أندري بلاتونوف Andrei Platonov - أوليــــا.. تر: د . أحمد الخميسي

فى زمن ما.. كانت تعيش فى دنيانا طفلة رائعة، نسيها الآن جميع الناس بل ونسوا اسمها كذلك، فلم يعد أحد يتذكرها أو يتذكر وجهها، باستثناء جدتى التى لم تغب تلك الطفلة الرائعة عن ذاكرتها، فحكت لى عنها، وعمن كانت..
قالت جدتى إنهم أطلقوا على تلك الطفلة اسم أوليا. وكان كل من يرى أوليا الصغيرة يستشعر فى قلبه وخز الضمير حين يستيقظ ، لأن أوليا كانت حبيبة الوجه، خيرة الطبع ، على حين لم يكن كل من يرمقها شريفاً وطيباً.
كانت ذات عينين واسعتين صافيتين شاهد كل الناس فى عمقهما، وفى أبعد نقطة فيهما أحب وأهم ما فى الدنيا، ولذلك تمنى كل إنسان أن يحدق فى عينى أوليا ليستجلى فى غورهما أقصى ما يبعث السعادة فيه.
غير أن أوليا كانت تطرف بعينيها، ولهذا لا يستطيع أحد أن يستبين ما فى عمق مقلتيها الرائعتين. وذات مرة ، نظر البعض إلى عينى أوليا، وحين شرعوا يلمون بشىء مما يبصرونه طرفت أوليا بعينيها مرة ثانية، فاستحال على الناظرين أن يحيطوا بكل ما فى غورهما البعيد . بيد أن شخصاً ساعفه النظر واستطاع أن يمده إلى أقصى مدى فى عينى أوليا، وهناك لمح ما كان. كان اسم ذاك الشخص دميان، عاش على شراء الحبوب رخيصة من الفلاحين فى سنوات المحصول الوافر ثم بيعها غالية فى السنوات العجاف، وبهذا كان على الدوام يحيا فى ثراء ورفاهية.
فى قاع عينى أوليا رأى دميان صورته، ليس كما كان يبدو للناس وإنما كما كان فى دخيلته حقاً: " شدق بشع ونظرة وحشية". لقد ارتسمت على وجهه روحه غير المرئية واضحة فى عينى أوليا. وما كاد دميان يرنو إلى صورته حتى ارتحل عن مكان معيشته ومنذ ذلك الحين انقطعت عن الناس أخباره فترة طويلة، وأخذوا ينسونه شيئاً فشيئاً.
فى عينى أوليا كانت تنعكس الحقيقة الخالصة فقط. فلو أن شخصاً قاسى القلب، جميل الوجه فاخر الملبس نظر فى مقلتيها لتجلى فيهما بشعاً تتآكله القروح بدلاً من الزينة.
أما أوليا نفسها فلم تكن تدرى أن الحقيقة تنعكس فى عينيها. كانت ما تزال صغيرة، لا تدرك. وبالرغم من أن باقى الناس لم يستطيعوا أن يلمحوا صورهم فى عينيها، إلا أنهم جميعاً هاموا بها، وقدروا أن الحياة بخير مادامت أوليا تحيا في هذه الدنيا.
لم يعرف أحدٌ لأوليا أباً ولا أماً، فقد عثروا عليها فى الصيف تحت شجرة الصنوبر عند البئر وقد مرت على ولادتها عدة أسابيع، ملقاة على الأرض، ملفوفة فى شال دافىء تتطلع نحو السماء فى سكون بعينين واسعتين يتبدل لونهما: فمرة تبدوان رصاصتين، وأخرى سماويتين، وثالثة سوداوين حالكتين. واحتضن الناس الأخيار الطفلة فتبنتها أسرة قروية لم يولد لها طفل، وعمدتها باسم "أوليا" .
وقضت أوليا كل طفولتها المبكرة فى كوخ والديها بالتبنى. وكان يحدث عندما تنام أن عينيها تظلان نصف مغلقتين وكأنها تبصر بهما. وحين كان الفجر يقترب وينشر نوره فى الكوخ، كان كل ما يبين فى الضوء خارج الشباك ينعكس فى عينيها نصف المفتوحتين. كانت تنام على الدكة فيضىء أول النهار وجهها. وكانت الحياة تعيش أولاً خارج الكوخ: فروع الصفصافة النامية خلف الشباك، والسحب المزدهرة بشمس وليدة هادئة، والطيور المحلقة ، ثم تعيش ثانية حين تتألق فى عمق عينى أوليا. لكن السحب وأوراق الصفصافة والطيور كانت تلوح أجمل وأصفى وأكثر بهجة فى عينى أوليا مما تبدو للناس فى الطبيعة.
أحب الوالدان أوليا الصغيرة حباً عميقاً، فكانا يستيقظان فى الليل من فرط شوقهما إليها ويغادران غرفتهما ويقتربان من أوليا، وفى العتمة يطيلان النظر إلى تلك الطفلة النائمة الغريبة التى صارت أحب إليهما من أى مخلوق فى العالم. وكان يلوح لهما أن عينى أوليا تفتران عن ضياء فيفيض حينذاك جو صبيح في الكوخ الفقير ، وكأن الوقت يوم عيد من ماضى شباب الزوجين.
قالت الأم بصوت هادىء:
ـ ستموت أوليا عما قريب.
نهرها الأب:
ـ اسكتى، لا تجلبى المصائب بمثل هذا الحديث. ما الذى يجعلها تموت وهى طفلة؟
قالت الأم ثانية:
ـ أمثالها لا يعيشون طويلاً.. إن عينيها لا تنغلقان أثناء نومها.
كان الناس فى قريتنا يعتقدون أن الأطفال الذين لا تنغلق عيونهم أثناء النوم يموتون فى سن مبكرة.
أكثر من مرة أرادت الأم أن تسدل بيدها جفنى أوليا وهى نائمة، لكن الأب أمرها ألا تلمسها وهى نائمة حتى لا تفزعها. وكانت أوليا فى النهار تلعب بقصاصات الأقمشة فى ركن الكوخ، أو تسكب الماء بالتناوب من القصعة الفخارية فى كوب معدنى، فى هذا الوقت تحاشى أبوها أن يمسها كأنما خشية أن يؤذى جسمها الصغير. نما شعر أوليا فاتح اللون يكسو رأسها، وتجعدت خصلاته كأن الريح دخلت ما بينها ثم تجمدت، أما وجهها فقد بدا ـ فى اليقظة أو فى النوم ـ جزعاً يمعن النظر فى اتجاه ما.
لذلك كان الوالدان يحسبان أن أوليا تعانى لتسألهما عن شىء يعذبها، لكنها لا تقدر،لأنها لم تكن تستطيع الكلام. وتوجس أبوها أنها تكابد وجعاً ما فاستدعى لها الممرض لعله يخفف عنها.
أنصت الممرض إلى تنفسها وقال إن كل ما بها سيزول حين تصبح كبيرة.
تساءل الوالد:
ـ لماذا يحبها الجميع هكذا؟ ليتها كانت أقل جمالاً.
قال الممرض:
ـ إنها تحفة الطبيعة.
استاء والداها وقالا:
ـ أية تحفة؟ إنها كائن حى وليست لعبة.
وحاول إناس آخرون، كما فى السابق، أن ينظروا إلى عينى أوليا لكى يروا هناك من هم.. فى الحقيقة؟ ولعل أحدهم قد رأى نفسه على حقيقتها لكنه لم يبح للآخرين بذلك قائلاً إن الفرصة لم تواته، لأن أوليا طرفت بعينيها.
وقد عرف الناس كلهم أن لون عينى أوليا يتبدل، فهى حين تشخص إلى ما هو خير، إلى السماء، إلى فراشة، إلى زهرة أو إلى عابر طريق فقير وعجوز، فإن عينيها تفيضان بضوء صاف، وهى حين تشخص إلى ما ينطوى داخله على الشر تعتم عيناها وتصيران حالكتين. وكانت صورة المرء أو الشىء الذى ترمقه أوليا تنعكس فى عمق عينيها، فى منتصفهما، فى النور الذى يشع هناك جلياً ثابتاً، فى هذا النور كان يبين المطموس سراً فى الأعماق ولا يراه أحد، فينعكس، لا كما يلمحه الناس من الظاهر، لكن ينعكس على حقيقته.
بدأت أوليا تنطق فى عامها الثانى، وكان كلامها قليلاً، لكنه واضح. وكان عدد الكلمات التى عرفتها محدوداً. شاهدت فى شوارع القرية وحقولها ما شاهده الجميع فألفوه، لكن أولياكانت تندهش بصورة دائمة من كل ما تراه، وتصرخ من الرعب وتبكى أحياناً وهى تشير إلى ما نظرت إليه...
سألها أبوها وهو يرفعها إليه دون أن يفهم ما يفزعها:
ـ ما بكِ يا حبيبتى أوليا؟ ماذا جرى؟ لماذا تحدقين فىَّ هكذا؟ أنا هنا معك.. تلك أبقار تمشى إلى حظيرتها هناك.. لا أكثر.
وتطلعت إلى أبيها برهبة كأنه غريب لم تره أبداً من قبل ثم انزلقت مذعورة إلى الأرض وفرت منه.
كذلك كانت أوليا تخاف أمها وتختبىء منها.
كانت تهدأ فى العتمة فحسب. هناك حيث لا ترى عيناها أى شىء.
كانت تستيقظ فى الصبح، وتعتزم أن تهرب على الفور من البيت، فتمشى إلى صومعة الحبوب المعتمة أو إلى الحقل. وهناك فى الوادى الضيق، حيث الكهف الرملى كانت تقبع فى الغبشة إلى أن يعثر عليها والداها. وحين كان أحدهما يحملها على ذراعيه ويضمها إليه ويقبلها فى عينيها كانت تبكى خوفاً وجسمها كله يرتعد، وكأن والديها لم يكونا يدللانها، بل كأن ذئاباً تتناوشها. وكانت إذا لمحت فراشة هشة ترفرف فوق أعشاب جعلت تصيح وتفر بعيداً عنها، ويستمر قلبها يخفق بالذعر فترة. وكانت جدتى بالذات هى أكثر شخص تهابه أوليا. وجدتى تلك كانت طاعنة فى السن، إلى درجة أن العجائز الأخريات كن ينادينها بـ "جدتنا" وقلما ترددت جدتى على الكوخ الذى تسكن فيه أوليا، وكانت ـ إذا توجهت إلى هناك ـ تحمل معها كل مرة هدية للطفلة: قرصاً من الدقيق الأبيض، أو سكراً، أو قفازاً من صوف تحوكه بالأبر أربعين يوماً كاملة، أو أى شىء مما تحتاج إليه طفلة .قالت جدتى عن نفسها إنه كان من المفروض أن تموت، فقد حان أجلها منذ زمن! والآن لا يمكنها أن تموت، ذاك لأنها حين تتذكر أوليا يتنفس قلبها الضعيف من جديد، ويخفق كأنه قلب شاب يتنفس من محبته لأوليا، ومن عطفه عليها، وفرحته بها.
لكن أوليا كانت ما أن ترى جدتى حتى تجهش بالبكاء على الفور، ولا ترفع عنها مقلتيها المعتمتين، بل وتأخذها رعشة من الخوف.
قالت جدتى:
ـ هذه البنت لا تبصر الحقيقة، فهى ترى فى الشر خيراً، وفى الخير شراً.
تساءل أبوها:
ـ كيف ذلك؟ فى حين يرى الآخرون الحقيقة الخالصة فى عينيها؟
قالت الجدة ثانية:
ـ هكذا تضىء الحقيقة الكاملة فى عينيها، أما هى نفسها فلا تدرك.. ويبدو لها كل شىء معكوساً. كان الأفضل لها لو أنها عمياء،فحياتها أشد مرارة من حياة العمياء.
فكر أبوها حينذاك: " بالفعل، أوليا ترى السيئ حسناً، والطيب قبيحاً، يجوز أن ما قالته الجدة صحيح ؟ " .
لم تحب أوليا الزهور ولم تقربها أبداً، لكنها كانت تجمع وسخ لأرض بطرف جلبابها وتذهب إلى مكان معتم، وتلعب وحدها، تحرك الوسخ بيديها وقد أغمضت عينيها. كذلك لم تصادق أطفال القرية، فكانت تولى عنهم راكضة إلى البيت .
صرخت أوليا:
ـ إنهم بشعون.. أنا خائفة.
ضمت الأم رأس أوليا إلى صدرها كأنما ابتغت لو أخفتها فى قلبها لتطمئنها. ولم يكن الأطفال فى القرية مدللين، بل طيبين وأبرياء يميلون إلى أوليا ويبتسمون لها. لم تستشف الأم ما يفزع أوليا، ولم تعرف ما هو الشىء الدميم فى هذه الدنيا الذى تبصره عيناها البديعتان التعيستان دون غيرهما من العيون.
قالت لها:
ـ لا تخافى يا حبيبتى.. لا تخشى شيئاً يا ابنتى، أنا معك.
فنظرت أوليا إلى أمها وصرخت ثانية:
ـ أنا خائفة.
ـ من يخيفك هنا؟ هذه أنا.. أمك!
ـ أخاف منك.. أنتِ مخيفة!
وأطبقت أوليا عينيها لكى لا ترى أمها.
لم يدر أحد ما الذى تراه أوليا، ولم تتمكن هى لذعرها من أن تقول شيئاً.
بنت أخرى نمت فى القرية، بنت اسمها "جروشا"، وكان عمرها فى ذلك الوقت أربع سنوات. وفقط مع هذه البنت شرعت أوليا تلعب، بل وهامت بها حباً. وكان وجه جروشا مستطيلاً، ولهذا سموها "رأس الفرس". وكانت حانقة بطبعها، والأكثر من هذا أنها كانت تكره والديها وتردد أنها عما قريب ستفر من بيتها، ستفر بعيداً بعيداً، ولن تعود ثانية أبداً، هذا لأن: (هنا سيئ .. وهناك حسن ! ) .
طفقت أوليا تتحسس بيديها وجه جروشا، قائلة لها إنها جميلة. وراحت عينا أوليا تسرحان بوله فى وجه جروشا المتجهم الحانق كأنها تبصر أمامها صديقة بهية الوجه محبوبة وطيبة. وذات يوم، تفرست جروشا بالصدفة فى عينى أوليا، وساعفتها لحظة رأت فيها نفسها هناك، كما هى فى الواقع، فزعقت من الهلع هاربة إلى بيتها.
منذ ذلك الحين صارت جروشا أطيب قلباً، وكفت عن الغضب على والديها، وعن تكرار أن البيت لا يرضيها. وكانت حين تنتابها من جديد مشاعر النقمة، تتذكر هيئتها المخيفة فى عينى أوليا، فتصاب بالذعر من نفسها، وتعود مسالمة وديعة.
وعلى الرغم من أنه كان محزناً لأوليا نفسها أن ترى الوجوه الطيبة قبيحة، والورود أيضاً قبيحة ، إلا أنها كانت طفلة، وشأن كل الأطفال الصغار طعمت الخبز، واحتست اللبن، فكبرت، ومضت الحياة، وما أسرع ما تمضى، فأتمت أوليا عامها الخامس ثم السادس فالسابع.
فى هذا الوقت عاد إلى القرية دميان، ذلك الرجل الذى كان قد هاجر منذ زمن، ولم يدرأحد حينذاك إلى أين ذهب؟ عاد بسيطاً فقيراً،وجعل يحرث الأرض مثل باقى الناس. وعاش حتى سنوات شيخوخته رحيم القلب. بل وتمنى لو يأخذ أوليا لتعيش معه ابنة له فى بيته، لأنه عجوز ووحيد. لكن والدى أوليا رفضا ذلك، لأنهما، منذ حملاها إلى الكوخ صغيرة، لم يعودا قادرين على الحياة بدونها.
فى عامها الخامس كفت أوليا عن الصراخ والهرب فزعاً، وأصبح الحزن لا غيره يستولى عليها حين ترى أمامها إنساناً طيباً ورائعاً حتى لو كان جدتى العجوز، أو شخصاً آخر رقيقاً. وكانت تبكى فى أغلب أوقاتها. لكن الصورة الحقيقية لمن تنظر إليهم ظلت تسطع فى عمق عينيها الواسعتين كما من قبل. أما هى نفسها فلم تكن تبصر الحقيقة، لكنها كانت تبصر الكذب. وكانت عيناها وهما تطالعان الدنيا، كأنما تتجمدان دهشة مما تبصران... صريحتان، حزينتان، لا تفهمان ما تراه.
حين أتمت أوليا السنة السابعة من عمرها، صارحها والدها بأنهما لا يمتان إليها بصلة قرابة، أما عن والديها الحقيقيين، فلا يدرى أحد أين هما، وهل هما فى عداد الأحياء أم الأموات؟ رأى والداها أن هذا هو التصرف السليم، ورغبا أن تعرف أوليا الحقيقة منهما لا من الغرباء الذين سيخبرونها بتلك الحقيقة فى يوم ما، لكن بطريقة مؤلمة تؤذى روح الطفلة.
وسألت أوليا:
ـ وهل هما أيضاً مخيفان؟
أجاب والداها:
ـ لا.. إنهما والداك. ولا يجب أن يكون هناك من هو أحب منهما لديك.
وتنهدت أمها قائلة:
ـ أنتِ لا تبصرين الحقيقة يا ابنتى. إن عينيك تالفتان.
وازدادت أوليا كآبة منذ ذلك الوقت. وانقضى صيف بعد ذلك، وقررت أوليا أن تهجر الكوخ عند حلول الخريف باحثة فى العالم عن والديها اللذين هجراها. ولكن لم يكد الصيف ينقضى حتى جاءت إلى القرية فلاحة متقدمة فى السن، تنتعل خفين من اللوف، حاملة على ظهرها بقجة خبز. وكان من الواضح أنها متعبة وأنها قطعت طريقاً طويلاً على قدميها. وفى الطريق، حيث انتصبت شجرة صنوبر عتيقة عند البئر، جلست المرأة، وأخذت تتطلع إلى الشجرة. ثم نهضت بعد ذلك وتحسست الأرض من حول الشجرة كأنها تبحث عن شىء ما، ملقى، ومنسى، منذ وقت بعيد. بدلت المرأة خفيها، ثم مشت صوب كوخ دميان، وقعدت على المصطبة. لم يكن هناك مارة فى الطريق، كان أغلب الناس فى ذلك الوقت يعملون فى الحقول. وظلت المرأة القادمة من بعيد جالسة وحدها فترة طويلة. حتى خرجت طفلة من أحد الأكواخ ونظرت إلى المرأة الغريبة وراحت تدنو منها.
قالت البنت ذات العينين الواسعتين صافيتى الضياء:
ـ أنتِ لست مخيفة.
ونظرت المرأة القادمة من بعيد إلى البنت، وأمسكتها من يدها، ثم ضمتها إليها وأطالت احتضانها. لم ترتعد البنت، ولم تصرخ. وحينذاك قبلت المرأة عين الطفلة، ثم الثانية، وانخرطت فى بكاء. لقد أيقنت أن أوليا ابنتها، ميَّزتها بقلبها الذى ارتعش، ميَّزتها بعينيها، بالحسنة التى على رقبتها، وبتكوين جسمها الدقيق.
قالت المرأة :
ـ كنت شابة وغبية فرميتك للناس. والآن عدت لآخذك.
التصقت أوليا بصدر المرأة الناعم الدافىء ونعست. قالت المرأة وهى تقبل عينى أوليا نصف المغلقتين: " أنا أمك" .
داوت قبلة الأم عينى أوليا فصارت ترى الضوء الأبيض المشمس بشكل مألوف مثل كل الناس. وأصبحت تتطلع أمامها فى هدوء وثبات، بعينين رصاصيتين، واضحتين، ولم تعد تهاب أحداً. صارت ترى كل ما هو طيب على الأرض باهراً، فى صورته السليمة، دون أن يلوح لها مفزعاً ودميماً، وكفت عن رؤية الشر والقسوة رائعين كما كان يحدث فى السابق وهى بلا أم . غير أنه منذ تلك اللحظة، اختفى ما كان يلمحه الآخرون فى عمق عينى أوليا، وتوارت منهما صورة الحقيقة المستخفية، ولم تحس أوليا فاجعة أن الحق لم يعد يضىء فى عينيها، ولم تحزن أمها حين علمت بهذا.
قالت أمها:
ـ لا يحتاج الناس إلى رؤية الحقيقة، إنهم يعرفونها من أنفسهم، أما الذى لا يعرفها فإنه لن يصدقها، حتى لو شاهدها بنفسه.
فى ذلك الوقت ماتت جدتى العجوز، ولم يعد بوسعها أن تحكى لى أكثر من هذا عن أوليا. لكنى بعد مرور زمن طويل، رأيت أوليا بنفسى. كانت قد صارت شابة جميلة جمالاً أكثر مما يحتاجه الناس. لذلك امتلأ الناس بها إعجاباً.. لكن قلوبهم غدت فاترة نحوها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى