ مكانة مرموقة، له مكانة في المجتّمع والتّاريخ، فهي تبحث عن الحقيقة في حياة «إنسان فذٍّ، والكشف عن مواهبه وأسرار عبقريته؛ من ظروف حياته التي عاشها، والأحداث التي واجهها في محيطه والأثر الذي خلَّفه في جيله…»[31]، حيث يكون الهدف من كتابة سيرته هو أخذ العبرة وتقديم حياتـه بوصفها نموذجا جديرا بالاقتداء.

فجنسا السّيرة بنوعيه -الذّاتية أو الغيرية- ينحتان مادة موضوعيهما من رصد حياة شخصيّة، فكلّ منهما، يمدّنا بسيرة حياة الرّجل العبقريّ، لأنّهما يتناولان التّاريخ الحقيقيّ للأفذاذ من بني الإنسان، وكلاهما يطلعنا على التّطور الخلقيّ والعقليّ والعاطفيّ[32]. إلا أنّ الجنس الأول تتحدّث الذّات عن نفسها، في حين الثّاني ذات أخرى مُتحدّث عنها.

هذه الذّات المحكي عنها تعدّ معيارا رئيسا في التفرقة بين الجنسين، فموضوع السّيرة الذّاتيّة هو نفسه كاتبها، لا يزال على قيد الحياة، يختار ساعة التّدوين ليقول الكلمة الفصل، وهو تدوين يتّسم بنزعة تاريخيّة موضوعيّة، لأنّ المواد الّتي يوظّفها كاتب السّيرة هي نفس المواد الّتي يستعملها المؤرّخ منفصلة عن الذّات الكاتبة، في حين ينهل كاتب السّيرة الذّاتية من ينبوعه الذّاتي والشّخصي المتمثّل في ذكرياته الخاصة، فتجيء الكتابة مغرقة في (الأنا) سابحة في الذّات، تغيب عنها الموضوعية، ومن ثمّ لا يمكن الحكم في مصداقيتها موضوعيّا للنّظر في مصداقيّتها وصحّتها، وذلك حسب الغاية الّتي يسعى كل جنس إلى تحقيقها.

3- جدليّة العلاقة السّيرة بالرّواية:

بناء على ما سبق ذكره من تعالق وتداخل بين السّيرة الذّاتيّة والرّواية؛ من حيث المضمون والبناء والشّكل أفضى إلى ميلاد جنس هجين وسيط يقوم على لعبـة تبادل الأساليب، أطلق عليه روايـة السّيـرة الذّاتي(roman Autobiographique) أو السّيـرة الذّاتيـة الرّوائية (Autobiographie Romanciée) وهما «مصطلحان يعنيان غالبا عند كثير ممّن يتبنّاهما أنّ الكاتب يستخدم الشّكل الرّوائي قناعا لكتابة سيرته الذّاتية، لأسباب كثيرة يتعلّق كثير منها بالرّغبة في الهروب من الرّقابة بكلّ أنواعها الذّاتية والأسريّة والاجتماعيّـة والسّياسيّة…الخ»[33].

فهي تتيح للنّاص البوح بكلّ ما يمنعه من الدّلو به في السّيرة الذاتية لسبب أو آخر، « لذا جاءت أغلب السّير الذّاتية الرّوائية أكثر جرأة في الحديث عن النّفس الّتي تشكّل المعرفة لدى المتلقي، ووضعها عارية أمامه»[34]، لتكون بذلك أكثر صدقا وأمانة من السّيرة الذّاتية في بعض الأحيان، وهذا النّمط أصبح من خصائص الكتابات العربية الحديثة، لأنّها توفِّر هوامش أرحب للتّعبير عن الذّات وكسر الطّابوهات، خاصة المرتّبطة بالّدين والسّلطة والجنس.

فمن مظاهر التّهجين والتّلاقح والاختلاف بين الجنسين نجد -حسب (جورج ماي)- طريقة السّرد التي استلهمتها من اشتغال الرّواية، في حين الرّواية استّثمرت ضمير السّرد المتكلّم (أنا) حيث نجد كثيرا من الرّوايات سارت على نهج السّيرة الذّاتية من خلال الشّخصية المركزية، وهذا أكبر تقارب بينهما، أمّا عن الاختلاف فهو حول هذه الشّخصية، هل هي واقعية أم خيالية[35].

هذه الشّخصية المركزية التي تعتّبر النّقطة الأكثر التباسا وتماسا بين الرّواية والسّيرة الذّاتية؛ لكونها تُعدّ ركيزة يقومان عليها في الخطاب السّردي في الجنسين، أين تُسلّط الأضواء على قصّة بطل فرد، يدخل في حالة صراع وصدام مع محيطه، فيكون ناقما وساخطا على ما آل إليه الوضع في المجتمع، فيعيش حالة تأزّم.

إلاّ أنّ نقطة الاختلاف بينهما تكمن فـي طبيعة هذه الشّخصيـة البطلة، ففـي الأولـى -الرّواية- شخصية خيالية يصطّنعها الرّوائي ليحمِّلها أداء أدوار معينة في الحكيّ وفق ما يرومه أمّا في الثّانية -السيرة الذّاتية- فالشّخصية البطلة مرتّبطة ارتباطا وثيقا بمدوّن السّيرة، فحتّى ولو مارس التّضليل من خلال المزج بين الحقيقة والخيال متّعمدا خرق ميثاق الصّدق والأمانة عن قصد أو غير قصد، فإنّه يبقى أسير ذلك التّطابق بين الكاتب والشّخصية الرّئيسة والسّارد، والذي أرساه كاتب السّيرة من خلال العقد السّير ذاتي.

بالرّغم من الاعتراف بوجود هـذا الجنس السّردي وشغله حيزا مهما في كتابات الرّوائيين إلاّ أنّه ظلّ هو الآخر مترنّح التّعريف والتّحديد، فكثير من النّقاد يتردّد في تحديد جذوره الأجناسية فبعضهم ينسبه إلى الرّواية، والبعض الآخر يضعه في خانة السّيرة الذاتية، وهذا ما جعل النّاقد عبد الله إبراهيم يعبّر عن هذا الغموض والالتباس الذي يكتّنفه، بقوله: «إنّ عملية التّهجين ما زالت في طورها الأول، وذلك أنّ النّصوص التي وقفنا عليها، لم تزل غامضة الانتماء والهويّة»[36].

ويعزو صالح الغامدي في دراسات في السّيرة الذّاتية سبب هذا الالتباس إلى التقنيات التي صيغت بها، فالسّيرة الذّاتية الرّوائية هي سيرة من حيث الجنس الأدبي ورواية من حيث الصيغة أمّا الرّواية السير ذاتية فرواية من حيث الجنس الأدبي وسيرة من حيث الصّيغة، فالأولى في حالة تأكّد عقدها القرائي السّير ذاتي هي بلا شك سيرة ذاتية، أمّا الأخرى فهي رواية. الأولى تحيل إلى عالم حقيقي أو على الأقل توهم بالإحالة إليه، على الرّغم من أنّها تتوسّل إلى ذلك بتوظيف كثير من أساليب الرّواية بما في ذلك الخيال، أمّا الأخرى فتحيل إلى عالم متخيّل حتى وإن استثمرت بعض جوانب حياة كاتبها وبدت في بعض الأحيان أشدّ واقعية من الواقع ذاته[37].

فيما يذهب إدوارد الخرّاط موضِّحا هذه المسألة قائلا: «بالنسبة لي أنا لا أتناول عناصر السّيرة الذّاتية كما هي، وإنّما أكتب عناصر شبيهة بما حدث في الحياة الحقيقيّة لكن بعد فرض سياق روائيّ وقصصيّ عليها، ليمتّزج الواقع بالتّخيل وتتداخل عناصر السّيرة الذاتية في النّسق الرّوائيّ والقصصي، والسّيرة الذّاتية تعتمد على ميثاق غير مكتوب بين المؤلف والقارئ بأن يحكي الأول بصراحة ووضوح تفاصيل ما مرّ به من أحداث، هذا ميثاق لم أوقعه وما أندر من وقعوا بإمضائهم عليه»[38]، رأي يبيح فيه إدوارد الخرّاط الانحراف بالسّيرة الذّاتية عن الحقيقة والتي هي أهم شرط من شروط كتابة الذّات فاسحا المجال أمام إعمال السّياق الروائي المرتبط بالتّخييل الذّاتي.

أ- التّداخل ظاهرة جمالية:

يرى العديد من النّقاد والباحثين إلى ظاهرة تشظي جنسي السّيرة والرّواية والتقائهما في الرّواية السّير ذاتية أو السّيرة الذّاتية الرّوائية والتي هـي فـي حقيقـة الأمــر «عمل سرديّ روائيّ يُستند في مدوّنته الرّوائية على السّيرة الذّاتية للرّوائي، حيث تعتمد الحادثة الرّوائية في سياقها الحكائيّ اعتماداً شبه كليّ على واقعة سير ذاتية واقعية، تكتسب صفتها الرّوائية أجناساً بدخولها في فضاء المتخيّل السّردي»[39]، ظاهرة إبداعية جديدة، تعدّ ميزة ونعمة على السّرد في بعده الجمالي، ولابدّ من وجود هذه الظّواهر المتمرّدة على المألوف.

فالرّواية السّيرية بمفهومها السّردي لا مانع أن تستّوعب آليات اشتغال الرّواية والسّيرة في نفس الوقت ما دامت تتمتّع بميزة الانفتاح باعتبارها نصّا سرديّا أو حكائيّا أو إمكانية استيعابها لكلّ ما يمكن وصفه أو سرده في الحياة؛ على اعتبار أنّ الإطار العام لها بإمكانه أن يكون نصّا مفتوحا يستقبل الأجناس الأدبيّة المعرفيّة والمعيشيّة بكل سهولة ويسر، حيث تغدو حياة شاملة[40]،وذلك للتّقارب الحاصل بينهما وتماهي آليات اشتغالهما.

ومن بين أهم آليات الاشتغال والأكثر تميُّزا الخيال، الذي يمكن اللّجوء إليه في كتابة السّير الذّاتية ولكن على شرط ألاّ يخترق الخيال بنية المحتوى، وأن يتمّ ذلك على مستوى الأسلوب والتّركيب والصّياغة ليؤدي وظيفة فنيّة لشدّ المتلقي من خلال التّصوير الفنّي، ولذا «يجب أن يكون خيالا تفسيريّا فقط، يؤدي إلى بلاغة الأسلوب، وجنوحه إلى عنصر التّصوير الفنّي الدّقيق الذي يجذب القارئ ليؤثِّر فيه، إمّا أن يكون خيالا يؤدي إلى خلق حدث أو تفسيره تفسيرا خاطئا أو المبالغة في عرضه بما يخرج به إلى المحال، فكلّ هذا شيء مرفوض، ويجب ألا يتّصف به صاحب السيرة الذاتية»[41]، وإلاّ غدا عمله رواية، ومن ثم الابتعاد عمّا كان يرومه من عمله.

كما يعتّبر الأسلوب الرّوائي الشّكل الأرقى-مقارنة بالأسلوب التّقليدي والأسلوب التّصويري- في تدوين السّيرة الذّاتية، من خلال إتاحته مساحة فسيحة للإبداع ويسمح للمخيّلة بأن تلعب لعبتها الفنيّة، ويقدّم الرّوائي المتمرّس على هذا الأسلوب عندما يريد كتابة سيرته حيث يصوغ تجاربه ومواقفه في شكل روائيّ متمسِّكا بعناصر الحقيقة فيما يقصّه، فيتيح له هذا الشّكل أن يتواري خلف بطل الرّواية، ليصوِّر الأحداث والمواقف التي مرّ بها متخلِّصا من الإحراج والقيود الدّينية والاجتماعية والسّياسية؛ خاصة في الأمصار التي تكبح فيها الحريات الشّخصية.

وهذا ما يبرّر لجوء العديد من مدوّني السّير الذّاتية إلى كتابة ما تعلّق بذواتهم بهذا الأسلوب الرّوائي في العالم العربي والإسلامي، إذ شكّلت أعمالهم نصوصا إبداعية راقية ابتداء من النّص التأسيسي الأول (الأيام) لطه حسين، رواية (الخبز الحافي) لمحمد شكري،(أوراقي حياتي) لنوال السّعداوي،(في الطّفولة) لعبد المجيد بن جلون، (طيور في الظّهيرة) و(البزاة) لمرزاق بقطاش،وغيرهم من الرّوائيين، روايات تحمل خطابا سرديا متميّزا، يزاوج بين الخيال والحقيقة المعيشة.

ب – التّداخل ظاهرة مستهجنة:

في حين نجد فئة أخرى لا تؤمن بهذا التوجّه المشجِّع لعملية التّماهي بين الجنسين -السّيرة الذاتية والرّواية- وتعتبر استحداث هذا النّمط السّردي المتداخل ضربا من الخيال، فالسّيرة باعتبارها ذلك الفنّ الذي يخضع لمجموعة من الشّروط، تتمثّل في: الصّدق والأمانة في التّعبير عن الحياة بحذافرها المستّندة إلى الواقع، والتي يلتّزم منشئها بالعقد القرائي، والذي في ضوئه يمكن التّعامل مع النوع الأول (بعد تأكيد السّير ذاتي) بوصفه سيرة ذاتية صرفة لا علاقة له بالرّواية.

في حين نتعامل مع الثّانية بوصفها رواية صرفة، لا علاقة لها بالسّيرة الذّاتية، فإمّا أن يكون العمل السّردي كلّه سير ذاتيّة، وإمّا أن يكون كلّه رواية ،« فمقولة التّعالق والتّهجين بين هذين النوعين هي من وجهة نظر التّلقي مقولة متهافتة، فلا يمكن الجمع في قراءة واحدة بين عقدين قرائيين متناقضين، وبالتّالي عالمين متناقضين؛ أحدهما مبني على الواقـع والآخر مبني على الخيال»[42].

ومن بين المواقف التي تعضد هذا التّوجّه، نجد توفيق الحكيم الرّافض لهذا التّداخل والتّهجين بين الرّواية والسّيرة، بقوله: «لا أستطيع أن أسمي أي عمل فنيّ ترجمة ذاتية إلاّ إذا كان مكتوبا بهذا الفنّ، ولهذا الغرض بالضبط، أي أن يقول لنا المؤلّف: هذه هي مذكراتي أو هذه حياتي ويكتبها بأسلوب السّرد المباشر لحياته، أمّا إذا صبّ الحياة في قالب روائي أو فنّي أيٍّ كان نوعه فإنه في الحال يصبح عملا فنيّا»[43].

فتصريح مؤلّف المدوّنة هو الذي يرجِّح جنسها الأدبي من خلال ما يصرّح به ويقدّمه من إشارات وتلميحات أو اعترافات يُدلي بها في أيّة مناسبة كانت؛ كأن يُشير أو يُلمِّح أو يعترف بالمرجعيّة السّيرة ذاتية لعمله الرّوائي[44]، إلاّ أنّ هذا التّصريح قد لا يفي بالغرض أحيانا لإثبات أنّ العمل من قبيل السّيرة الذّاتية-كما ذكرنا سابقا- وخصوصاً أنّها تتداخل مع أجناس قريبة منها والّتي تتحدّث بضمير المفرد المتكلم(أنا).

ولذا نجد (عبد الملك مرتاض) يضع جملة من الخصائص لهذا الضّمير، والّتي تتلاءم وطبيعة السّيرة الذّاتية؛ ضمير المتكلّم يجعل الحكاية السّردية مندمجة وروح المؤلّف، هذا الضّمير يقرّب القارئ من السّيرة الذّاتية ويجعله أكثر قرباً من الأحداث المرويّة، وأنّ هذا الضمير يُحيل مباشرة إلى الذّات المتكلّمة، عكس ضمير الغائب الّذي يضعنا في حالة الشّك، وأنّ ضمير الأنا يعطي صورة للقارئ أنّ هذا المؤلِّف هو أحد الشّخصيات الرئيسة الّتي يقوم عليها هذا العمل[45].

كذلك يشترط الميثاق السّير ذاتي للحكم على هذا العمل بأنّه سيرة ذاتية، وذلك:« بإيجاد نوع من الميثاق الّذي يتضمّن الاعتذارات والتّوضيحات والمقدّمات والإعلان عن النّية، وكلّها إشارات دالة على وجود اتّصال مباشر بين المؤلِّف والكتاب»[46]، وهو نوع من العقد يربط بين المؤلّف (صاحب السّيرة) والمتلقي، ليكون بذلك الميثاق فيصلا للكشف عن جنس هذا العمل السّردي.

ويكون لهذا الميثاق المعلن صيغتان: أحدهما مُعلن: يتطابق فيه المؤلِّف والسّارد والشّخصية المركزية، والآخر ضمني: يُستشف من خلال العنوان، أو أنّ الرّاوي يتحدّث على أنّه هو المؤلِّف حتّى ولو لم يذكر اسمه[47]، أو ما أصطلح عليه بالعتبات النّصية التي بالرّغم من أنّها لا تدخل ضمن نص السّيرة إلاّ أنّها تكشف عنها: كعنوان الكتاب، واسم المؤلف وتحديد نوعية النّص…الخ.

بالإضافة إلى هذين الموقفين المتعارضين، نجد فئة ثالثة تقف موقفا وسطا من هذه المسألة (التّداخل بين السّيرة الذّاتية والرّواية)، وهي فئة معتدلة تُقرُّ بوجود شيء من التّداخل بين هذين الجنسين الأدبيين، ولكن ترفض الخلط التّام بينهما، إذ تفرِّق بين ما هو سير ذاتي في الرّواية والسّيرة الذّاتية الصّرفة، وتدعو إلى احترام العقد القرائي الذي يحدّده الكاتب لنّصه، كما أن بعضهم أشار إلى المخاطر المتوقّعة أو المحتملة التي تنطوي عليها المبالغة في الدّعوة إلى هذا التمّاهي[48].

يبدو أن هذا الموقف الأخير المؤمن بصفاء السّيرة الذاتية كجنس سرديّ قائم بذاته ترفض تبعيتها للرّواية، داعية إلى الحفاظ على استقلالية هذا الفنّ شكلا وبناء وأسلوبا، معتّبرة أنّها الخاسر الوحيد من هذا التّداخل، لكونها ستفقد تواجدها في السّاحة الأدبيّة من جهة، وأنّ استمرار هذا التّماهي والتّداخل، سيضفي لا محالة إلى انحسار وتراجع الأقلام المبدعة التي تكتب ذواتها وتقاعس النقاد عن تطوير العمل النقدي من جهة أخرى[49]،معتّبرين بذلك ظاهرة التّماهي بين مختلف الأجناس نقمة على السّرد إبداعا ونقدا.

الخاتمة:

من خلال ما تمّ عرضه يبدو أنّ جلّ التّعاريف لم تفلح في كبح جماح تمرّد السّيرة الذّاتيّة وحصرها في مفهوم معين لعدة أسباب؛ منها ذلك الارتباط الوثيق بينها وبين ما تستعين به من أجناس قديمة كالمذكّرات واليوميّات…، وحديثة كالرّواية والرّواية السّير ذاتية، هذه الأخيرة الّتي أضحت منبرا سرديا يلجأ إليه الرّوائيون لتسريب ما تعلّق بذواتهم.

قائمة المصادر والمراجع:

أنيس المقدسي، الفنون الأدبية وأعلامها، دار الكتاب العربي، القاهرة، مصر، 1964م.
إيهاب الحضري، مقال« الاعتراف ممنوع حتى إشعار آخر: هل السّيرة الذّاتية موجودة في الأدب العربي الشّرق الأوسط»، لندن، بريطانيا، الأربعاء 12 أفريل 2006 م.
تهاني عبد الفتاح شاكر، السّيرة الذاتية في الأدب العربي، (فدوى طوقان وجبرا إبراهيم جبـرا وإحسان عبـاس نموذجا)، المؤسسة العربيـة لدراسات والنشـر، بيـروت لبنان، ط01، 2002 م.
جليلة الطريطر، مقومات السّيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث (بحث في المرجعيات)،ج1 وج2، مركز النّشر الجامعي ومؤسّسة سعيدان للنّشر،تونس، 2004 م.
جورج ماي، السّيرة الذّاتية، تر: محمد القاضي وعبد اللّه صولة، بيت الحكمة، تونس، 1992م.
حسين فوزي النّجار، التّاريخ والسّير، دار القلم، دار المصرية للنّشر والـتّأليف، القاهرة، مصر، 1924م
حسين المناصرة، وهـج السّـرد (مقاربات في الخطاب السردي السعودي)، إربد، عالـم الكتب الحديثة،2009م.
شكري المبخوت، سيرة الغائب سيرة الاتي في كتاب الأيام لطه حسين، دار الجنوب، تونس، 1992م.
صالح معيض الغامدي، كتابة الذات (دراسات في السيرة الذاتية).المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى،2013م.
فؤاد دوارة، عشرة أدباء يتحدّثون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1996م.
الفيروز أبادي، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط2، مادة سير،1987م.
فيليب لوجون، السّيرة الذاتية، تر: عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدّار البيضاء- المغرب، ط1،1994م.
عبد اللّه إبراهيم، السّيرة الرّوائية، إشكالية النّوع والتهجين السّردي، مجلة علامات، الدّار البيضاء، المغـرب،ع 19- 20،2003 م.
عبد الله ابراهيم، موسوعة السّرد العربي، المؤسّسة العربية للدّراسات والنّشر، بيروت، لبنان، 2005م.
عبد العاطي إبراهيم هواري، لغة التهميش (سيرة الذات المهمّشة)، إصدارات دائرة الثّقافة والإعلام، حكومة الشّارقة، الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2008م.
عبد العزيز شرف، أدب السّيرة الذّاتية، الشرّكة المصرية العالمية للنّشر، القاهـرة، مصر، 1992م.
عبد اللطيف محمد السيد الحريري، السيرة بين الذاتية والغيرية في ضوء النّقد الأدبي، دار السّعادة للطّباعة القاهرة، مصر، ط1، 1996م.
عبد المالك مرتاض: في نظرية الرواية،( بحث في تقنيات السرد) عالم المعرقة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع 240، 1998م.
عبد النور جبور، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، لبنان، ط2، 1984م.
عمر منيب إدلبي، سرد الذّات( فن السيرة الذاتية)، دائرة الثقافة والإعلام. الشّارقة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2008م.
لطيف زيتوني، معجم المصطلحات، نقد الرّواية، دار النّهار للنّشر والتّـوزيع، بيروت، لبنان، 2002 م.
ليندة خراب، تناص التّراث الشّعبي في الرّواية، (مخطوط ماجستير)، جامعة قسنطينة 1998م-1999م.
مجمع اللّغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشّروق الدّولية، القاهرة، مصر، ط.4، مادة (سار)، 2004م.
محمد التّوينجي، المعجم المفصل في الأدب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج.1، ط.2، 1999م.
محمد صابر عبيد، تمظهرات التّشكل السّير ذاتي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005م.
محمد صابر عبيد، السيرة الذاتية الشعرية، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، إربد، الأردن، ط1، 2007م.
محمد عبد الغني حسن، التّراجم والسّير، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط3، 1980م.
يحيى إبراهيم عبد الدّايم، التّرجمة الذّاتية في الأدب العربي الحديث، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان 1975م.
يمنى العيد، الرّواية العربية(المتخيل وبنيته الفنية)، دار الفرابي، بيروت، لبنان، 2011 م.

المراجع الأجنبية:

Philippe Lejeune, L’autobiographie en France, Ed. Amand Colin, Paris, 1971, P14.
Jean Starobiniski, L’autobiographie .Gallimard. Paris, 1970.


[1]- ينظر: عبد العاطي إبراهيم هواري، لغة التهميش (سيرة الذات المهمّشة)، إصدارات دائرة الثّقافة والإعلام، حكومة الشّارقة،الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2008م، ص.ص5- 6.

[2]-جليلة الطريطر، مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث (بحث في المرجعيات)،ج1 وج2، مركز النّشر الجامعي ومؤسسة سعيدان للنّشر، تونس، 2004 م، ص01.

- الفيروز أبادي، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط2، مادة سير،1987م، ص 354.[3]

- محمد التوينجي، المعجم المفصل في الأدب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج1، ط2، 1999 م ص 536. [4]

[5]-مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، مصر، ط 4، مادة سار، 2004 م،ص 465.

*(جورج مش) (1878–1965) (Georg Misch): مؤرخ وفيلسوف ألماني، اهتم بالتّأريخ للسّيرة الذّاتية ومن أهم كتبه في هذا المجال: Autobiography in Antiquity of A History

[6]- ينظر: صالح معيض الغامدي، كتابة الذات (دراسات في السيرة الذاتية).المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط01،2013م. ص12.

- ينظر: شكري المبخوت، سيرة الغائب سيرة الاتي في كتاب الأيام لطه حسين، دار الجنوب، تونس، 1992م، ص10[7]

[8]- Philippe Lejeune, L’autobiographie en France, Ed. Amand Colin, Paris, 1971, P.14

[9]- فيليب لوجون، السّيرة الذاتية، تر: عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدّار البيضاء- المغرب، ط1، 1994 م، ص 24.

- المرجع نفسه، ص 39. [10]

- ينظر: المرجع نفسه، ص 40.[11]

- أنيس المقدسي، الفنون الأدبية وأعلامها، دار الكتاب العربي، القاهرة، مصر، 1964 م، ص ص457- 551. [12]

- عبد العزيز شرف، أدب السّيرة الذّاتية، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهـرة، مصر1992 م، ص27. [13]

[14]- يحيى إبراهيم عبد الدّايم، التّرجمة الذّاتية في الأدب العربي الحديث، دار إحياء التراث العربي، بيروت،لبنان،1975م،ص10.

[15]- عبد النّور جبور، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، لبنان، ط2، 1984، ص 69.

- ينظر: عبد العاطي إبراهيم هاري، لغة التهميش، ص23.[16]

[17]- محمد صابر عبيد، السيرة الذّاتية الشعرية، عالم الكتب الحديث للنّشر والتّوزيع، إربد، الأردن، ط1،2007 ، ص 109.

- فيليب لوجان السّيرة الذّاتية، الميثاق والتّاريخ الأدبي ، ص 11.[18]

- ينظر: تهاني عبد الفتاح شاكر، السيرة الذاتية في الأدب العربي، ص 74.[19]

[20]- عبد المالك مرتاض: في نظرية الرواية.( بحث في تقنيات السّرد) عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، لكويت، ع 240، 1998 م، ص 27.

- المرجع نفسه، ص 11.[21]

- ينظر: المرجع نفسه، ص15.[22]

- ينظر المرجع نفسه، ص 11.-[23]

[24]- ينظر: حسين المناصرة، وهـج السـرد (مقاربات في الخطاب السردي السعودي)، إربد، عالـم الكتب الحديثة،2009 م، ص 95.

[25]- Jean Starobiniski, L’autobiographie .Gallimard. Paris, 1970 p.84

- فيليب لوجان، السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي، ص 21.[26]

- ينظر: عمر منيب إدلبي، سرد الذات- فن السيرة الذاتية – ص 31.[27]

[28]-نقلا عن ليندة خراب، تناص التّراث الشّعبي في الرّواية،( مخطوط ماجستير)، جامعة قسنطينة 1998م-1999م ص07 .

-ينظر: محمد عبد الغني حسن، التّراجم والسّير، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط3، 1980م، ص 28.[29]

-المرجع نفسه، ص 09.[30]

[31]-حسين فوزي النجار، التاريخ والسير، دار القلم، دار المصرية للنشر والـتأليف، القاهرة، مصر، 1924 م، ص 14.

- ينظر: يحيى إبراهيم عبد الدّايم، التّرجمة الذّاتية الأدب العربي الحديث ، ص 27.[32]

- صالح معيض الغامدي، كتابة الذات (دراسات في السيرة الذاتية)، ص 146.[33]

- ينظر: يمنى العيد، الرّواية العربية(المتخيل وبنيته الفنية)، دار الفرابي، بيروت، لبنان، 2011 م، ص 197.[34]

[35]- ينظر: جورج ماي، السّيرة الذّاتية، تر: محمد القاضي وعبد اللّه صولة، بيت الحكمة، تونس، 1992 م، ص 189.

[36]- عبد الله ابراهيم، موسوعة السّرد العربي، المؤسسة العربية للدّراسات والنّشر، بيروت، لبنان، 2005م، ص 693.

- ينظر: صالح معيض الغامدي، كتابة الذّات – دراسات في السّيرة الذّاتية- ص 148.[37]

[38]- إيهاب الحضري، مقال« الاعتراف ممنوع حتى إشعار آخر: هل السيرة الذاتية موجودة في الأدب العربي الشرق الأوسط، لندن، بريطانيا، الأربعاء 12 أفريل 2006 م.

[39]- محمد صابر عبيد، تمظهرات التّشكل السّير ذاتي ، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2005م، ص 140.

- ينظر: المرجع السّابق، ص 215.[40]

[41]-عبد اللطيف محمد السيد الحريري، السيرة بين الذاتية والغيرية في ضوء النّقد الأدبي، دار السّعادة للطّباعة القاهرة، مصر، ط1، 1996 م، ص 162.

- صالح معيض الغامدي، كتابة الذات (دراسات في السيرة الذاتية)، ص 149.[42]

-فؤاد دوارة، عشرة أدباء يتحدثون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1996م، ص 33.[43]

[44]-ينظر: محمد صابر عبيد، تمظهرات التشّكل السير ذاتي، ،ص140.

- عبد الملك مرتاض، في نظرية الرّواية ، ص 82.[45]

[46]- عبد اللّه إبراهيم، السّيرة الرّوائية، إشكالية النّوع والتهجين السّردي، مجلة علامات، الدّار البيضاء، المغـرب ع 19-20 2003 م، ص 18.

- ينظر: شكري المبخوت، سيرة الغائب سيرة الآتي ، ص 15.[47]

- ينظر: صالح معيض الغامدي، كتابة الذات (دراسات في السيرة الذاتية)، ص 275.[48]
-المرجع السابق، الصفحة نفسها.[49]



- برقاد أحمد، طالب دكتوراه بقسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة لونيسي علي- البليدة2- الجزائر.

- مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 38 الصفحة 33.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى