فردريك نيتشه - هكذا قال زرادشت.. -5- تر: الأستاذ فليكس فارس

المأخوذون بالعالم الثاني

وترامي زارا يوماً بخياله إلى ما وراء الإنسانية، فتراءى هذا العالم لديه كما يراه جميع المأخوذين بالعالم الثاني خليقة رب متألم مضطرب، فقال:

رأيت الدنيا كأنها أحلام نائم أبدعت أبخرة حوالة متلونة ترتد عنها ألوهية النفس على غير رضى. وقد لاح لي الخير والشر والأفراح والأحزان وذاتي وذات الآخرين كما تلوح الأبخرة الملونة لعين المبدع، ولعل المبدع أراد أن يتحول ببصيرته عن ذاته فأوجد العالم.

لا ينتشي المتألم بمسرة أشد من مسرته حينما يعرض عن آلامه وينسى نفسه. هكذا تكشف لي العالم يوماً فرأيت مسرته ثملاً ونسياناً وهو يتقلب أبداً في نقائصه معكساً للتناقض الأبدي

نظرت إلى العالم يوماً فلاح لي مسرةً مسكرة يتمتع بها مبدع غير كامل خلقته أنا، فجاء ككل أعمال البشر جنةً بشرية.

ما كان هذا الإله إلا إنساناً، بل جزءاً من شخصية إنسان، لأنه نشأ من ترابي ومن لهبي. إنه لشبح من هذا العالم لا من وراء هذا العالم.

شهدت ذلك، أيها الأخوة، فتفوقت على ذاتي بآلامي، وحملت ترابي إلى الجبل حيث أوقدت ناراً تشع نوراً فإذا بالشبح يتوارى مبتعداً عني.

فإذا ما آمنت الآن بمثل هذا الشبح، فلا يكون إيماني إلا توجعاً وصغاراً، ذلك ما أقوله للمأخوذين بالعالم الثاني.

ما أوجدت العوالم الأخرى في هذا العالم سوى الآلام والشعور بالعجز، ذلك ما أوجدته تلك العوالم فأوجدت معه هذا الجنون السريع الزوال بسعادةٍ ما ذاقا من الناس إلا أشدهم آلاماً

إن المتعب الذي يطمح إلى اجتياز أبعد مدى بطفرة واحدة بطفرة قاتلة، وقد بلغت به مسكنته وجهالته حداً لا يستطيع عنده أن يريد، إنما هو نفسه مبدع جميع الآلهة وجميع العوالم الأخرى.

صدقوني، أيها الأخوة، إن الجسد قد قطع رجاءه من الجسد، فغدا يجس بأنامله مواضع الروح المضللة، وذهب يتلمسها من وراء الحواجز القائمة على مسافة بعيدة.

صدقوني، أيها الأخوة، إن الجسد قد تملكه اليأس من الأرض فسمع صوتاً يناديه من قلب الوجود، فأراد أن يخترق برأسه أطراف الحواجز، بل حاول العبور منها إلى العالم الثاني، غير أن العالم الثاني جد خفي عن الناس لأنه بتخنثه وابتعاده عن كل صفة إنسانية ليس إلا سماء من العدم. إن قلب الوجود لا يخاطب الناس إذا لم يكلمهم كإنسان.

والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه. أجيبوا أيها الأخوة، أفما يلوح لكم أن أغرب الأمور أثبتها دليلاً؟. . .

أجل! إن هذه الذات على ما فيها من تناقض واختلال تثبت بكل جلاء وجودها فتبتدع وتعلن إرادتها لتضع المقاييس وتعين قيم الأشياء، وما تطلب هذه الذات في إخلاصها إلا الجسد حتى في حالة استغراقه في أحلامه وتحفزه للطيران بأجنحته المحطمة

إن هذه الذات تتدرب على الإفصاح عن رغباتها باخلاص، وكلما ازدادت تدرباً ألهمت البيان للإشادة بالجسد وبالأرض.

لقد علمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها الآن للناس: علمتني ألا أخفي رأسي بعد الآن في رمال الأشياء السماوية، بل أرفعها رأساً عزيزة ترابية تبتدع معنى الأرض.

إنني أعلم الناس إرادة جدية يتخيرون بها السير على الطريق التي اجتازها الناس عن غباوة من قبلهم؛ أعلمهم أن يطمئنوا إلى هذه الطريق فلا تنزلق أرجلهم عنها كما انزلقت أرجل الاعلاء المتهكمين، وما هؤلاء إلا من ابتدعوا الأشياء السماوية واخترعوا قطرات الدماء المراقة لافتداء البشر. على أن هذه السموم التي أخذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إلا من الجسد ومن الأرض.

لقد شاءوا الفرار من الشقاء وتراءت لهم الكواكب بعيدة صعبة المنال فوجموا يدفعون بالزفرات قائلين: وا أسفاه! لم لا تنفتح أمامنا سبل في السماء ننسحب عليها إلى وجود آخر وسعادة أخرى.

في ذلك الحين اخترعوا أوهامهم وكؤوسهم الصغيرة المترعة بالدماء. . . وحسب هؤلاء الناس في عقوقهم أنهم فازوا بالنعيم بعيداً عن جسدهم وعن الأرض؛ وتناسوا أن تنعمهم ورعشة ملذتهم إنما نشأت من جسدهم ومن هذه الأرض.

إن زارا ليشفق على الإعلاء فلا يغضب لما أوجدوه من وسائل السلوان ولا يتمرمر لأنهم عقوا جسدهم وأرضهم، بل هو يرجو لهم الشفاء والتغلب على أنفسهم ليوجدوا لهم أجساداً أرقى من أجسادهم.

إن زارا لا يغضب أيضاً على الناقه الذي يحن إلى وهمه فيذهب في منتصف الليل ليطوف بقبر إلهه، ولكنه لا يرى في دموع هذا الناقه إلا أثر المرض والجسم المريض.

لقد وجد في كل زمان كثير من المرضى المستغرقين المتشوقين فهم يكرهون إلى حد الهوس كل من يطلب المعرفة، ويكرهون أبسط الفضائل وهي فضيلة الإخلاص.

إنهم يلتفتون دائماً إلى الوراء، إلى الأزمنة المظلمة، إذ كان للجنون وللإيمان حلتهما الخاصة؛ فكان الإله يتجلى في هوس العقل، وكانت كل ريبة خطيئة.

لقد عرفتهم جد المعرفة، أولئك المتجلين على صورة الله ومثاله، فتيقنت أن جميع رغباتهم تتجه إلى أن يؤمن الناس بهم وأن يصبح كل شك فيهم خطيئة، وما فات مداركي ذلك الإيمان الذي يدعون رسوخه فيهم. فانهم لا يؤمنون لا بالعوالم الأخرى ولا بقطرات الدماء تفتدى العالم، بل هم كسائر الناس يعتقدون بالجسد، ويرون أن أجسادهم نفسها هي الكائن الواجب الوجود

غير أن هؤلاء الناس يرون الجسد كائناً معتلا، فيودون أن يبار حوا جلودهم وذلك ما يدفعهم إلى الإصغاء للمبشرين بالموت وما يهيب بهم إلى التبشير بالعوالم الأخرى.

أما أنتم، يا إخوتي، فأصغوا إلى صوت الجسد الذي أبل من دائه لأن هذا الجسد يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك الأصوات.

ان الجسد السليم يتكلم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم وليس بيانه إلا إفصاحاً عن معنى الأرض.

هكذا تكلم زارا.

المستهزئون بالجسد

لأقولن للمستهزئين بالجسد كلمتي فيهم: إن واجبهم ألا يغيروا طرائق تعاليمهم، ولكن عليهم أيضاً أن يودعوا أجسادهم فيستولي على ألسنتهم الخرس.

يقول الطفل: أنا جسد وروح. فلماذا لا يتكلم هؤلاء الناس كالأطفال؟ أما الإنسان الذي انتبه وأدرك ذاته فيقول: إنني بأسري جسد لا غير، وما الروح إلا كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد.

ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، ومظاهر متعددة لمعنى واحد. إن هو إلا ميدان حرب وسلام، فهو القطيع وهو الراعي.

إن آلة جسدك إنما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحاً، أيها الأخ، إن هو إلا أداة صغيرة وألعوبة صغيرة لعقلك العظيم.

إنك تقول: (أنا)، وتنتفخ غروراً بهذه الكلمة، غير أن هنالك ما هو أعظم منها، أشئت أن تصدق أم لم تشأ، وهو جسدك وأداة تفكيره العظمى؛ وهذا الجسد لا يتبجح بكلمة أنا، لأنه هو (أنا)، هو مضمر الشخصية الظاهرة.

إن ما تتأثر الحواس به وما يدركه العقل لا نهاية له في ذاته، غير أن الحس والعقل يحاولان إقناعك بأن فيهما نهاية الأشياء جميعها، فما أشد غرورهما!

ما الحس والعقل إلا أدوات وألعوبة؛ والذات الحقيقة كامنة وراءهما مفتشة بعيون الحس ومصغية بآذان العقل.

إن الذات ما تبرح مفتشة مصغية، فهي تقابل وتستنتج ثم تهدم متحكمة في الشخصية سائدة عليها، فأن وراء إحساسك وتفكيرك، يا أخي، يكمن سيد أعظم منها سلطاناً، لأنه الحكيم المجهول، وهذا الحكيم إنما هو الذات بعينها المستقرة في جسدك وهي جسدك بعينه أيضاً.

إن في جسدك من العقل ما يفوق خير حكمة فيك، ومن له أن يعلم السبب الذي يجعل جسدك بحاجة إلى خير ما فيك من حكمة

ان ذاتك تهزأ بشخصيتك وبألعابها قائلة: - ما هي خطرات الفكر وتساميه إن لم تكن جنوحاً إلى هدفي، أفلست أنا رائدة الشخصية وملهمة أفكارها؟

تقول الذات للشخصية - اشعري بألم، فتتألم وتفتكر بالتخلص من هذا الألم وقد تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية.

وتقول الذات للشخصية - اشعري بالسرور، فتسر وتفتكر بإطالة أمد هذا السرور؛ وقد تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية

لي كلمة أقولها للمستهزئين بالجسد، وهي أن احتقارهم إنما هو في الحقيقة حرمة واعتبار، إذ من هو يا ترى موجد الاحترام والاحتقار والتقدير والإرادة؟

إن الذات المبدعة أوجدت لنفسها الاحترام والاحتقار كما أوجدت اللذات والألم، إن الجسم المبدع أوجد العقل لخدمته كساعد يتحرك بإرادته.

إنكم لتخدمون الذات الكامنة فيكم حتى في جنونكم وفي احتقاركم. وأنا أقول لكم أيها المستهزئون بالجسد إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت، وقد تحولت عن الحياة لأنها عجزت عن القيام بما كانت تطمح اليه، وما أقصى رغباتها إلا إبداع من يتفوق عليها، ولقد مضى زمن تحقيق هذه الرغبة، لذلك تطمح ذاتكم إلى الزوال أيها المستهزئون بالأجساد.

إن ذاتكم أصبحت تتوق إلى الزوال، وهذا ما يدفع بكم إلى الاستهزاء بالأجساد إذ قد امتنع عليكم أن تخلقوا من هو أفضل منكم.

إن هذا العجز قد ولد فيكم النقمة على الحياة والأرض. وها هي ذي تتجلى شهوة في لحظاتكم المنحرفة دون أن تعلموا

إنني لا أسير على طريقكم أيها المستهزئون بالأجساد، لأنني لا أرى فيكم المعبر الذي يؤدي إلى مطلع الإنسان الكامل

(يتبع)

فليكس فارس



مجلة الرسالة - العدد 179
بتاريخ: 07 - 12 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى