محمد فهمي عبد اللطيف - دعابة الجاحظ -2-

ولقد رأيت في الناس من يحسب أن التنادر من الشيء الهين، الذي يستطيعه كل إنسان، ويقدر عليه كل شخص؛ وهذا حسبان خطأ، فان التنادر فن له ثقافة ودراية كسائر الفنون، ولا بد من حذقه من استعداد موهوب، وملكات فطرية، يتصل بعضها بالقلب، وبعضها بالعقل، وقد يناقض بعضها بعضاً، وقد لا تجتمع كلها لشخص واحد، ومن ثم اختلف حظ الناس في إجادة هذا الفن، كاختلافهم في إجادة الشعر والكتابة والرسم وغيرها، ففيهم الذي يبلغ في ذلك مرتبة العبقرية، ومنهم من يقف عند حد النبوغ، وفيهم من هو دون ذلك وأقل، ثم تتدلى وتتدلى حتى تقع على البليد الأصم الذي لا يفهم ما يقول، ولا يفقه ما يقال، فهو أخو الجمادات في فقدان الشعور، وبلادة الإحساس، وإن كان قد تميز بالنطق، وبالنطق فحسب!

ومن أجل أن نقيم الأود في هذا الخطأ على وجه أوضح، ونعطي الموضوع بعض ما يستحقه من الشرح، نقول بأن التنادر لا يقف في اتجاهاته ومراميه عند العبث والضحك، ولكنه في الواقع يقصد إلى ما هو أهم وأجل، ويرمي إلى أغراض متعددة، كل غرض منها يعتمد على ملكات ولا بد له من استعداد خاص، فمن ذلك السخر وهو يقوم على الذكاء وقوة الإدراك، وحسن المفارقات؛ والدعابة وهي تعتمد على انبساط النفس، ومرح الطبيعة، وخفة الروح؛ ثم الهزل وإنما يكون عن استهانة بتكاليف الحياة وعظائم الأمور، وتفريط في الواجب؛ وقد يتدفع الإنسان إلى الهزل والعبث بدافع العطف والتبسط، كما تضحك من طفلك الصغير، ومن أصحاب النقص وذوي العاهات. وقليل في الناس من تجتمع له كل هذه الجهات بملكاتها كما كان الجاحظ، وكثير من نجده يجيد الضرب والضربين، فهو في أحدها يقطف، وفي بعضها يقف

على أنه لابد لحذق هذا الفن بعد كل هذه المواهب والملكات من ثقافة بضروبه، وعلم بمسالكه وانتهاجه، حتى يمكن للتنادر أن يقع بالنادرة من قلوب السامعين موقعاً يهز المشاعر، ويشفي نجى البلابل، وقد تكلم الجاحظ في تبيان النهج الذي يكون به أداء النادرة وحظها من القبول والاستملاح والاستطابة فقال: (والنادرة الباردة جداً قد تكون أطيب من النادرة الحارة جداً، وإنما الكرب الذي يخيم على القلوب ويأخذ الأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط، والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جداً والبارد جداً. . .

ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الأعراب، فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإن أنت غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظاً حسناً، أو تجعل لها من فيك مخرجاً سرياً، فان ذلك يفسد الإمتاع بها، وبخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها، واستملاحهم لها. .)

وثمة ناحية لا أحب أن تغرب عن البال، وهي أن الإنسان وإن اجتمعت له ملكات التنادر، وتمت له مواهب الدعابة، وكان على علم بشرائط ذلك وضروبه، فأنه مع هذا كله لا يستطيع أن يكون له فبهذا الفن إلا إذا استوفى شرائط أخرى في هيئته ومخبره وإشاراته، وما هذه الشرائط في الواقع إلا أداة هذا الفن وآلته، فكما أنهم ارتضوا للخطيب نمطاً خاصاً في موقفه من اعتجار العمامة، وإصابة الإشارة، وجهارة الصوت، وجودة الإيقاع؛ وكما أنهم اشترطوا للمنادم بزة معلومة من الزي، وحسن الحديث ولطف المدخل، فكذلك رأوا من شرط المسامر والمنادر أن يكون خفيف الإشارة لطيف العبارة، ظريفاً رشيقاً، لبقاً رفيقاً، غير فدم ولا ثقيل، ولا عنيف ولا جهول، قد لبس لكل حالة لباسها، وركب لكل آلة أفراسها فطبق المفاصل، وأصاب الشواكل، ولقد تم للجاحظ كل هذا من مواهب الفن وملكاته، فبلغ فيه مبلغ العبقري النادر، وكان له في كل ضرب من ضروبه واتجاهاته، يتهكم تهكماً مراً لاذعاً، ويداعب مداعبة حلوة سائغة، ويهزل هزلاً هو مراح الأرواح، وأنس القلوب. وإنك لتجده في سائر كتاباته وأحاديثه يجمل القول بالنادرة، ويخلط الجد بالدعابة، فيجعله حسيباً إلى النفوس، سهلاً في التناول، وما أعرف للجاحظ ضريباً في تلك الناحية غير الكاتب الإنجليزي الماجن صاحب (الأفكار البليدة) فقد كان ذلك الكاتب خفيف الروح، قويم الفكر، له آراء صائبة، ولكنه كان يسوقها إلى القارئ مساق الدعابة والتفكه، وكان مشغوفاً بنقض ما تواضع عليه الناس من الفضائل والأخلاق، فيحسب الغرور فضيلة، والقناعة بلادة، ويرى أن أهل الخير والطيبة على باطل، وإنه في ذلك كالجاحظ إذ كان يكتب في الأمور المتناقضة، والحالات المتضاربة، فيحتج لفضل السودان على البيضان، ويفتخر للرماد على المسك، وإن الشبه ليشتد بين الرجلين إذ يتحدث كل منهما عما يتصل بنفسه، ويمسه في شخصه، ولقد وقفت على فصل لذلك الكاتب يتكلم فيه عن الذاكرة، ويتنادر بضعف ذاكرته حتى بلغ به أنه كان ينسى أسمه في بعض الأحيان، فاذكرني ذلك بما كان من أمر الجاحظ إذ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام، فسألت أهلي بماذا أكنى فقالوا لي: أبو عثمان!!

ولقد كان الجاحظ في كثير من قبح الشكل، ودمامة الخلقة، وقصر القامة، ونشوز التركيب. ولكنه كان على الرغم من ذلك كله طيب المحضر، شهي الحديث، خفيف الروح. ظريفاً في إشاراته، فكان بذلك ريحانة السامر، وأنس النادي، ومهوى الرؤساء وولاة الامر، يطلبونه لخفته، ويحرصون عليه لظرفه، ويغمرونه لذلك المرح الذي يفيضه عليهم. وأسوق إليك من ذلك طرفاً: حدث الرواة أن الجاحظ كان جانب الوزير أبن الزيات ينصره على القاضي ابن أبي دؤاد، وكان الشنآن مستحكماً بين الرجلين، فلما غضب المتوكل على أبن الزيات وقتله، وتم الظفر للقاضي، خاف الجاحظ على نفسه التلف، فطلب السلامة بالهرب، فلم يلبث أن قبض عليه، وحمل إلى ابن أبي دؤاد مغلول العنق، مقيد الرجلين، في قميص سمل. فلما وقف بين يديه، وأرسل القاضي في وقف بين يديه، أرسل القاضي في طلب حداد. فقال الجاحظ أعز الله القاضي، ليفك عني أو ليزيدني؟ قال: بل ليفك عنك! فلما جيء بالحداد، غمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساقه، ويطيل أمره قليلاً، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي، وليس بجذع ولا ساجة. فضحك ابن أبي دؤاد وأهل المجلس منه. وقال ابن أبي دؤاد لمحمد ابن منصور وكان حاضراً: أنا أثق بظرفه، ولا أثق بدينه!! ثم قال يا غلام صر به إلى الحمام، وأمط عنه الأذى، فنزع منه الغل والقيد وأدخل الحمام وقد حمل إليه تخت من ثياب وطويلة من خف، ثم جاء فصدر المجلس، ثم أقبل عليه وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان

وكم كنا نشتهي أن يصلنا ذلك الحديث الذي لا نشك في أنه كان عذباً شهياً يفيض بألوان من المرح، وفنون من الأنس، قد توثب فيه الجاحظ على طريقته من نادرة إلى نادرة، وتنقل به من طرفة إلى طرفة. فيا ترى ماذا قال أبو عثمان، وبماذا أجاب ابن أبي دؤاد ولماذا سكت الرواة؟!

(له بقية)

محمد فهمي عبد اللطيف


مجلة الرسالة - العدد 189
بتاريخ: 15 - 02 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى