إبراهيم عطية - التكعيبة

قلت لجدى فى دهشة بعد أن قطع فروع العنباية الفيومى الكبيرة، وجلس يقلم العُقَل، يبريها مثل سيدنا عندما يقوم ببرى أقلام البوص، ويتمتم بتعاويذ وأدعية منبها على أبى ألا يدهس فى قاع الخط

_ هل من الممكن أن تنبت يا جد..؟!

تفرس وجهى بتكشيرة بدت واضحة على سمرته التى خلفتها الشمس منشغلاً فى استكمال ما بدأه على نغمات مواله..

(يا زارعين العنب وارموا كنا بيشى

زرعت لك العنب رى الطرابيشى

يا ساقية دورى يمين وشمال

واسقى العنب والخوخ والرمان..)

وقفت مترقبا أبى المنكفئ كما لو كان راكعاً فى الصلاة، يعمل فى صمت، وعرفت بخبرة المشاهد أن الشتلات لا تزرع إلا مع بداية شهر أمشير استعداداً لفصل الربيع، تكتسى أشجار التوت والمشمش بالأوراق، وجدى قد اهتم ببناء هذه التكعيبة ليرتاح فى ظلالها ويأكل من ثمارها، كما يقوم بتطعيم أشجار اللوز بالخوخ فيزيد الإنتاج.

لكن هل من المعقول أن تُنبِت هذه العصي،.؟!، سبحانه فى ملكه، يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحي.

***

بمرور الأيام، وتحت الملاحظة المستمرة ونصائح جدى المتكررة بالرى المنتظم وعدم التغريق، والحفاظ على درجة الرطوبة، ظهرت على العُقل المغروسة فى الأرض «بذوذ» مائلة للخضرة، كبرت بسرعة إلى براعم امتدت فروعًا تكسوها أوراق كبيرة متسلقة التكعيبة الخشب، وأطلت عناقيد بين الأوراق تشبه حبات مسبحة نور الصباح التى جاءت لجدى من الحجاز فى ضوء الشمس، غردت البلابل، وزقزقت العصافير فوق ذكر النخيل الواقف فى كبرياء يطاول عنان السماء تطل من قلبه اكواز اللقاح بلونها البنى الداكن..

بموت جدى أُهملت التكعيبة, وتصارع أعمامى على قسمة الميراث, وجفت فروع العنب حتى ماتت العنباية الفيومى الأم، وسكنتها الفئران والوطاويط والبوم، وكلما مررت عليها انقبض قلبى خوفاً. فى الليل دبرتُ مكيدة لعمى عوض الذى أصبحت من نصيبه وتركها خاوية على عروشها، عقدت العزم مع أخى محمود على حرقها وجئنا بأكوام قش الأرز متسللين إليها وأشعلنا فيها النار وسمعنا صرخات تشق سواد الليل.

***

فى الصباح سمعت عمى عوض يحمد الله أنه استراح منها. لكننا قد عزمنا أنا ومحمود على بناء التكعيبة أمام الدار، جئنا بالشتلات وزرعناها، وبعد أيام انشرح صدرى لرؤية الأوراق الصغيرة، وترحمت على جدي، وقرأت على روحه الفاتحة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى