عبد الله الحيمر - قراءة في رواية «موت مختلف» لمحمد برادة : مأزق الهوية بين الوجود وإعادة التشكيل

عن دار الآداب البيروتية وعن دار الفنك في الدار البيضاء، صدرت رواية «موت مختلف» للكاتب والناقد المغربي «محمد برادة». حيث يبدو سؤال (الهوية) كيف تتشكل ويعاد إنتاجها في دواخلنا بين التأويلات والدلالات بشأنها؟ هناك بالتأكيد إجابات متعددة ومتنوعة، حسب تعدد مفهومنا للهوية، وحسب زاوية النظر والرؤية أيضا لمأزق هذه الهوية، التي حار الكثير من المفكرين في إيجاد مفهوم قار لها.

هوية الوعي

سفر العبور في الذات المغربية، الباحثة عن الهوية، تحتاج لسرد نوعي يخرجها من أزمة التعدد والتنوع والتغيير، ويدفعها إلى الخوض في إشكالية التلاحم والتلاقح مع هويات أخرى، حتى لا تصاب بالعقم. فكانت هوية السرد في رواية «موت مختلف»، رؤية مختلفة لارتباك هذه الهوية أمام التحولات التاريخية والسياسية والثقافية، التي نحتت تشكلها. فقدمت وعيا تاريخيا يكشف عن منطق هذه التحولات من العمق التنويري. ضمن هوية مفتوحة على مستقبل كل ما هو إنساني في الثقافات الإنسانية الأخرى. فالنص الروائي «موت مختلف»، يعيدنا إلى إحدى النظريات المهمة في فلسفة التاريخ، وهي نظرية التأويل عند بول ريكور، حيث مفهوم السرد عنده ينزل منزلة الوجود، وبالتالي لا يمكن استعادة التاريخ، سواء على المستوى التخيلي أو الواقعي، من وجهة نظره دون وعي سردي، من أبرز مكوناته وجود هوية سردية جوهرها الحرية الفردية كسمة من أهم سمات الأزمنة الحديثة، على حد تعبير جورج لوكاتش. من هنا تأتي شرعية الكينونة المأزومة عند البطل (منير): من أنا وكيف أتعايش مع التلاقح الهوياتي عند الآخر؟

الذاكرة

أفق التجربة في الرواية يتجه نحو الماضي مدينة «دبدو» في المغرب ويخصص له الباب الأول «زيارة مسقط الرأس». كمدخل للرواية تضع في أحداث الماضي على شكل يوميات يؤرخ للزمن اليومي الفعلي بالعودة والشيخوخة. والنص السردي ينقلنا لمسقط الرأس كواقع فعلي يختزل ذاكرة معتقلة بالماضي. محاولا اختراق جدار البدايات والتكوين بوعي شقي يحاول بناء زمن العودة بجسور من التواصل بين البداية والنهاية. يقول منير: «ما موقع دبدو من نفسي لأني أحسها متغلغلة ما تزال، في السويداء والوجدان؟ أعود إليها وقد انجلت أحلام الشباب، وتعبت من الجري وراء أحلام الثورة وتغيير الجلد، وأريد أن أعرف حقيقة شعوري داخل عالم ملتبس الحدود، مختل الإيقاع كل يوم هو في شأن؟». ثم تنتقل بنا الى زمن آخر وتشكيل آخر للهوية. بعد أن أحيل على التقاعد البطل منير، وخفت الحركة حوله يقول البطل منير: «العزيزة ف.م: تسألينني عن حياة التعطل التي أعيشها منذ شهور بعد إحالتي على التقاعد؟ أظن أن هناك أشياء لا تبارحنا، خاصة عندما نتقدم في العمر، منها الشعور بالكآبة المقترنة بالعبث. ربما لأن مفاجآت الوجود تفقد تدريجيا بكارتها؟ أو لعل التكرار يوحي لنا بأن ما نعيشه اليوم قد عشناه من قبل». اقترب بطل الرواية منير من السكوت إلى الصراخ الداخلي للهوية. كما قال يوما محمود درويش: «إنه أكثر من مرة يكتشف متلبسا»، حائرا في صياغة مستقبل بدون موت مختلف. تتطرق رواية موت مختلف في الجزء الأول تحت عنوان «في بلاد الأنوار»، لحياة البطل منير ورحلته المعرفية/التنويرية في فرنسا، يشرح فيها بعمق فلسفة شرطنا الإنساني في استرجاع قيم الأنوار. يقول البطل منير «هل يبقى في ذاكرتنا جزء من التاريخ الذي عشناه؟ أم إن ما يبقى هو مزيج زئبقي يشوش الصورة المصفاة التي نختزنها منذ اللحظات الأولى للقائنا بالأشياء». هنا تبدأ هوية السرد بالتحرك بين الميلاد والشيخوخة ـ مدينة دبدو في المغرب وفرنسا، بحراك وجودي قلق، يتيح للسارد مرة أخرى مغامرة وجودية ثرية، وهذا ما ذهب له ريكور: «إن المستقبل هو الذي يضفي صفة الإمكان على تطلعات الحاضر، وتصنع خبرات الماضي أساسا لتلك التطلعات ولممارستها. أما الجانب التواصلي فيضاعف من القيمة الوجودية، إذ هو يتضمن الجانب الروحي، ويحقق الأهداف الضرورية للحياة».

الآخر وعالمه

فهوية البطل منير متحركة لا تعيش في شرنقة انعزالية، بل تكتشف وتكشف ذاتها بين آخرين، سواء في المغرب أو فرنسا. ودائما البطل في صراع مع جحيم هوية الآخر، القريب متمثلا في ابنه الوحيد، يتعامل معه بقيم التنوير والحداثة والديمقراطية، اما علاقته بالآخر، أي مكان الولادة أو الوطن بالذاكرة، فعلاقته معه ملتبسة بين واقع تقليدي مرتبك وحلم بعلمانية تحرر الإنسان وتدافعه نحو أفقه الإنساني. فمرت إشكالية الهوية عنده، بمخاض عسير للبحث عن الذات وإثباتها في ظل مجتمع أوروبي. فكانت في النهاية هوية ذاكرة، متنورة، متشعبة، ما تنفك عن التذكر والتفكير بحقيقة قلقها الوجودي، ومعانقتها لخطاب جديد يؤثث لفضاءات ورؤى متوازنة للذات والآخر في ظل البعد المكاني، كما قال محمود درويش: «من أنا من دون منفى».

الخوف

لم يكن يخطر على بال البطل منير أن يذهب بحوار الهوية إلى أقصاه، بمعنى فضاءات لم تخطر على باله هو المؤمن بالهوية الكونية. في محاورته مع ابنه منير، ثمرة تخصيب حضاري بين هويات متحركة مغربية عربية وفرنسية أوروبية. يقول بدر ابن البطل منير «أشعر بأن قلبي يتسع لاحتواء كل البشر والثقافات والأديان، بدون أسيجة أو حدود»، غير أنه يعيش حالةَ رعب خوفا من الابتلاع والإلغاء. ويضيف «كأنما هناك مصادرة لحقي في المزج بين هويات متعددة تمنحني الانفتاح والتوازن من خلال التهجين المخصب الذي علمْتني إياه». فولد منير يعيش قلقا وجوديا بين نسقين مختلفين: مغربي عربي/ وفرنسي/ أوروبي. بين العودة إلى الجذور الخاصة، بين هوية أبيه العربية، أم يذوب وينصهر في ثقافة أمه ذات البعد التنويري. أمام هذا المأزق يخرج الأب عن صمته الملكي، ويقول له: «لقد كنتَ تربة خصبة لما زرعناه فيك من توجهات تتطلع إلى تحرير الفرد وربطه بأفق مجتمعي يعزز رهانا تاريخيا أفضل»، فكانت هويته الكونية امتدادا في ابنه، وتحقيقا لحلمه في تثبيت قيم الأنوار في جينات ابنه بدر، الموشومة بالديمومة التي تتجاوز الأزمنة. «بالديمومة المتخطية لراهنة الزمن الظرفي».

هوية الموت

يستلهم من نيتشه مقولة «صر ما أنت» ليحدد موقفه الأبستمولوجي من الموت. ويصيغ معادلة التوازن مع احتمالية نسبية الحياة. فتحدد هوية الموت بالرواية عبر مستويين، أولهما كابوس الموت: بإدارة التوحش على مستوى الطبيعة والإنسان والحضارات، التي أصبحت أجندة حاضرة في المشهد اليومي لعالم جعل من الحداثة والديمقراطية دعائم لحضارته. «من قلب هذه الحضارة نفسها اندلعت حربان عالميتان خلفتا ملايين الضحايا، ومنها تبرز الآن سلوكيات وأفعال وحشية تجعل الكابوس عنصر مأساويا في الحياة اليومية عبر العالم، لأن البرابرة الجدد نجحوا في أن يجعلوه دوليا يمارس العولمة على طريقته، ولا أحد يجرؤ على الزعم أنه كابوس سيدخل منطقة النسيان عما قريبا». أما المستوى الثاني فيتمثل في التأويلات الفلسفية للتواري والعدم «ورطة التأويلات الفلسفية المتصلة بميتافيزيقيا الوجود والعدم». وأن الحياة مجرد احتمال نسبي، وأن معنى البحث عن زمن «موت مختلف» هو في الحقيقة بحث عن حياة مختلفة. فنكتشف بخيانة الفرح، أن الذاكرة الهوياتية للبطل منير مرتبكة وفائضة من عقلية ثقافية متنورة. تحاول القبض على جمر الحتمية الكونية وسط أنساق تقليدية وحداثية، لتصل إلى طريق النار التي تسلقها في مسار الاسئلة الحضارية العميقة في التلاقح والحوار الهوياتي. إنها رواية الأسئلة الحضارية الكبرى، التي تظهر من خلالها حيرة الكاتب وهو يتلظى بالوعي الشقي. عبر جعل قصة البطل منير وسيلة للتطهير وفرصة لصقل الذات مع الآخر والدفاع عن كينونة مشتركة. أرخت الرواية لماهية الكتابة حينما تتخذ من هشاشة أروحنا أفقا لمواجهة تحولات الزمن وتقلبات التاريخ في كتابة رحلةُ البحث في الذات عن الذات. «كيف نكتب ونحن نستحضر الموت أفقا لنا ونتحدث عن إحباط وفشل ومأساة ؟ ألا تستوجب الكتابة افتراض مجال للتصارع والربح قبل الخسارة».

٭ ناقد مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى