محمد فهمي عبد اللطيف - دعابة الجاحظ -3-

ولكن ليس كل هذا ما فقدناه من أحاديث الجاحظ وآثاره في المرح والدعابة فأن له كثيراً من الطرائف والملح التي ضاعت بين سمع الأرض وبصرها، وطوتها الأحداث بين أجواء العصور الخالية، فلم يبق منها إلا معالم كأنها معالم الطود قد استبد به الزمن ومحقته العواصف القاسية. وهانحن أولاء نكتب عن دعابة الجاحظ وليس بين أيدينا من مصادر البحث إلا وشل من معين، فكل ما هنالك جملة من النوادر المبعثرة في بطون الكتب يتلمسها الباحث بشق النفس، مع أن الرجل قد جرد في ذلك كتبا ورسائل تدل أسماؤها على أنها قد ضمنت ألواناً من الدعابة والمزاح، وأترعت بفنون من النوادر والمضاحيك. وتلك الكتب على ما ذكر الجاحظ نفسه وعلى ما قال بعض الباحثين: هي كتاب الملح والطرف، وما حر من النوادر وبرد، وما عاد بارده حاراً لفرط برده حتى أمتع بأكثر من إمتاع الحار ثم كتاب المزاح والجد، وكتاب خصومة الحول والعور. وكتاب المضاحيك، ورسالة في فرط جهل الكندي يعقوب بن إسحاق أول من اشتهر في الإسلام بالعلوم الفلسفية وما إليها. والظاهر أن الجاحظ قد ساق هذه الرسالة في التندر على هذا الرجل والتهكم به كمثل صنيعه مع أحمد بن عبد الوهاب في التربيع والتدوير. . . ثم أين نحن بعد هذا كله مما كتبه الجاحظ إلى إخوانه وخلطائه (من مزح وجد، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافل وتوقيف، ومن ملح تضحك، ومواعظ تبكي. . .)، بل أين نحن مما أفرغه في جميع كتبه ومؤلفاته من النوادر والمعابث، وقد كانت تلك طريقته وذلك صنيعه، وهو الذي يقول في وصف الكتاب: (ومن لك بوعاء ملئ علماً، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحاً وجداً، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه. . .) فيا لها من ثروة كبيرة تلك التي وفرها الجاحظ في باب المزاح والدعابة. ولو أن الزمن قد أبقى لنا على كل هذه الثروة لفزنا بكثير، ولوقفنا باليقين على اتجاهات الرجل وما كان له من قدم في مسالك هذا الفن وضروبه؛ أما وقد خسرنا هذه الصفقة، فليس إلا أن نسير في البحث على قدر تلك الإثارة التي بقيت لنا من أماليح الجاحظ على الرغم من مغالبة المحن وقسوة الأحداث، وأن فيها ما قد يجدي في البحث، ويغني في الوقوف على مقاصد الرجل من دعاباته. ولعل أهم تلك المقاصد وأجلها إنما هو التهكم؛ ولعل الجاحظ لم يبرع في ناحية من مناحي الدعابة كما برع في تلك الناحية وتفنن، فهو عجيب في تهكمه؛ تنظر إلى إحدى غمائزه فلا تدري إلى أي جو قد نقلك الرجل، ولا ما ثم من أشتات المعاني التي قد أوردها على ذهنك وأثارها في نفسك، فهو يحاور ويداور. ويصطنع أسلوبا ملتوياً له ظهر وله بطن، وفيه لين وفيه قسوة، وبه طرافة وبه جفوة؛ وقد يقف من القارئ موقف المتسائل، ويسير معه سير المتجاهل، فكأنه يريد أن يتهكم أيضاً بالقارئ على غفلة. وليس هذا كله إلا علامة القدرة ودليل الطبع؛ وإنما كان الجاحظ موهوباً في تهكمه، ساخراً بطبعه؛ ومن ثم لم يقف في تهكمه عند حد الدعابة والعبث، بل لقد كان يتناول ذلك في كثير من نواحي فنه، فهو أداته في الهجاء والتقريع، والنقد والتعريض، والجدل والمناظرة، وما إلى ذلك من مواضع الأخذ والرد والنظر والبحث. ألا تراه وهو ينتقد الخليل بن أحمد إذ صنف في علم لم تجتمع له أداته، ولم يتوفر له شرطه فيقول: (والخليل بن أحمد من أجل إحسانه في النحو والعروض وضع كتابا في الإيقاع وتراكيب الأصوات وهو لم يعالج وتراً قط، ولا مس بيده قضيباً، ولا كثرت مشاهدته للمغنين. وكتب كتاباً في الكلام ولو جهد كل بليغ في الأرض أن يتعمد ذلك الخطأ والتعقيد لما وقع له ذلك. ولو أن ممروراً استفرغ قوى مرته في الهذيان لم يتهيأ له مثل ذلك، وما يتأتى مثل ذلك إلا بخذلان من الله الذي لا يقي منه شيء. ولولا أن أسخف الكتاب، وأهجن الرسالة، وأخرجها من حد الجد إلى حد الهزل، لحكيت صدر كتابه في التوحيد، وبعض ما وضعه في العدل!) فهذا أسلوب من النقد الساخر الذي كان يصطنعه الجاحظ وإنه لأسلوب شديد الوطأة، وإنه بالهجاء لأشبه. فهو كما ترى يطلب (أولا) مرتبة لتصنيف الخليل هي أحط مراتب الضعف والتهافت، فيضعه دون الخطأ (يتعمده) كل (بليغ) في الأرض (جهده) ولكن هذه المرتبة الدون لا تقنع الجاحظ، فيعود (ثانيا) فيجعله عدلا (لهذيان) الممرور قد (استفرغ) كل مرته في الهذيان؛ وهذه أيضاً لا تقنع الجاحظ ولا تشبع نفسه، فنجده (أخيراً) يحكم على صنيع الرجل بأنه ضرب من الضعف لا يتأتى لطبيعة بشرية إلا (بخذلان) من الله، ثم زاد فجعله سخفاً وهجانة لو حكاه لخرج بالقارئ من حد الجد إلى باب الهزل. وهذه مداورة من الجاحظ فيها ما فيها من التهكم المر، والتقريع اللاذع، والتعريض الذي لا يطاق استهزاء وسخرية!! ولقد كان هذا التهكم هو سلاح الجاحظ أيضاً وعدته في التقريع الحشويين وأهل التزيد، والذين يفترون الأخبار الغثة، ويلفقون الأحاديث الكاذبة، ويروجون القصص التافهة، ثم هم يحشرون ذلك في الدين، ويلصقونه بالأخبار النبوية الشريفة، ويسندونه في الرواية إلى الأصحاب الأخيار، والرواة الثقاة، كمثل ما زعموه عن كبد الحوت، وقرن الشيطان، وتنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه في رأسه فأنتنت ريحه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة، ودخول إبليس إلى سفينة نوح في جوف الحمار، وما أسندوه إلى ابن عباس من أن الحجر الأسود قد نزل من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك، ثم ما تحدثوا به عن السيدة عائشة بشأن الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع فأكلتها داجن للحي حين شغلوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان الجاحظ يستنكر هذه الأخبار وأشباهها، ويحكيها في سخر بالغ، وتهكم قارص. وتستطيع أن تقف على ذلك وأمثاله في كتابه (الحيوان) في كل موضع يفرغ فيه الرجل لبعض خرافات القوم ومزاعمهم. وقد تجده لا يعنى بتفنيد هذه المزاعم ولا يهتم بأدحاضها لأنها ظاهرة السخافة والبطلان، ثم هو يعقب عليها بكل تهكم واستهزاء، ويختمها بالعبارة القصيرة الموجزة تأتي عليها من القواعد. فمثلا تجده يحكي أقوال (صاحب المنطق) عن التزاوج والتلاقح بين بعض الحيوانات وبعضها، فيسترسل الجاحظ في الحكاية، ثم ينتهي إلى التعليق عليها فيقول: (وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الإمتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء، وما عندنا في معرفة ما ادعى إلا هذا القول!) ثم يخرج بعد ذلك إلى بعض خرافات القوم التي تتعلق بالحيوانات، ثم يتهكم بها فيقول: (ولولا أني أحببت أن تسمع نوعاً من الكلام! ومبلغ الرأي، لتحدث لله تعالى شكراً على السلامة، لما ذكرت لك شيئاً من هذا الجنس.) فبهذا الأسلوب التهكمي اللاذع كان يتذرع الجاحظ في كثير من نواحي فنه؛ وبهذا الأسلوب التهكمي اللاذع كان يأخذ في دعابته ومزحه فيبلغ الغاية من إرضاء الفن، ويسمو إلى الذروة في إمتاع القارئ. وعجيب أمر بعض أبناء العربية الذين يشدون من الأدب إذ تراهم يطيرون بفن الكاتب الفرنسي (فولتير) فيبالغون في سخريته، ويمتدحونه بلذاعته، ويثنون على عبقريته في التهكم، وما أحسبهم يعرفون ذلك للجاحظ أو يعترفون به، وأنهم لو علموا لتعجبوا من جهد كاتب العربية واقتداره، ولراحوا يتلمسون تلك الناحية من فنه فيما له من كتب وآثار، وهم لاشك واجدون متاعهم ولذتهم، واقعون على أربهم ومبتغاهم، ثم هم لا جرم سيعترفون له بما يعرفون (لفولتير) وأضرابه. وسنرى الجاحظ في أحاديثهم وكتاباتهم منعوتا بالكاتب الساخر، وما يجري مجرى هذا النعت وتعال إلى الرجل في شيء من دعاباته الساخرة. فإنك واجده على ما ذكرنا - حلوا مستساغا، قويا قادراً قد تمكنت في طبعه ملكة السخر، وتمت له موهبة التهكم، فإذا أخذ بعض الأشخاص بالتصوير (التهكمي) فهو يقدم لك صورة الدقيقة الرائعة التي تثير في نفسك كل ما يمكن من معاني الضحك والفكاهة، والسخر والتهكم، والعطف والإشفاق، والنفور والبغض. ألا تراه وهو يتندر على سهل بن هرون في بخله وشحه فيقول: (قال دعبل الشاعر: أقمنا عند سهل فلم نبرح حتى كدنا نموت جوعا. فلما اضطررناه قال: يا غلام ويلك غدنا! قال فأتانا بقصعة بها مرق فيه لحم ديك، وليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحز فيه سكين ولا تؤثر فيه الأضراس، فاطلع في القصعة وقلب بصره فيها، ثم أخذ قطعة خبز يابس، فقلب جميع ما في القصعة حتى فقد الرأس من الديك، ثم رفع رأسه إلى الغلام فقال: أين الرأس؟ قال لم أضنك تأكله. قال: ولأي شيء ظننت أني لا آكله؟ فوالله إني لأمقت من يرمي برجليه، ولو لم أكره ما صنعت للطيرة والفأل لكرهته! فإن الرأس رئيس، وفيه الحواس، ومنه يصدح الديك؛ ولولا صوته ما أريد؛ وفيه قرنه الذي ينبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء فيقال. شراب كعين الديك؛ ودماغه عجيب لوجع الكلية. ولم أر عظما أهش تحت الأسنان من عظم رأسه. فهلا إذ ظننت أني لا آكله ظننت أن العيال يأكلونه؟ وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله فإن عندنا من يأكله. أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق ومن العنق، فانظر أين هو؟ قال والله ما أدري أين رميت به. قال: لكني أدري: إنك رميت به في بطنك والله حسيبك) وقد تكون هذه النادرة من مرويات دعبل حقاً، وقد تكون من اختراع الجاحظ وابتداعه، وإنما حمله على تلفيقها ما كان بينه وبين سهل من الشنآن، ثم عزاها لدعبل ليخلص من تبعتها ولتكون أبلغ في المؤاخذة. ومهما يكن من شيء فإن الرجل هو الذي عرضها هذا العرض وجلاها في هذا الثوب، فجاءت على ما ترى من السخر والتهكم والضحك والمرح، والغمز واللمز. وأنها لصورة دقيقة رائعة مهما بلغ كاتب من القدرة في التصوير فما أحسبه سيبلغ في وصف بخل سهل وتصوير شحه وإقتاره ما بلغ الجاحظ في هذه النادرة وهيهات! (للبحث صلة)


محمد فهمي عبد اللطيف

مجلة الرسالة/العدد 190

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى