رءوف جنيدي - عائد من الآخرة!.. قصة قصيرة

فى واحدٍ من أيامه المتكررة تكرارًا ينبئ عن رتابة الحياة، وتشابه أيامها، عاد الرجل من عمله ذات يوم .. دخل بيته .. ألقى السلام على زوجته وأولاده .. استبدل ملابسه .. توضأ، وصلى ما فاته من فروض الله على عباده .. جلس بين أفراد أسرته لتناول الغداء، وكالعادة تبادل أفراد الأسرة أطراف حديث ودى أسرى، دارت موضوعاته فوق المائدة، وعلى سفوح أوانيها، وعلى نقر الملاعق فى أطباقها .. كان من بين فقرات الحديث أن أخبرته زوجته أن شابًا فى مقتبل عمره هو يعرفه جيدًا .. اختطفه الموت فجأة، تحت عجلات عربة مسرعة، يقودها مخمور، وفقًا لرواية الشهود، أثناء عبوره الطريق .

استاء الرجل، وحزن حزنًا شديدًا، وبالكاد أكمل طعامه، ثم نهضوا جميعا جانبًا، ليكملوا بعضًا من حديث المائدة .. استأذن بعده الرجل كعادته ليقضى قيلولته، التى تعوّد عليها فى فراشه .. دخل الرجل غرفته، وأغلق بابها، وارتمى فوق فراشه مستلقيًا على ظهره، وقد عقد كفيه فوق جبينه، وراح يدقق النظر شارد الذهن فى سقف غرفته .. تتلاعب أمام عينيه بعض من رسومات عشوائية لظلال أحدثها الضوء النافذ عبر شباكها إلى سقف الغرفة .. تحاكى له مصرع الشاب تحت عجلات العربة، وكأن الحادث قد وقع على سقف غرفته .. راح الرجل يتأمل حال الدنيا .. داعيًا الله فى سريرته أن يجنبه موت الفجأة .

رويدًا رويدًا ينسحب الوجود من حول الرجل، وتنسحب الحياة من أوصاله .. أسدلت العيون ستائرها لتظلم الدنيا .. راح الرجل يصارع سكرات، كأنها سكرات الموت .. سكنت تحت جفنيه مشاهد يوم عظيم، وكأن غطاءه قد انكشف عنه، فبصره اليوم حديد .. خيم الحزن على أرجاء المنزل .. راحت الزوجة تصرخ، وتلطم خديها .. الأبناء ينتحبون .. امتلأ البيت بالأهل، والجيران .. ما توقف رنين التليفون للتأكد من الخبر المشؤوم .. اتشحت النساء بالسواد، واعتلت وجوه الرجال علامات الحزن .. تطوع أحدهم ليسحب الغطاء عن وجهه، بعد أن عقد ذراعيه فوق صدره .. هذا يبكى منهارًا، وهذه تقرأ القرآن متماسكة .. بدأت مراسم الغسل .. جئ بالمختص، ومعه أدواته .. جلبة وضجيج .. أوان يقرع بعضها بعضًا .. تُملأ وتفرغ فوق جسده .. هذا ممسك بيده رافضًا لفراقه، وهذا يقبل جبينه قبلة الوداع الأخير .

صندوق خشبى طويل يهتز فوق أكتاف المشيعيين .. نداء لا ينقطع كل حين ( وحدوووه ) .. ورد جماعى موحد ( لا إله الا الله ) .. توقف المشهد .. أنزلوا الرجل من فوق الأعناق .. أرقدوه رقدته الأخيرة .. يسمع الرجل حفيف فؤوس فى الأرض تسحب التراب .. يسمع ارتطام كوماته فوق جسده .. يتلاشى صوتها شيئًا فشيئًا .. دبيب أقدام تتباعد .. تتلاشى إلى أن اختفت تمامًا .. خيمت على الرجل وحشة رهيبة .. لا يدرى كم لبث .. يومًا أو بعض يوم ؟!

نفخة فى الصور .. زلزلت الأرض زلزالها .. وأخرجت الأرض أثقالها .. بعثر ما فى القبور .. ينبت الرجل من جديد .. تنشق عنه الأرض كفسيل انشقت عنه حبته .. يعلو جزعه فوق التراب .. ينظر من طرف خفى .. ياإلهى : أرض أنبتت رؤوسًا آدمية .. يتساقط من فوقها التراب .. الوجوه ترهقها زلة .. الأبصار شاخصة .. القلوب بلغت الحناجر .. الشمس تدنو من رؤوس العباد .. نهض مع من نهضوا .. سار مع من ساروا، لا يدرى الى أين ؟! وأين المفر ؟! إلى ربك يومئذ المستقر .. تبدلت الأرض غير الأرض والسموات .. وبرزوا للواحد القهار .. الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة .. السموات مطويات بيمينه .. الناس من كل حدب ينسلون.. يا إلهى : الشمس كورت .. النجوم انكدرت .. الجبال سيرت .. العشار عطلت .. الوحوش حشرت .. البحار سجرت .. الصحف نشرت .. السماء كشطت .. الجحيم سعرت .. الجنة أزلفت .

انتصب الميزان .. جاء ربك والملك صفًا صفًا .. جئ بجهنم .. جاء الناس فرادى، كما خلقهم الله أول مرة .. أوتى الرجل كتابه .. قرأه، فما وجده يغادر صغيرة، ولا كبيرة إلا أحصاها .. ووجد ما عمل حاضرًا .. ولا يظلم ربك أحدًا .. الجوارح تنطق .. تشهد على الناس ألسنتهم، وأيديهم، و أرجلهم، بما كانوا يعملون .. هؤلاء يساقون الى الجنة زمرًا .. وهؤلاء يساقون إلى جهنم زمرًا .. هؤلاء يأكلون لحم طير مما يشتهون .. وهؤلاء ليس لهم طعام إلا من غسلين .. هؤلاء يسقون كأسًا كان مزاجها زنجبيلا .. وهؤلاء سقوا ماءً حميمًا فقطع أمعاءهم .. هؤلاء حشروا، ونورهم يسعى بين أيديهم، وبأيمانهم، وهؤلاء حشروا عميًا وزرقًا .. هؤلاء يدخل عليهم الملائكة من كل باب، وهؤلاء تضرب الملائكة وجوههم، وأدبارهم .. هؤلاء سيماهم فى وجوههم من أثر السجود، وهؤلاء وجوههم عليها غبرة .. ترهقها قترة .

نودى على الرجل .. جاء، ومعه سائق، وشهيد .. قيل له : "لقد كنت فى غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد" .. قال : "نعم كنت فى غفلة من هذا" .. عض الرجل على يديه، وقال : "ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلًا .. يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلانًا خليلًا .. لقد أضلنى عن الذكر، بعد إذ جاءنى" .. قال قرينه : "ربنا ما أطغيته، ولكن كان فى ضلال بعيد" .. قيل : "لا تختصموا لدي، وقد قدمت إليكم بالوعيد .. ألقيا فى جهنم كل ............." .. وقبل أن يكمل الرجل سماع صوت الحق، صاح بأعلى صوته : "رب أرجعون، لعلى أعمل صالحًا فيما تركت" .. قيل : "كلا إنها كلمة هو قائلها ..".

هنا صرخ الرجل صرخة مدوية .. هزت كل أركان بيته .. هرعت زوجته وأولاده إلى غرفته .. فإذا به جالس فى فراشه .. ينظر حوله فى ذهول .. ينفض، بلا وعى، من فوق كتفيه ترابًا يظنه عالقًا .. شاحب اللون .. زائغ البصر .. بارد جسده برودة أجساد الموتى، وكأنه هارب لتوه من أرض المحشر .. احتضنته زوجته .. ضمت رأسه إلى صدرها .. ربتت على كتفيه .. سارعت إحدى بناته تفتح على إذاعة القرآن الكريم، ليدوى صوت القارئ معلنًا بشرى العفو الإلهى للعباد : ( قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) .. صدق الله العظيم .



* منقول عن الاهرام اليومي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى