محمد طه الحاجري - أثر النحو في تقويم اللسان

قالوا، في رسم النحو رسماً غائياً: انه علم تعصم مراعاته اللسان عن الخطأ في الكلام، ومضوا على هذا الاعتبار يضعون القواعد، ويقيمون الحدود، ويكدون الأذهان، ويحملون على النشء في ذلك ما لا يحتمل. فإذا رأوا أن التوفيق إلى الغاية النبيلة قد أخطأهم، وأن السبيل التي رسموها قد بعدت بهم، لم يلتمسوا طريقاً آخر يكون أهدى إلى الغاية؛ فحسبهم أن ينثروا الطريق بالأزهار، وان يزيحوا بعض ما فيه من الأحجار، حتى تتبدل - في زعمهم - طبيعته، وتستقيم نحو الغاية محجته، ويبلغوا بذلك ما اعجز الأجيال السالفة. . . وهكذا جعلوا كل همهم من الإصلاح اللغوي أن يهذبوا قواعد النحاة وينسقوها ويحذفوا فضولها. . . ليصلوا بذلك إلى عصمة اللسان، وهيهات هيهات!!

وأنا ما عرضت لأمر الصلة بين تعليم النحو وتقويم اللسان إلا اندفعت أمام ذهني صورة صبي صغير لا يكاد يبلغ التاسعة، وقد جلس على مقعده الصغير في المدرسة، وأمامه كراسة أكب عليها، وجعل ينظر في جمل منسوقة كتبت فيها؛ وكان المعلم قد طلب منه ومن رفاقه أن يضبطوا أواخرها، امتحاناً فيما عُلِّموه، وتثبيتاً لما قد عرفوه، فاخذ ذلك الصبي يتحسس ما كان قد ألقي عليه، ويحاول أن يضبطه في ذهنه، ويضبط به ما أمامه، فكان ذلك عبثاً لم يجد عليه شيئاً. . . وإذا فماذا يصنع ولابد من الإجابة صواباً أم خطأ؟ أخذ يقرأ الجملة ويجرب على كلماتها علامات الأعراب، فكان يشعر عند بعضها بارتياح، ويحسبها أدنى إلى ما يقرأه في كتاب المطالعة وغيره من الكتب التي اعتاد أن يبعث بها. . . فيثبت الشكل الذي ارتاح إليه؛ ثم يمضي إلى غيره، وهكذا، ثم يعطي الكراسة للمعلم لتصحيحها، فيغتبط حين ترد إليه فيعلم انه لم يخطئ إلا قليلاً

أكانت المصادفة هي التي تملي على ذلك الصبي المسكين، أم كان شيئاًآخر في طبيعته وكيانه هو البذرة الأولى المطمورة في أعماق النفس للسليقة العربية، قد ورثها لأنها بعض ما يقوم الجنس الذي ولد بجميع مشخصاته، ثم أخذت هذه البذرة تستروح نسيم الحياة في هذا الكلام العربي الذي يقرؤه صاحبها بين حين وحين، فلا عجب أن يبرز فيها شيء من مظاهر هذه الحياة، فتحاول تكييف ذوق ذلك الصبي، بمقدار ما أتيح لها من حياة هينة ضعيفة مضطربة؟؟

أما التفسير بالمصادفة فهروب من المسلك العلمي، وأما السليقة العربية الموروثة فلاشك في وجودها؛ وفي أنها وحدها التي تقوم ألسنتنا، وتصحح عبارتنا، على قدر ما تلقى من العناية والرعاية، وعلى قدر ما نتعهدها به من التربية التي تناسب طبيعتها، فأين نلتمس هذا النوع من التربية؟

أنلتمسه في كتب النحو وقواعد العربية كما يفعل الناس جميعاً، فيظن الواحد منهم أن من تجرع جرعات من الألفية أو الدروس النحوية كان خليقاً أن تصح سليقته، ولا يخطئ من بعد في كلمة من الكلام؟

لو جاز هذا الجاز للرجل الضعيف المتهالك أن يقرأ مجموعة من مجاميع الرياضة البدنية، أو يستظهرها، أو يستبطن أسرارها ومواطن تأثيرها، فإذا هو قد اصبح، بسحر هذه المجموعة، قوياً نشيطاً مهزوزاً تتألق عليه الفراهة والعافية، وإذا هو قد اصبح كذلك الرجل (الفلاح) الذي يغذي موطن القوة فيه غذائها الطبيعي من الشمس والهواء والعمل. ولكن أحداً لا يقول هذا ولا يتوهمه، والأمر لا يعدوا هذا القياس في تربية الغريزة اللغوية

وأني لأعرف فريقين من الناس بأعيانهم معرفة صحيحة صادقة يمثلاًن طرفي هذه الحالة التي نتناولها ويثبتان القضية التي نقررها طرداً وعكساً

أما أحد هذين الفريقين فقد صرف عن النحو صرفاً، حتى لا يكاد يعرف من قواعد النحاة حرفا؛ ولكن مزاجه الفني أقبل به على ينابيع الأدب العربي فأقبل على الكتب الأدبية يقرؤها ويتذوقها ويملأ نفسه بما فيها من جمال ومتعة، فصفت بذلك سليقته، وصحت ملكته، حتى ليحس اللحنة في الكلام، كما يحس الموسيقي النشوز في الألحان. واستقام لسانه حتى لا يكاد يلحن أو يخطئ

وأما الفريق الآخر فطائفة من شيوخ الأزهر الذين أدركنا أعقابهم، قرءوا من كتب النحو الأجرومية والكافية وما بينهما، وأحاطوا بقواعد النحاة وما دار حولها من خلاف وجدل، وربما أدركوا سر الكثير منها، ثم كان الواحد منهم مع هذا لا يكاد يصيب فيما يقرأ أو يكتب إلاّ بعد تكلف شديد، فما أغنى عنه ما بذل من جهد جهيد وعمر مديد في قراءة النحو وتفهم مشكلاته واستيضاح غوامضه. فماتت سليقته اللغوية ولما تستروح الحياة، لأنه لم يمدها بالغذاء الطبيعي الحي الذي يمكن أن يتمثل فيها، ويبعث فيها الحياة ماضية قوية، ولكنه ألقمها أحجاراً جامدة إن لم تقضي عليها فلم تبعث فيها شيئا من معاني الحياة الصحيحة

ولقد بقي لنا من عصر الحملة الفرنسية وثيقة من الوثائق التي تؤيد هذا المعنى تأييداً تاماً، وهي رسالة كتبها بخطه شيخ الإسلام ورئيس الديوان، الشيخ عبد الله الشرقاوي وهي حجة قاطعة في قيمة التعاليم النحوية من ناحية أثرها في تقويم اللسان وإصلاح اللغة على الأسلوب العربي، فلن يشك أحد في أن الشيخ الشرقاوي قد تلقى من (النحو) أوفر ما كان يتلقى في ذلك العهد

وهذه ملاحظة ظاهرة جلية لا نكاد نحسب أحداً يجادلنا فيها أو يخالفنا عليها، وقد لاحظها من قبل العلامة الدقيق ابن خلدون، فقال في مقدمته، بعد أن قرر أن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل: (ولذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده أخطأ فيهما عن الصواب، وأكثر من اللحن، ولم يُجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة، ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية)

فليس عجيباً إذا ما يروي لنا من أن رجلاً جاء لابن خالويه - وهو من هو! - فقال له: أريد أن تعلمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني. فقال له أبن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو! ما تعلمت ما أقيم به لساني

فالأمر في اللغة هو أمر سليقة يجب أن تربى، وملكة يجب أن تكوَّن. ولن يكون ذلك بواسطة النحو، فانه قواعد ميتة، بل بواسطة البيان والأدب الذي هو مظهر اللغة ومجلى حيويتها. أما النحو الذي أبى على ابن خالويه أن يقوم لسانه، فلا مطمع لنا في أن يجدي علينا ما أباه على ذلكم الإمام

وكيف كانوا يقومون ألسنتهم عندما بدأت السلائق تضعف والألسنة تضطرب؟ كانوا - كما يعرف الناس جميعاً - يذهبون إلى البادية، ويندمجون في الحياة العربية، فيهيئون بذلك لسليقتهم سبيل القوة، فتصبح من بعد ذلك المتحكمة في منطقهم والمصرفة لألسنتهم، وليس لدينا مثل هذه الحياة العربية التي كانوا يلجئون إليها، ويندمجون فيها؛ ولكن إذا فاتنا ذلك فإنا نستطيع أن نعيش بقلوبنا وعقولنا في حياة عربية اللسان، فيكون لهذه ما لتلك من الأثر الطيب المبارك. أما هذا النحو فقد أعلن إفلاسه فيما نطلبه من أجله، وهو عصمة اللسان من الخطأ في الكلام، منذ عهد ابن خالويه إلى أيامنا هذه. ولن تجد امرأ صحيح اللسان قويم المنطق إلا وهو يرجع الفضل في هذا إلى ما أمد به سليقته من الآداب العربية

ويعلل ابن خلدون وجود الملكة العربية في بعض المهرة في صناعة الأعراب بدراستهم لكتاب سيبويه، وطول مخالطتهم له لا من ناحية ما تناوله من تقرير القواعد. بل من ناحيته الأدبية (فانه لم يقتصر على قوانين الأعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه، والمحصل له، قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج محفوظه في أماكنه، ومفاصل حاجاته، وتنتبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة

ولسنا نضع بهذا - معاذ الله - من قيمة النحو، وإنما نريد بهذا أن نضعه في مكانه الحقيقي، ونلتمس به غايته الطبيعية، وهو معرفة قوانين اللغة العربية، والنفوذ إلى أسرار التركيب فيها. وأكبر به من مكان، وأعظم بها من غاية!

ترى لو كان أمر اللغة كأمر العلوم الأخرى التي تتلقى قوانينها واحدة بعد الأخرى، ثم لا يشعر صاحبها إنها غيرت في كيانه الداخلي، لو كان الأمر كذلك في اللغة أكنا نشعر بهذا الاستهجان والمضض الشديد حين نسمع خطيباً يلحن أو يغير في الوضع العربي، ونحس بعباراته الملحونة كأنما أصابت موضع الكرامة أو العزة فنتململ ونتضجر كما نحس حين نسمع رجلاً يتناول ديننا أو وطننا أو قوميتنا بما نكره؟ وماذا لو أن رجلاً أخطأ في تقرير قاعدة أو تطبيق قانون علمي؟ فهذا الفرق القائم بين اللغة والعلوم الأخرى ينبغي أن يراعي في التربية والتثقيف. فكما لا يجدي تلقين القوانين الدينية والتعاليم الشرعية في تكوين الضمير وتربية العاطفة الدينية. وعصمة الرجل عن الزلل في الحياة، كذلك لا تغنى القواعد النحوية شيئاً في عصمة اللسان وتصحيح الكلام وبعد فلا بد أن نكرر القول بأنا لا نريد الغض من مكانة النحو وخطورة درسه في اللغة العربية، بل إنا لنراه - مستيقنين - في المكان الأول منها، باعتباره المبين لنظامها، والكاشف عن قوانين التركيب فيها، وقد خطا النحاة منذ أول العهد بالنحو؛ خطوات موفقة في هذه السبيل، رغم ما غلب عليها في العهود الأخيرة من الشطط والتكلف والبعد عن روح اللغة. وقد خطت الجامعة في العصر الحديث - في دراسة النحو - خطوة جديدة مسددة بعيدة، نرجو أن تكشف عنها الأيام القريبة المقبلة إن شاء الله تعالى.

محمد طه الحاجري
مجلة الرسالة - العدد 161
بتاريخ: 03 - 08 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى