قصة ايروتيكة عبد الهادي شعلان...هُشْ شْ شْ

للصَّوت صوت آخر في أذني لا يفارقني. أسمعه آتياً من كل ركن في الشَّقة، منبعثاً من مرتبة السَّرير، معششاً تحت طلاء الجدران، متسرباً داخل مصباح النَّجفة، نائماً في أواني الطَّعام، محبوساً بين شحم أذني – الذي تراكم بسبب عدم الغسيل من مدَّة طويلة – والطَّبلة. رُبَّما تكون حبسة الصَّوت بين الشَّحم والطَّبلة هي التي جعلتْ أذني تظن- في عُمْق الليل – أنَّ الصَّوت يتجول في المنزل بعد أنْ ينام الجميع. ولكنِّي اكتشفتُ أنَّ الهَمْهَمة لورقة يلْطُمها الهواء. والخرابيش لفأر أو صرصور لعين. كلهم (الورقة والفأر والصرصور) مارسوا خديعتي في تجسيد الصَّوت كائناً حياً يتحرك. مع أنَّها - هي بالذات- نائمة بجانبي وشخيرها المرتفع يسرق رائحة الصَّوت.

سنوات خطبتي الشَّاحبة ضاع من ذاكرتي حسابها. ما أعرفه بالتحديد أنَّه من 2000دقيقة تكرم أبواي- رضي الله عنهما- بتزويجي في إحدى الغرف، فشقتنا: غرفتان يفصل بينهما جدار، وصالة تطِل على الشَّارع. وزيادة في الكرم والرِّضا تركا لي الشَّقة لأسبوع ناقص لم أخرج خلاله من البيت، فأنا عريس.. العالم أمامي بلا حدود. أعيش في الصَّوت وبالصَّوت وللصَّوت. يبثُ تأثيره في جسدي كله. تردُّداته تخترق مسام جلدي وتستقر تحته متمشِّية في العروق، غارقة في الدَّم. الضّحكة الملعلعة والآهة والصَّرخة حفرتْ بصماتها في أعماقي. أحتضنُ جسدها. فتلمسني شفتاها غارسة داخلي نصف اسمي (مد) وبل (أح) الرَّاقصة خارج جلدي يكتمل(أحمد). أصبح لاسمي طعم هارب من أُذُن أوديسيوس في جزيرة السِّيريِّنات عندما تكرِّره - سماح- مرات عديدة: ممطوطاً ملحوماً عند الفجر. طلبتُ منها أصواتاً معينة. أعطني كل التَّردُّدات. حفرتْ داخلي كتالوجاً مخصوصاً.

عندما جاء أبواي والزوار، بدأ تشويش يغزوني محاولاً فرض وجوده على خلاياي، مصارعاً الصَّوت تحت مسامي. ولكن "سلامات.. مبروك" كانت أكبر من مسامي، فلم تستطع الولوج "مع السلامة".

لم أنفرد بسماح طوال اليوم، كنت أتابعها وهي تقدم الشاي وقطع الحلوى، صوتها "شكراً.. شكراً" كصوتهم تماماً. ليس له نفس بصمة الكتالوج. سرق الزُّوار جهاز الإرسال وحاولوا اغتصاب جهاز الاستقبال.

في الليل: خرج صوتنا من نخاع الرُّكبة خائفاً. فإحساسنا: عميق بعدم الانفراد، والخوف من إصدار الصَّوت الملعلع بالضَّحكة والآهة. فللغرفة الملاصقة أربعة أذان تتسمع، رغماً عنها، ولحكمة ما جعل الله الآذان بلا غطاء.. أربعة آذان كَلْبَشت أصواتنا وغطتْ أجسادنا بعرق بارد، ربطتنا فوق السَّرير. لمستُها بيدي متصنعاً العفويَّة. برودتها واجفة. كِدتُ أدور بأذني على الحائط: متوهماً في الجهة الأخرى أذنين ملتصقتين بالجدار، تخترقانه وتدوران حول سريرنا. صوت كحكحة أبي المخلوط بمعسل سلوم حبس أنفاسنا. بدأتْ حركات التمويه: سكتنا تماما كأننا نمنا وانتظرنا نهاية الكحكحة..

عند الفجر: استيقظنا سوياً. ساعدنا الموت الحادث في الغرفة المجاورة رغم صدور الحشرجات المشروخة على الاطمئنان الزَّائد بالانفراد. في البداية كانت عمليات فك الشَّفرة صعبة، فجاء صوتنا خليطاً بين البحَّة والعُمق. شيئاً فشيئاً جاءت الموجات البدائية الأولى داخل جسدي المفتوح مُدَاعِبة ومُعاكسة ومستثيرة. أعادتني لحالة افتقدتها ليوم كقرن. ارتفعتُ بشوق مع الصَّوت لمسافات عالية بعيدة. أمسكت سحابة. قبل أنْ أشبك اسمي فيها انسحبتْ الموجات من تحتي واختفتْ فجأة. تركتني فوق، في البعيد وحدي. ظللتُ أهوي، أهوي. سقط ُعلي كحكحة أبي المخلوط بمعسل سلوم ورفسَّة قدم عفيَّة من أمي في قائم السَّرير الملاصق لجدارنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى