محمد جبريل - انكسارات الرؤى المستحيلة

قال أحمد أنيس وهو يضع رزمة النقود على مكتبى :
ـ ثلاث ساعات وأنا أتنقل بين البنك المركزى وبنك مصر وبنك فيصل ..
أودعت رزمة النقود درج المكتب :
ـ ما فعلته جزء من عملك ، فلم تشكو ؟
رسم على وجهه ابتسامة معتذرة :
ـ لم أقصد الشكوى ، لكننى أشرح ما حدث ..
لما ضاق وقتى عن استيعاب مسئولياتى ، عهدت إلى أحمد أنيس بأن يقدم لى من وقته بدلاً من وقتى الذى لم يكن بوسعى أن أضيعه . مكانتى تفرض الحاجة إلى الوقت . أختلف مع ما يحتاجه أحمد أنيس . هو لا يريد إلا الأجر الذى ينفق منه على احتياجات يومه ..
كنت أضيع الوقت فى انتظار المصعد ، دورى أمام شباك السينما ، وفى مكتب شركات الطيران ، وداخل البنك ، وصالة الاستقبال بعيادة الطبيب ، والوقوف بالسيارة فى إشارة المرور ، والوقوف فى طوابير وصفوف ، انتظاراً لشىء أطلبه . واللقاءات الشخصية ، وأحاديث التليفون ، والتوقيع على أوراق مهمة ، وبلا قيمة . وكان الطريق يبتلع أكثر من ساعة بين البيت فى مصر الجديدة ، والمكتب فى المهندسين ..
ماذا يحدث لو أنى لم أعترف بالوقت ؟ لو أنى أنكرت وجوده أصلاً ؟.. أصحو وأعمل وأنام . لا يرتبط ما أفعله بشروق الشمس ولا غروبها ، ولا أيام السبت والأحد إلى نهاية الأسبوع . حتى الساعة انزعها من يدى ، فلا يشغلنى ما فات ولا ما أترقبه . لكن الآخرين يصرون على السنة والشهر والساعة واللحظة . يصرون على الوقت ..
هذا ما أفعله بالضرورة ..
الوقت الذى لا يضيع ، لا يمكن أن أسترده ، أو أعوضه . حرصت على أن أختصر من عاداتى ما يضيف إلى وقت الإنجاز . لم أعد أحلق ذقنى صباح كل يوم . ربما أخرت حلاقتها إلى صباح اليوم الثالث . تبينت أنه لم تعد الذقن غير الحليقة تليق بمكانتى . أوصيت على ماكينة كهربائية ، أستعملها فى الأوقات الضائعة ، فى جلستى وراء السائق . وكنت أرجئ تنفيذ بعض ما يجب إنجازه ، فأنهيه فى وقت واحد ..
قرأت أن الوقت هو الرمز النهائى للسيادة ، وأن هؤلاء الذين يسيطرون على وقت الآخرين لديهم القوة . من يملكون القوة يسيطرون على وقت الآخرين ..
أريد أن أفيد من كل ساعة ، كل دقيقة ، كل ثانية . لدى الكثير مما يهمنى أن أنجزه . الحياة قصيرة إن لم نحسن استغلالها . نضيف إليها وقت الآخرين ، ما نحصل عليه من وقتهم . لن تمضى حياتى على النحو الذى أطلبه ، ما لم تأخذ من حياة الآخرين . إنهم يجب أن يضيفوا إلى حياتى ، يعملون لها ..
أزمعت أن أحصل على الوقت الذى أحتاج إليه من رجل ، شاب ، عنده الفائض من الوقت ..
أطلت الوقوف على باب الحجرة ، حتى رفع أحمد أنيس رأسه من الأوراق والملفات المكدسة على المكتب :
ـ أفندم يا سعادة البك ..
سعدت للذهول ـ وربما الخوف ـ الذى نطق فى ملامحه ..
لم أتردد على مكتبه ، ولا أى مكان فى المبنى . المرئيات ثابتة منذ الباب الخارجى ، وصعودى السلمات العشر ، ثم الميل إلى اليمين ، والسير فى الطرقة المفروشة بالمشاية الحمراء ، الطويلة ، على جانبيها لوحات أصلية ، وإضاءة خافتة . شندى الساعى ـ فى نهاية الطرقة ـ يسرع إلى فتح الباب . تطالعنى الحجرة الواسعة ، المطلة على النيل : الأبواب والنوافذ ذات النقوش البارزة ، والزجاج المتداخل الألوان ، والأرفف الخشبية رصت فوقها كتب وأوراق وأيقونات صغيرة وشمعدانات ، والأرض فرشت سجادة تغلب عليها النقوش الحمراء ، فوقها كنبتان متقابلتان ، يتخللهما طاولات وكراسى ، والمكتب الضخم فى الوسط ، من الأبنوس والصدف ، وقبالة الباب مرآة هائلة تغطى معظم مساحة الجدار ، وتدلت من السقف نجفة كريستال هائلة ..
بدا أحمد أنيس مرتبكاً ، لا يدرى إن كان عليه أن يظل فى وقفته أم يقبل ناحيتى ..
أشرت إليه ، فلم يغادر موضعه . أهملت ما ينبغى على رئيس العمل أن يحرص عليه . يستدعى مرءوسيه ولا يذهب إليهم . تأتيه أخبارهم ، ويضع جداراً غير مرئى بينهم وبينه ..
قلت :
ـ أحيى إخلاصك ..
ـ هذا هو عملى ..
فاجأته بالسؤال :
ـ هل المرتب يكفيك ؟
وهو يغالب الارتباك :
ـ أدبر نفسى ..
ـ ما رأيك فى عمل بعد الظهر ؟
وشى صوته بالانفعال :
ـ سيادتك ..
ثم فى استسلام :
ـ أنت الرئيس ومن حقك ..
قاطعته :
ـ لا شأن لهذا العمل برئاستى .. إنه عمل آخر .. إضافى ..
رنوت إليه متملياً : القامة القصيرة ، المدكوكة ، الجبهة الواسعة ، الوجنتين البارزتين ، الأسنان التى اختلط فيها السواد والصفرة ، البشرة الدهنية ، دائمة التفصد بالعرق ..
حدست السؤال الذى لابد أنه سيخاطب به نفسه : لماذا اخترته دوناً عن بقية الموظفين ؟
فتشت عن الكلمات لأشرح له بواعث اختيارى . ثم تنبهت إلى أنه ليس من حقه أن يسألنى ، ولا أن يناقشنى فيما أختار ..
تركت له معظم الوقت الذى كان يسرقنى . تحكم فيه بما أثار إعجابى ، وربما حسدى . أجاد كل ما أسندته إليه ..
لم يكن يمارس عملاً واحداً ، هو سكرتير ، وسائق ، وطباخ ، وخادم . أدهشنى بما يعرفه فى الأبراج وعلوم الفلك وقراءة الطالع ، وفهمه لقوانين الألعاب الرياضية ، وحفظه لفرق الوقت فى مدن العالم ، وللنكات الحديثة ، وإجادته تلخيص الروايات والمسرحيات والأفلام بما لا يخل بالمعنى ، وتقديم المعلومة التى تعوزنى فى اللحظة التى أطلبها . ربما لجأت إليه فى أوقات الليل يسرى عنى بحكاياته الغريبة ، المشوقة ..
وفر لى النجاح فى استثمار الوقت ساعات أخرى : يعرفنى مفتشو الجمارك ، فيتركون حقائبى بلا تفتيش . لا يفتحون الحقائب أصلاً . يتعرف على التاجر ، ويعرفنى بنفسه ، يجرى لى ما لم أكن طلبته من خصم على ما اشتريته . وكان يخلص ـ بلا متاعب ـ أذون الشحن ، ويتذوق الطعام الجيد ، ويشير بالأماكن المريحة ، ويجيد تقليد الأصوات والحركات ، ويجيد اختيار الطاولة القريبة من " بيست " الملهى الليلى ، ويحسن التصرف فى الأوقات السخيفة ، وينقل فضائح المجتمعات الراقية ، ويتحمل العبارات التى يمليها الغضب ..
ما وصلت إليه من مكانة ، يدفع من ألتقى بهم إلى انتظارى ، فلا يشغلنى انتظارهم . ينتظرون حتى الموعد الذى أحدده . من المسموح لى أن أضيع وقتهم ، وليس من حقهم أن يضيعوا وقتى . أعتذر بالقول : أنا مشغول الآن .. هل يمكن إرجاء هذا الأمر إلى وقت آخر ؟.. هذه المشكلة تحتاج إلى مناقشة ليس الآن مجالها .. سأحدثك عن ملاحظاتى فى فرصة قادمة .. أملى القرار ، لا أتوقعه ، لا أنتظره ..
عاودت النظر إلى ساعة الحائط . تثبت من الوقت فى ساعة يدى . يدخل الخادم بالصحف فى التاسعة صباحاً . أطالعها ، أو أتصفحها ، حتى التاسعة والنصف ..
علا صوتى :
ـ أين الصحف ؟
ـ سألخصها لسيادتك ..
لم أفطن إلى وجوده فى الفراندة المطلة على الحديقة الخلفية . اعتدلت بحيث واجهته :
ـ لكننى أقرأها بنفسى ..
ـ الأخبار المهمة سألخصها بنفسى ..
ثم وهو يربت صدره :
ـ هذا عملى ..
تبادلت كلاماً ـ لا صلة له بالعمل ـ مع أصدقاء فى الكازينو المطل على النيل . أفيد من فائض الوقت ، ولا أعانى قلته . تحدثنا فى السياسة ، والأغنيات الجديدة ، ومباريات الكرة ، وتقلبات الجو ، وفوائد السير ـ كل صباح ـ على طريق الكورنيش ..
لم يعد هناك ما يشغلنى . أحمد أنيس تكفّل بكل شئ . يتابع تنفيذ القرارات دون أن يستأذننى فى إصدارها . حتى المكالمات التليفونية يسبقنى إلى الرد عليها . يؤكد وجودى ، أو يلغيه . يتمازج الإشفاق والود فى ملامحه :
ـ نحن أولى بالوقت ..
علا صوتى ـ بعفوية ـ حين دفع باب حجرة المكتب ، ودخل . تبعه ما يقرب من العشرة . يحملون كاميرا وحوامل وأوراق وأشرطة تسجيل ..
أشار أحدهم ـ دون أن يلتفت ناحيتى ـ إلى مواضع فى المكتب يرى أنها تستحق التصوير ..
لم أكن مشغولاً بقراءة ولا متابعة ، ولا أستمع إلى الإذاعة ، أو أشاهد التليفزيون . كنت أتأمل لوحة الجيوكندا ، وسط الجدار ، أحاول تبين ما إذا كانت نظرة الموناليزا تتجه ـ بالفعل ـ إلى كل من ينظر إليها ..
وضع فمه فى أذنى :
ـ هذا برنامج للتليفزيون .. عن مشوار حياتك ..
ـ لكننى غير مستعد لهذا البرنامج .. لست مستعداً لأى شئ ..
دفع لى بأوراق :
ـ عليك فقط أن تتصفح هذه الكلمات ..
وقلت له ـ ذات مساء ـ بلهجة معاتبة :
ـ يفاجئنى الأصدقاء بالشكر على رسائل تهنئة وهدايا ..
وهو يدفع نظارته الطبية على أرنبة أنفه :
ـ عندى قوائم لكل المناسبات السعيدة للأصدقاء .. وأتابع أنشطتهم الاجتماعية جيداً ..
مددت شفتى السفلى دلالة الحيرة :
ـ أخشى أنهم يفطنون لارتباكى ..
وواجهته بنظرة متسائلة :
ـ لماذا لا تبلغنى بهذه المناسبات قبل أن ترسل تهانيك وهداياك ؟
ـ وقتك أثمن أن تبدده فى هذه التفاصيل الصغيرة ..
أعدت النظر إلى ما كنت أطلبه من أحمد أنيس .
لم أعد أرفض قيامه بشىء ما دون أن يبلغنى به . كان يرد على الرسائل دون أن يتيح لى قراءتها ، ويبلغ المتحدث على التليفون بما يرى أنها تعليماتى ، ويبعث بالمذكرات إلى من ينتظرونها ، ويوافق على الدعوات التى يثق فى ترحيبى بها ، ويرفض ما يثق أنى سأرفضه ..
طويت الجريدة ، ووضعتها على الطاولة أمامى :
ـ أنا لم أقل هذا الكلام ..
بدا عليه ارتباك :
ـ لكنه يعبر عن آرائك ..
ثم وهو يرسم على شفتيه ابتسامة باهتة :
ـ هل فيه ما ترفضه ؟
ـ بالعكس .. لكنه ينسب لى ما لم أقله ..
أحنى رأسه بالابتسامة الباهتة :
ـ دع لى مسألة الحوارات والأحاديث ، لأنها تأخذ من وقتك ما قد تحتاجه للراحة أو التأمل ..
وأنا أعانى إحساس المحاصرة :
ـ إذن ناقشنى فى الأفكار التى ستقولها ..
تهدج صوته بالانفعال :
ـ هذا ما سأفعله حين يصادفنى ما أحتاج لمعرفته ..
بدا لى أن العالم رتب أموره بدونى . لم يعد لدى ما أفعله سوى التأمل واستعادة الذكريات . مللت ما أحبه من أغنيات ، فأهملت سماعها . سئمت مشاهدة الأفلام التى وضعها فى الفيديو . فارقنى القلق والتوقع والتخمين . تنبهت لانشغال يدى بمسح زجاج المكتب بمنديل ورقى . رنوت ناحية الباب الموارب ، أتأكد إن كان أحداً قد رأى ما فعلت ..
قلت :
ـ أنت تأخذ قرارى ؟
ارتعشت أهدابه :
ـ أنا أحدس رأيك ..
غالبت نفسى فلا يبين ما أعانيه :
ـ ماذا أفعل أنا إذن ؟
ـ أنت تخطط وتشرف .. وأنا أنفذ ..
حدجته بنظرة تفتش عن معنى غائب :
ـ هذا لم يعد يحدث ..
حدثنى عما لم أكن أعرفه فى نفسى . أبتعد بنظراتى ، ولا أميل إلى المجتمعات ، ولا أصلح للخطابة ، أو التحدث فى اللقاءات العامة . لا يجتذبنى ما قد يثير الآخرين ، وأعانى التردد فى الاختيار ، وفى اتخاذ القرار ، والمجازفة ..
أومأت على ملاحظاته بالموافقة . لم أحاول السؤال ، أو مناقشة التصرفات التى جعلتنى ذلك الرجل فعلاً ..
أتابعه بنظرة ساكنة وهو يتحرك فى حجرات البيت . يرفع الصور واللوحات من أماكنها على الجدران . ينقلها إلى مواضع أخرى . لا يعنى حتى بأن يلمح ـ فى ملامحى ـ انعكاس ما يفعله . يبدى إشفاقه ، فيغلبنى التأثر . يغادر الفندق ـ فى رحلاتى خارج البلاد ـ إلى الجولات الترفيهية ، وزيارة أماكن السياحة والتسوق ..
لم أعد أعرف القرار الذى يجدر بى أن أتخذه ، ولا ما يجب عليه هو كذلك . اختلطت الرؤى ، وتشابكت ، فلا أعرف إلا أنه ينبغى أن أسلم نفسى للهدوء ، وما يشبه الاستسلام . أكتفى بالمتابعة الصامتة ، الساكنة . لا أفكر ، ولا أتكلم ، ولا أقدم على أى فعل . حتى التصور لم يعد يطرأ ببالى . أحمد أنيس وحده هو الذى يفعل كل شئ ..

من مجموعة "إيقاعات"


عن صفحة د. حسين علي محمد


محمد جبريـل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى