أريج جمال - دخولاً وخروجاً في جسدي

أراكِ على مقعد الحمام، حين يكون الباب موارباً، والدائرة مُظلمة، تُشبهين صورة أُحبها لسيمون، لكن ليست هي بالضبط، ينتصب ظهركِ، وتُحدقين فيّ وأنا أمر، أعرفُ أنكِ سوف تكونين هُنا فقط وأنا رأسي بعيدة، لذلك أُبعدها قدر ما تُحبين، أكتب لأخبركِ عن حزني لأنكِ سوف تموتين يوماً ما، ولأنكِ ولا مرّة تكلمتِ حقيقة في دائرتي، هل تظنين أنني كنتُ سأُحبك أقل؟
أريد أن أُطمئنكِ، إن الجو حارّ جداً الآن وكُل ما أريده وقفة طويلة تحت الماء البارد.
2
هي مثل فراشة، مثل وردة، مثل الذي أعذب من الفراشة أو الوردة، إذا كان هناك ما هو أعذب ولا أعرفه. جميلة طبعاً، هذا الجمال الذي يغمر الروح بالحزن، يسير الأريج خلفها مثل حبيب، أو جيش يحمي سيدته التي لا حياة له بعدها، أو ما هو أقرب من حبيب وجيش، لا أدري. كُل مرة نلتقي تُعطرني بالحزن، يفيض حزني حين تقترب، وتبوسني. هذه البوسة قصيرة العُمر لن تعيش بقربي، كما أن إلهاً خلق هذا الجمال، قد اختار ألا يتجسد.
3
حين كانت البلكونة مفتوحة، التقينا، أنا في مكاني البعيد أربع خطوات عنها، إذا أحصينا المسافة التي يمكن سيرها في الهواء بين البلكونتين، وهي ترفعُ الهاتف إلى أذنها، تزم شفتيها، وتجذب بعنف ما بين حاجبيّها، كان وجهها مُتشنجاً، تنظرُ إلى جهتي دون أن تراني، تهمّ بالحديث إلى مُتصل قريب، لكنها لا تتكلم، ربما هو لا يظهر كي تتكلم، العصافير تلاحظها، تحاول لفت انتباهها تزقزق، ولا تأتي على حبالها، مرّ زمن وهي ساكتة، أنا أتفرجُ عليها، وأنتظر مع العصافير لحظة الانفجار، أشتهي الانفجار الذي سينسفُ الغلاف الخارجي، فتظهر المرأة، كما خلقها الله صافية، وكريمة لابد، مع ذلك أشفق عليها، المسافة بيننا قطعها ليس واقعياً، لا أعرف، على كتف مَنْ ستنتحب، حين يحلّ الهدوء؟
بعدها بدأت فيروز تُغني، وأنا أُسلي نفسي برواية ما حدث لأن البلكونة مُغلقة، كانت قد بدأت تضرب بأصابعها على الحبل، وتتكلم إلى شخص لا يراه سواها، شكت له، عاتبته، ثم أصغت إلى فقرات طويلة جداً، لوّنت بشرتها البيضاء باللون الوردي، وفتحت ابتسامتها للمرة الأولى منذ التقينا، كانت لا تراني أيضاً، لا ترى حتى العصافير التي أتت بالقرب، تقفُ على حبالها تزقزق، ووجهها في وجهها، اختفى الانقباض الذي خَرجَت به إلى العالم الأول، واستقامت الزاوية الحادّة التي كانت بين حاجبيّها.
كنتُ أعود إلى الداخل، حين تعرّفت على رنّة ضحكة صباحية لا تأبه لأحد، تهيأ لي أن بإمكاني روايتها للأصحاب، حين رجعتُ إلى البلكونة في اليوم التالي، كانت فيروز ما تزال تغني «بيت صغير بكندا»، أعادتها مرّات دون أن تُغيِّر، في البلكونة المُغلقة سرحتُ؛ كيف كان سيكون تاريخ فيروز، لو أنها لم تغن سوى أغنية واحدة، مرّات ومرّات، كنتُ أسمع النبرة نفسها، العزف الأول على الكمان؛ والسعادة الشاحبة التي أستخلصها، كلما وصلت الأغنية إلى نهايتها، حين يخفتُ كل شيء، أردتُ أيامها أن أنادي عليكِ لأخبركِ أن فيروز قد غنّت ألف أغنية، لكن أغنية واحدة تتكرر يمكنها أن تعيد صياغة العالم.
4
صدِّقيني لم يكن لي يد في إصابتي بالبرد، حاولتُ أن أوقف الأمر بالدواء، كي لا أُكدِّر أحداً، مضاد حيوي ومُسكِّنات ومُهدئات، كل هذا لم يُنقذ أذنكِ، يومها حين دخلتُ إلى الكافتريا، ورأيتُكِ، لم أتنبّه لبشاعة صوتي الأخنف، ولا قدرته المُستحدثة على تطيير العصافير. هل تُصدقينني؟ أنا فعلاً كنتُ آتي وأذهب، وأقول لكِ في أيام أخرى بونجور، وأبتسمُ، وتبتسمين، هل تتذكرينني؟ لم يكن صوتي أخنف أبداً. كنتُ أتحدث في التليفون، ولما كانت الكافتريا بلا ناس، فقد بدا لكِ صوتي عالياً، في الواقع هو لم يكن كذلك. وأنتِ حين رفعتِ رأسكِ عن الكتاب ونظرتِ لي، لم أفهم من النظرة في البداية أي غضب، عموماً كان هذا سيئاً جداً ومُحرجاً، لم أستطع تصحيحه أو الاعتذار عنه. ما حدث في المصعد أيضاً... قولي لي إذا لم يكن ذلك ممارسة للاضطهاد، فلماذا ظهرتِ مرتين في اليوم نفسه؟ منذ متى؟ مع شبكة المكالمات السيئة وأذني على التليفون أحاول أن أقول آلو لصديقتي، أردتُ أن أرمي الهاتف فوراً، لكن إلى أين؟ كان سيعود إليَّ رغماً عني، لأنه في المصعد كما تعرفين لا يوجد فراغ. هذا ما حدث، أنت خرجتِ حين فُتح الباب مثل طلقة، لقد جعلتكِ تطيرين منّي مجدداً، أنا آسفة.



أريج جمال

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى