عمار علي حسن ـ وابور الجاز

مع ضحي كل جمعة يجلس شعبان صامتا بين بوابير الجاز. ينفخ في هذا لتسليك الفونية المسدودة حتي يندفع الكيروسين إلي أعلي فيشتعل. ويلحم هذا بالقصدير ليسد ثقبا صغيرا يجعل الوابور يفرغ الهواء فلا يزهر باللهب. ويقيم أرجل هذا بعد أن تآكلت أو كسرت رأسه فيجبرها أو يغيرها مما يوجد معه من قطع غيار مستعملة أو جديدة, نائمة في قلب الصندوق الذي يحمله علي ظهره كل أسبوع قادما من مدينة المنيا إلي قرية الإسماعيلية.
يجلس والعيال يتحلقون حوله وعيونهم معلقة بيديه اللتين تعملان في دأب, والدهشة تكسو وجوههم وكأن شعبان يخترع ما لم يصل إليه أحد من العالمين.
طالما رأوا الفلاحين يضربون بالفؤوس والمناجل, ويلفون الطنبور فتتدفق المياه إلي زروعهم العطشي, ويرون النجار وهو يشق جذوع الشجر بمنشاره ويقطع بقادومه ويدق بشاكوشه, ويعرفون المذارة التي تفصل القمح عن التبن. كل هذا أصبح عاديا لهم, أما ما يفعله شعبان فهو جديد وغريب عليهم. علي المصاطب في المساءات الرائقة يأتي الناس علي ذكر شعبان كثيرا, يقولون إنه طالب في المدرسة الفنية الصناعية, مات أبوه وترك له أخت تكبره وتدرس بمدرسة التجارة, ويعول نفسه وإياها, ستة أيام في المدرسة, ويوم واحد للعمل يلملم فيه بعض قروش الفلاحين الكادحين ويعود الي البندر.
والله بطل شاب محترم يأكل لقمته بالحلال
كان يمكن أن ينحرف فيصبح نشالا, لكنه سيكمل تعليمه ويجد وظيفة.
هكذا كان يقال عن شعبان في ليالي السمر أو خلال فترة الراحة القصيرة التي تتوسط ساعات الكدح في الحقول تحت الشمس الحارقة.
ظهور شعبان في قريتنا جعل الكانون في خبر كان. كل امرأة ضغطت علي زوجها ليشتري لها وابورا بدلا من نار الخشب التي تزجي دخانا يكتم الصدور, ويلهب العيون. ومع الأيام صارت بعض الفلاحات تحملن البوابير إلي الحقول فنجت الأشجار من التقليم الجائر.
تقدمت الإختراعات فصنع الصناع وابور الشرئط وكذلك أعطاله أقل فتضاءل رزق شعبان, لكنه كان يأتي كل جمعة, ويجلس في مكانه المعتاد صامتا ويداه الملطختان بالهباب لا تكفان عن العمل وفي يوم تزوجت ابنة شيخ البلد, فأحضر لها أبوها موقدا اسمه البوتاجاز له أربعة عيون تشتعل في وقت واحد, ومعه أنبوبة كبيرة, كان خادمهم يذهب كل شهر ليملأها بغاز البوتجاز من البندر. بعدها اشترطت الأمهات علي خطاب بناتهن أن يكون البوتجاز أول قطة في جهاز العروس.
وهكذا راحت البوابير تتناقص فتناقصت زيارات شعبان لبلدنا, لتصبح مرة واحدة كل شهر. يأتي فيجلس في مكانه من الضحي حتي قدوم الليل ثم يذهب.
وقيل إنه حصل علي الدبلوم وعمل في وظيفة بمصلحة الكهرباء, وأخته توظفت بمجلس المدين, لكنه يواصل إصلاح البوابير ليحسن دخله. لكن أين هي البوابير ؟
جاء يوم وجلس مكانه لكن أحدا لم يأت له بشيء حتي حل المساء. وراقبته العجوز التي يسند ظهره إلي حائط بيتها المتداعي, وحزنت لحاله. وقبل أن ينهض من قعدته الطويلة جاءت وفي يدها كيس بلاستيكي به كيزان ذرة خضراء, وقالت له:
بدلا من أن تعود ويدك خالية.
اعتذر لها, لكنها أصرت فأخذ الكيس ومضي صامتا. بعدها لم يظهر أبدا. ومع انتشار البوتجاز في كل البيوت غارت سيرته, ولم يعد أحد يتحدث عن كفاحه في ليالي السمر, ولا أوقات الراحة بين ساعات الكدح في الحقول.
ذهبت ذكراه مع وابور الجاز إلي الأبد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى