شهادات خاصة حسن بيريش - محمد شـكــري كما عرفته -17- ليذهب الفاعل والمفعول الى الجحيم

ــ مساء 2003/8/5 :
تراكمت فوق مكتبتي الصحف والمجلات· قرأت معظم ما كُتبَ عن محنة شكري·
ثمَّة نبرة أسى توارى خلف الكلمات·
ثمة إجماع على وضعيته الصحية الصعبة·
المرض يسير بشكري إلى···
شيخنا المتنبي، في لحظة من لحظات تجليه، قال: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا·

ــ مقارنة :

تخلى شكري، في مرضه، عن كثير من طقوسه اليومية· لم يعد يطيل الجلوس في (الريتز)· ساعتان في الصباح· وضعفهما في المساء· توقف عن التدخين· اكتفى بكأس أو كأسين من النبيذ الإسباني في اليوم· بالنسبة للتسوق تكفلت فتحية بشراء كل لوازم البيت حتى تلك التي كان يحرص شكري على شرائها بنفسه (السمك، الفواكه، المعلبات )·
عندما يبذل شكري أقل مجهود بدني أو ذهني، يصاب بالدوار والغثيان· خطواته قصيرة، جد متثاقلة· يمشي خطوات قليلة، ثم يتوقف ليلتقط أنفاسه بمشقة·
حين ألتقيه، غالبا أرافقه حتى شقته· يستند عليَّ ليستطيع صعود الطوابق الخمس· بين حين قصير وآخر، يتوقف· يمسك بيدي· جبينه يتفصد عرقا· يداه باردتان:
ـ لنرتاح قليلا· إنني أشعر بإرهاق شديد·
نواصل ارتقاء الأدراج· ويواصل الإرهاق سيطرته على الجسد الشكري الذي لم يعد نحيلا·
لا أنفك من المقارنة بين شكري الأمس وشكري اليوم·
سعيد متشائل إميل حبيبي، وضع يده على الجرح، حين قال: وضعت يدي فوق عيني فأغمضتها حتى لا أرى النهاية كما رأيت البداية·

ــ مجاملتك مكشوفة :

في أوج محنته القاسية، لم يتخل شكري عن مرحه وسخريته من نفسه ومن الآخرين·
أقول له، ذات طريق:
ــ تبدو في صحة جيدة اليوم·
يعلق ضاحكا:
ـــ مجاملتك جد مكشوفة· ليس بيني وبين القبر أية مسافة!
ــــ أنت تمارس طقوسك اليومية· هذا يعني أن صحتك في تحسن مستمر·
وهل تريدني أن ألازم سريري وأنتظر الموت ؟!
ـــــ بالتأكيد لا أريد ذلك·
ــ إبلع لسانك إذن!
نواصل سيرنا· فجأة يقول شكري ضاحكا:
ــ تساقط شعر رأسي· انتفخ بطني· إنني أبدو مثل رسم كاريكاتوري مثير للضحك!
ــ أتسخر من نفسك، السي محمد؟!
ــ ولم لا؟ أسخر من نفسي· أو من الآخرين· المهم هو أن نسخر لنقهر الكآبة، ونتغلب على ما هو هش فينا··

ــ تخلصت من الدوار :

ظهر يوم ثلاثائي، ذهبت عنده إلى (الريتز)· يبدو منشرحا· سألته عن أحواله الصحية·
ــــ لست في حالة جيدة، لكني تخلصت من الدوار· ولم يعد المشي يرهقني· هذا جيد على كل حال·
تحدثنا عن قواعد النحو· قال:
ـــ لا أعبأ أنا بعلة المنصوب أو المرفوع· ليذهب الفاعل والمفعول به إلى الجحيم! لا أعرف كيف أعرب جملة واحدة· ومع ذلك أنا كاتب جيد· ولغتي جد سليمة·
ــ لكن معرفة قواعد النحو ضرورية بالنسبة للكاتب·
ـــ هذا صحيح· لكن إتقان اللغة لا ينجب مبدعا· لقد أمليت نصا صعبا على شخص متعمق في اللغة، فارتكب عدة أخطاء إملائية وتركيبية··
رن هاتفه النقال· تلقى المكالمة:
ــ ألو· شكون معايا؟
ــ ·······
ــ أهلا، أهلا، كيف أنت ؟ لم أرك منذ مدة طويلة·
ــ ·······
ــ أشعر ببعض التحسن·
ــ ·······
ـــ قرأها كاتب مغربي متعمق في اللغة الإسبانية· قال إن الترجمة جيدة· باستثناء بعض الهنات· وهي نتيجة الاستعجال في الصدور، سواء بالنسبة لدار النشر (ديباتي)· أو بالنسبة للمترجمين حسن بوزلماط ومليكة امبارك·
ــ ·······
ــ أتفق معك· أثمنة الكتب المغربية ليست في متناول الجميع·
ــ ·······
ــ نعم، نعم، أنا أتعمد أن تكون أثمنة كتبي في متناول القراء الذين أغلبهم فقراء· الأغنياء تافهون· لا يقرأون· يقتنون الكتب ليزينوا بها دورهم· هذا كل شيء· القراء الحقيقيون يوجدون في بني مكادة، كاسا براطا، وعين السبع·
ــ ·······
ــ (ألقى نظرة سريعة على ساعة معصمه) بعد عشر دقائق سأكون في البيت · إلى اللقاء·
أعاد الهاتف إلى جيب سترته· نهض واقفا:
ــ ينبغي أن أذهب· سيأتي عندي ضيوف بعد قليل·

ــ التفاتة الوداع الأخيرة:

الساعة حوالي الثانية عشرة ظهرا· مطعم (الريتز) خال إلا من محمد شكري ومصطفى العمراني، صديقه القديم· متاعب شكري الصحية تتعاظم باستمرار· انطفأت جاذبيته· بدا وكأنه كبر عشرات السنين·
وضع النادل كأسا أمام مصطفى العمراني· قال شكري باسما:
ــ ما أجمل أن يخدم نادل نادلا آخر·
ضحك مصطفى· قال:
ـــ نعم، هذا جميل·
دخل الشاعر المهدي أخريف حاملا كيسا بلاستيكيا· تبادل مع شكري حديثا ضاحكا· ناوله الكيس:
ــ هذه هديتي لك من رحلتي السورية· علبة حلويات شامية لذيذة· وشرائط موسيقية من النوع الذي تحبه·
أخذ شكري الهدية· وضعها على كرسي بجانبه· قال فرحا:
ــ أوه· هذا رائع· هذا جميل· أشكرك لأنك تذكرتني· أنا جد راض عنك·
طلب من المهدي أن يتناول مشروبا· سأله:
ــ كيف كان رحلتك، آلسي مهدي؟
ــ رائعة جدا· استمتعت كثيرا· التقيت الكثير من الشعراء والروائيين السوريين· الحركة الثقافية هناك زاخرة بالأسماء والتيارات · ثمة الكثير من الشعراء الجدد يعدون بالكثير· دور النشر متواجدة بكثرة· وليس ثمة أزمة قراءة كما عندنا· السوريون يقرأون، ويتبعون آخر الإصدارات الأدبية·
قال شكري:
ــ المشارقة يهتمون بالأدب أكثر بكثير ما نهتم نحن· الكتابة الأدبية هناك تحظى باهتمام نقدي وإعلامي تفتقر إليه الكتابة المغربية إلى حد بعيد·
دخل شاب· صافح شكري باحترام بالغ· قدم له غواية الشحرور الأبيض:
ــ أرجو أن تكتب لى إهداء بخطك·
سأله شكري عن اسمه· ثم كتب الإهداء· يده ترتعش مع خط كل كلمة· أخذ الشاب الكتاب· قال:
ــ آمل أن لا أكون قد أزعجتك، يا أستاذ·
ــ لا، لا، أنت لطيف غير مزعج·
غادر الشاب المطعم يسبقه فرحه·
رن هاتف شكري· إنه الشاعر الصديق حسن نجمي يستفسر عن صحة الشحرور· ويخبره بقبول طلبي لنيل عضوية اتحاد كتاب المغرب·


8/26/2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى