موسى الثنيان - غواية الطين.. قصة قصيرة

كانت سيّدة للطّين، تصنع منه مشاهد أخرى للحياة، لا أدري لماذا شعرت أنها شقيَّ الآخر الذي ضلَّ منّي لسنوات ... التقيتها المرّة الأولى في معرضها الفنّي لمجموعة من مجسّمات الطّين الصّناعي، أشكال وألوان مختلفة تعجنها بخفّة... وكأنها تمارس الجمال الأرسطي المثالي، تمزج الألوان وتشكلها، تجعل من الطّين رجلاً، لتعيده إلى امرأة، لتكوّره بسرعة، وتحيله إلى عصفور أو عصفورين، أخذتنا في تلك الأمسية إلى عوالم من الدّهشة والخيال، كانت نظرات عينيها تثير فيَّ العشق فتجذبني إليها كما تفعل الأزهار بالفراشات والنّحل، وكنت أنا طينها الآخر الذي مزجته بكفيها السّحريتين، كنّا في كلّ مرّة نلتقي تقطر عينانا بالعشق والتّوق، حتى كبرت لديَّ رغبة في التقدّم خطوة إلى لقاء ليلي على منضدة في مقهى أو في مطعم يطلّ على البحر في طرف المدينة، لكنّ ذلك لم يحدث، ها أنا ألتقيها مصادفة داخل دار السّينما المظلمة!، عرفتها من قامتها الطويلة، وجرس كعبها العالي، كانت وحيدة لا يتأبّط ذراعها أحد؛ الأمر الذي جعلني أشعر بالارتياح
- تفضلي
- شكرا
- مصادفة جميلة
- أجل!
سعدتُ بذلك كان مقعدها بجانب مقعدي، لا أدري كيف جرى ذلك وكيف لم ألتفت إليها وهي تقف خلفي في الطابور عند بائع التّذاكر؟!... هل تعمّدت اختيار رقم مقعدها إلى جانب مقعدي؟! الشّاشة بدأت بالعرض والعقد تتوالى على بطل الفيلم الذي تمّ اختطاف كلّ أفراد عائلته، وطلب منه كلّ ثروته المالية مقابلها، وكلّ كياني مشغول بالتي تجلس بجانبي، أرتّب كلماتي، أحذف وأضيف وأعيد صياغة الجملة؛ لأدعوها إلى عشاء بعد انتهاء الفيلم، هل ستقبل بالدعوة؟، ماذا سأقول لو لم تقبل؟ كيف سأقنعها؟ لن أترك الفرصة تمرّ كغيمةٍ دون أن تمطر، بطل الفيلم يبدأ بالهجوم لتحرير عائلته من قبضة المجرمين، لا أدري متى وصل إلى هنا وكيف؟؟!...
كانت مشدودةً إلى الشّاشة الفضّية وكأنني لستُ بجانبها... انتهى الفيلم بعودة عائلة البطل إلى كنفه، وبجرأة غير عادية دعوتها للعشاء معي، قبلت بدون تَردُّد وكأنها انتظرتها مني... أثناء العشاء تحدّثنا كثيرًا عن أعمالها الطينية وكيف تسبغ عليها من جمال روحها، حين صرّحت لها بحبّي الذي يشبه طينها بدت كوردة حمراء خجولة، بعدها دعتني إلى شقّتها لتريني أعمالها التي لم تعرضها بعد، انطلقنا مثل عصفورين بريئين، كانت شقّتها تقع في الطابق العلوي، ونحن نسير كنت أمسك بذراعها وأشعر بأن الدنيا كلّها ملك يميني، عندما دخلت كانت رائحة القهوة وسجائر التّدخين ما زالت عالقة في المكان... ما شدّ انتباهي أعمالها الفنية التي تكتظّ بها شقّتها، مجسّم لنصف رجل... ومجسّم بطينٍ أخضر لعاشقين عاريين يتعانقان وكأنّهما بدا كغصن شجرة، رأيت كوبين من القهوة وبعض أوراقٍ قد امتزجت حروفها ببن القهوة المسكوب على الورق، وبسرعة رفعت الكوبين من على المنضدة وهي مرتبكة. خالجني شعورٌ بأني أحد أعمالها المنصوب ببلاهة ... دعتني للجلوس بينما تعدّ لي القهوة. وأنا أرتشف القهوة قلت: -
أحبّك
- أنا كذلك أحبّك، هلّا أخبرتك بحكاية.
قلت محاولاً الإفلات: -
ولكن أنتِ الحكاية.
كأنّها لم تُدِرْ بالاً لما قلت، وما لبثت أن اختصرت ألف ليلة من الحديث في ليلة واحدة، ولم تزل تدخلني في الفانوس السّحري، وتنقلني على بساط علاء الدين، أو على ظهر جنّي المصباح ليقطع بي البحور السّبعة ويقلّني إلى جزيرة الأقزام، أو تضعني في قمقم الوحش ألف عام وعام... وأنا أمارس الصّمت بسذاجة، داعب عينيّ النّعاسُ، وشعرت أن الثّريا المعلّقة في السّقف قريبة مني، بعدها انتبهتُ من نومي فجرًا، وكنت وحيدًا ألقي نصف جسمي على الطاولة، كلّ شيءٍ على حاله، كوبها الذي لم ترتشف منه قطرة واحدة، وأعمالها التي بقيت شاهدة على ما جرى وقد انطلت عليَّ لعبة الغواية



* منقول عن نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى