عبد الرحيم جيران - الهوية والحب

إذا كنا قد قررنا، في المقال السابق، أن الذات لا تكتسي قيمتها الهوياتية إلا بفضل القيمة التي تؤول إليها من قيمة موضوعها، فكيف يتحقق هذا على مستوى موضوع الحب؟ وكيف تشتغل ثنائية (الندرة/ الوفرة) في هذا الصدد؟ وهل من اللائق عد المحبوب موضوع قيمة شأنه شأن أي شيء قابل للتملك؟ وكيف يُمْكِن مقاربة هوية الذات انطلاقًا من اتصال موضوع الحب بهذه الثنائية؟
تضطرنا هذه الأسئلة إلى الجزم بأن الذات المحبوبة ليست موضوعًا خاملًا كما الأشياء؛ بل هي ذات أيضا يصدر عنها رد فعل تجاه فعل الذات المُحبة. ورد الفعل هذا هو ما يُساهم في بناء هوية الذات المحبة.
وكل فعل حب يتأسس بالضرورة على أسبقية الإرادة بما تعنيه من حرية الذات المحبة في اختيار موضوعها، ومن تطلعها الذي يسعى إلى نيل الاعتراف بقيمتها. ويقوم هذا الاختيار على تفضيل قيمي يُركز كل أسباب الحب في ذات ـ موضوع محددة من بين عدد من الذوات. بيد أن هذا التركيز يستند إلى نموذج تصوري قَبْلِي؛ أي صورة قَبْلِية تحدد هوية المحبوب (مواصفات فيزيقية ـ نفسية ـ سوسيولوجية ـ مزاجية، الخ). ولا تنفلت هذه الصورة القَبْلِية من كونها نتاج ثقافة معينة، ونتاج تنافس أيضًا على موضوعات الندرة داخل المجتمع؛ بحيث يُتطلب في الذات ـ الموضوع (المحبوب) أن تكُون متمتعة بخاصية الاستثناء النادر الذي يتعذر تكراره، أو يقل من زاوية نظر المحب؛ وتجعل هذه الندرة الاستثنائية منه مجالًا لتنافس عدة ذوات على حيازة قبوله. لكن تنبغي الإشارة ـ هنا ـ إلى أن مفهوم الندرة متبادل بين الطرفين (المحب والمحبوب)؛ أي أن كلا منهما يشكل موضوع قيمة بالنسبة إلى الآخر؛ سواء أكان هذا التبادل قبولًا أم رفضًا. وما أن نصل إلى هذه النتيجة يتحول الحب من صيغته الإرادوية المجردة إلى صيغته الملموسة التي يُعبر عنها فعل التحاب. وتتحدد الهوية المتصلة بالمحب في نطاق هذا التبادل، وما يترتب عليه من نتائج على مستوى التقويم الذاتي؛ أي تقويم الذات نفسها في ضوء التجربة الحية لفعل الحب. ويأخذ هذا التقويم بعدين: أ ـ بعد أول يحصل بموجب الاعتراف بالمحب من قِبَل المحبوب بوصفه مصطفى ومرتبًا في الرتبة الأولى في الوجود، وواقعًا خارج دائرة التشابه والتكرار. ب ـ بعد رضا الذات المحبة عن نفسها من خلال رضا الذات المحبوبة عنها. ويزداد بعدا التقويم هذان شدة، كلما كان التنافس على المحبوب من قِبَل ذاتين أو أكثر؛ إذ يقع التفاضل في الهوية من طريق الإحساس بالتفوق والتوفق معًا. ويستند هذا الإحساس إلى مبدأ البقاء الماثل في طواعية العالم للرغبة، وعدم استعصائه. ومما ينبغي التنبه إليه ـ في هذا النطاق ـ مفهوم التبادل الهوياتي الذي نقترحه كي نصف استراتيجية الإغراء بين المحب والمحبوب؛ ومعنى هذا أن كلا منهما يسعى إلى إبراز صورة هوياتية مثلى حول نفسه، من أجل جعل الآخر يقتنع بالندرة التي تميزه من الذوات الأخرى. وتكاد هذه الصورة الهوياتية المثلى التي يشارك بها المحب في التهاوي تشمل الفيزيقي والمهاري والجمالي. لكننا نرى أن التهاوي يخضع لقاعدة هوياتية عامة هي كالآتي: قيام هوية المحبوب على التماثل والاختلاف في الوقت ذاته؛ أي أن هذه الهوية تماثل توقع المحب، بيد أن هذا التوقع ينبغي أن يكُون مختلفاً عما يُتوقع من هويات الآخرين.
لا يتعدى كل ما قيل أعلاه توصيفا للتحاب في صورته الدلالية العامة بما يترتب عليها من تحديد لتشكل الهوية التي تنشأ من جراء الاعتراف بقيمة المحب؛ فالذات المحبة تعرف نفسها في وهْب المحبوب ذاتَه لها دون غيرها. لكن هذا الوهْب ينبغي أن يكُون متفقًا مع ما تتطلع الذات المحبة إليه؛ أي مع ما يُشكلها من أهواء ورغبات ونزوعات تُكون ـ في نهاية المطاف ـ أبعادَ الميل لديها.
ومن ثمة يَرِدُ ـ في هذا النطاق ـ الاتفاق بين التصور (التطلع) والتحقق أو التنافر بينهما. ومعنى هذا أن الهوية في صيرورة الحب خاضعة بدورها للانتقال من الذهني ـ النفسي إلى التجريبي الواقعي. ويُفضي حكم من هذا القبيل إلى كون فعل الحب لا يخلو من فحص الذات المحبة لنفسها في هوية المحبوب، وهذا الفحص يأخذ هيئة مقارنة بين ما كانت الذات المحبة تتخيله أو تتصوره من صورة لهوية المحبوب (الاقتناعات ـ المزاج ـ السلوك ـ القيم ـ العيش، الخ) وصورته كما هي منتَجة خلال الممارسة الحية الواقعية؛ فإما أن يحدث التطابق بين الصورتين أو التنافر بينهما؛ ومن ثمة تنشأ ثنائية (الرضا/ الخيبة) التي تقوم بموجبها الذات المحبة نفسها. وكلما كان الرضا واردًا بتطابق الصورتين كانت الهوية هوية عثور متواصل للذات المحبة على نفسها في انفصالها عن ذاتها بالاتصال بذات أخرى (المحبوب)؛ أي في وجود معايِش لها، ليس هو وجودها الخاص؛ بمعنى قبول أن يكُون الآخر (المحبوب) محددًا لهويتها. وكلما كانت الخيبة واردة بتنافر الصورتين كانت الهوية هوية توه للذات المحبة عن نفسها نتيجة اضطراب التهاوي من طريق تناقض الظاهــر والباطن؛ أي أن الذات المحبة تجد في الصورة الهوياتية للمحبوب التي تلقتها قبل التحاب مجرَدَ مظهر مخادع غير حقيقي لا يعكس الصورة الهوياتية الحقيقية التي تُشكل الباطن.
تُعَد رواية «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير نموذجًا مهما لاشتغال الهوية في اتصالها بموضوع الحب؛ فالذات موضوع قيمة الحب حُددت ـ بالنسبة إليها ـ في شارل بوفاري؛ ومن ثمة وقع التبادل الهوياتي على مستوى الظاهر الذي يتمثل في صورة الطبيب المُعالج. وقد كانت إرادة الحب ـ من جانب إيما ـ ماثلة في كونها نتيجة صورة قبلية ذهنية ونفسية منتَجة من خلال قراءاتها الرواياتِ الرومانسيةَ في أثناء وجودها في الدير. ويُعَد قبولها الزواج من شارل قبولًا لأن يكُون الآخر الذكوري المحبوب محددًا لهويتها من طريق العثور على نفسها التي هي نتاج مقروء روائي رومانسي. وهذا القبول تام بموجب تماثل ظاهري لشارل مع الندرة التي تميز الشخصيات الروائية الرومانسية والتي كانت محتوى توقع إيما منه؛ أي أنه توقع يخالف ما تتوقعه من أشخاص عاديين يكررون النسخة الواقعية للهوية الذكورية. لكن هوية إيما لم تتشكل إلا حين انكشاف صورة شارل الهوياتية الحقيقية التي تجعله مندرجًا في خانة الوفرة، لا الندرة؛ ومن ثمة يُعَد التنافر بين صورة المحبوب المثالية لدى إيما والصورة الواقعية لشارل محتوى الهوية التي تميز إيما، والتي تتصف بتوهها عن نفسها. وكل المحاولات الأخرى التي تُعَد إعادة استئناف التبادل الهوياتي من قِبَل «إيما» مع كل من «رودولف» و»ليون» لا تخرج عن البون الشاسع بين صورة المحبوب المثالية والصورة الواقعية غير النموذجية. لهذا كان الانتحار ـ في نهاية المطاف ـ دالا على تعذر الإجابة عن ماهية الأنا بفعل عدم تحقق الرضا عن النفس من

٭ أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى