مارك أمجد - المحبة قوية كالموت

مَن نجمة خيالاتك في الحمّام؟
كان يرد: “عمتي”.

طوالَ فترة علاقتي بفرانسيس لم يأتِ على ذِكر امرأة غيرها، لذلك لم أشُكّ في رجولته حينما استقبلني عنده بالمنزل ونِمنا معًا على سرير واحد. في المَدرسة لم يظنوه شاذًا جنسيًا، بيْدَ أن الصبيان نبذوه لأنه ينبذ البنات. لم يجربوا مرة استفزازه بأنه بلا علاقة، لأنهم شعروا بأنه يملك شيئًا آخر. إذ كان يكتب مسرحياتٍ فاشلة هي مزيج من دراما السينما العربية وسخافة أفلام القديسين. ولم يجربوا أن يؤذوه لتحيُّرهم الشديد فيما إذا كان مسالمًا مثلما يبدو في صورته وهو يتسلم جائزة الكرازة من البابا، أم عدوانيًا مثلما يتحدث حينما يأتي أستاذهم في الفصل على ذِكر الأقباط.

كنت أكبرُه بعام، ولم يكن هذا ما يخوّلني كي أقوده معي في حفلات السهر. إذ كان هو مَن يوافق على أي شيء طالما هناك مَن يؤنسه. ذات مرة قابلته صدفة في الطريق وسألته إلى أين أنت ذاهب. رد دون تفكير إلى البحر، أريد أن أنتحر. كان يتحدث بطريقة عادية فوجدت نفسي أعرض عليه بطريقته العادية نفسها أن اصطحبه إلى المقهى المفضل لنا نحتسي القهوة. وافقَ دون تردد. وفي اعتقادي أن ما أحجمه عن إنهاء حياته ليس تَمَسكه بها بقدر لقائه مع شخص يقضي معه الليلة. أي شخص.

أنا أقرأ، ليس بالْكَم الذي يقرأه فرانسيس، لكني أقرأ كثيرًا. كما أني أجيد اللغة الإنجليزية، ولا أقرأ مثله الأدب فقط، بل كل ما يقابلني. لذلك كنت قد تعرفت على فنانين كثيرين انتهت حياتهم بالانتحار. وفي حالة صديقي لم يكن يمنعه سوى أنه لم يحقق الشهرة التي أرادها بعد. وكنت أتساءل هل هذا فقط ما يوقفك يا فرانسيس؟ هل ما يمنع بقية الناس عن إنهاء حياتهم أكثر هشاشةً مِن دافعِك؟

الحق أنه كان موهوبًا، وقد ترك الفن الذي كان يصفق مِن أجله الجمهور في صالة مدرَستنا لأنه مكرر ومُستساغ، وصار يكتب قصصًا غير مفهومة. أمّا أنا الذي يتهمونه بأن له آراءً في الفن تشبه العواجيز، فكانت تعجبني. ذهبت معه مرة إلى مركز الثقافة الفرنسي لتوقيع كتاب، نُشِر له به قِصتان. لم أفهم واحدة منهما، وقد ضايقني هذا لكني انشغلت بكاريزميته على المنصة وهو يتحدث. حملقت في الجالسين ورأيت الفتياتِ كيف تنظرن له وتتحسرن لأنه مسيحي. شعرتُ بالغيْرة منه، لكن بالأولى تضايقت لكونه وحيدًا حتى الآن. بعد انتهاء الحفل سِرنا بشارع فؤاد؛ سألته: “ألم تعجبك واحدة اليوم؟” قال: نعم، واحدة فقط.

“لماذا هي؟”.

“تشبه المجدلية”.

“وهل رأيت المجدلية”.

“لا”.
حسنًا، اذهبْ واعرف هذه على الأقل".

“أخاف”.

“مِم؟”.

“كثيرًا ما أتخيل نفسي لا أجد ما أكتبه، إذا حدث ووقعت في الحب”.

“وما العلاقة”.

“أنا أكتب لأني مكروه”.

لم أفهم نظريتَه يومَها جيدًا، إلا أن نبرته كانت تشي باقتناعه بما يقول. لذلك لم أجِد ما أرد به.

حينما سافرت إلى هنا؛ أستراليا، بكى فرانسيس وأصر ألا يصطحبني إلى المطار. كنا نتواصل عبْر سكايب فلا نشعر أبدًا أننا في قارتيْن مختلفتين. أخبِرُه عن مغامراتي الجنسية فلا يغار مثل بقية أصدقائي، يَسمعني حتى النهاية ويسمّي مناطق جسم مَن ضاجعتها أثناء سردي بألفاظ عربية لا تعني لي شيئًا. أهز له رأسي وأقول: “نعم نعم هذا ما أقصده”. أسأله إن كان لا يزال يسْتَمْنِي على صور عَمّتِه. يضحك ويقول: لكني مللت، أريد أن أضاجعها.

لم أكن أفهم كيف يعتمد على خياله إلى هذا الحد. أنا مثلًا لم أخُض علاقة جادة من قبْل، لكني على الأقل صاحبت كل شرموطة بكُليتي في عامي الجامعي الوحيد الذي قضيته بمصر. ووعدتُ أكثر من فتاة في الكنيسة بالزواج، وهنا نِمت مع بنات مِن جنسيات مختلفة بعد أن ظننت حبي الجنسي لإيفيلين الكولومبية حبًا. أمّا هو فبإمكانه أن يترك كل هذا ويلتصق كحشرة بغلاف كتاب له. أخبرَني في رسالة أخيرة أن روايته الأولى ستصدر قريبًا، وأن قِصة له، وهي المفضلة لديّ، صارت فيلمًا سيعرَض قريبًا في مهرجان بألمانيا. كل هذا جيد يا فرانسيس. لكنك لا تزال وحيدًا.

حينما حكى لي عنها لأول مرة، كل ما قاله هو أن وجهها يشبه موجًا يهدر في رفق. لم أكترث لتشبيهه، لكني ابتهجت بالخبر. طلبت أن أتعرف عليها فرحَّب. المرة التالية تحدَّثَا هُما الاثنان معي على سكايب. وجدتها سطحية، وحِرتُ إن كان على غرار العظماء اطمأنّ لهذا، أم أنه لم يمنح هذه المسألة اهتمامًا أصلًا. على أية حال لا أتمنى له سوى السعادة. في رسائلَ لاحقةٍ حكى أكثر عنها وبأشياءَ لم تسمح تلك المكالمة القصيرة بأن أكتشفها فيها، مثل أنها تهتم كثيرًا بفنِه وتدفعه لخيارات لم تَبدُ له أول الأمر جيدة. يقول إنها أذكى منه اجتماعيًا، حتى أنه في لقاءاته بالصحفيين ومُلاك دور النشر يجعلها تتحدث نيابةً عنه. ووسط كل هذا ذَكر أنها جعلته يشعر برجولته بعد أن كان يشك فيها بسبب معايرات الأيام الخالية. فهِمتُ ضمنًا أنهما ناما معًا، وهذا أيضًا أسعدني.

مِن أسبوع أرسَلَ لي قصة جديدة كَتبها وكان يود أن يعرف رأيي فيها. قرأتها وشعرت بحسرة كبيرة. والأدهى أني شعرت بالخجل من مواجهته. فهو كمِثل بقية الفنانين، وربما تبدر كلمة مني دون قصد، أي كلمة لا أعرف بالضبط ما هي لكنها ستكون موجودة حتمًا، تجعله يبكي وربما يتوقف عن الكتابة لمدة. تذرعت بأكثر من حجة مثل اختلاف التوقيت بيننا وانهماكي في العمل والامتحانات، لكن كل ذلك جعله يزداد توجسًا.

حينما اضطررت أن أواجهه، كان يجدر بي، لو كان شخصًا آخر غير فرانسيس، أن أقول له يا صديقي قِصتك لم تعجبني لأنها تشبه صديقتك. عبَّرتُ عن ضيقي بكلمات كاهن عطوف رأى ابنَه يستمني على الحائط. أمّا هو فلم ينطق بكلمة ثم أغلق المكالمة صامتًا.

ظللت ألاحقه لكنه لم يرُد على أي واحدة من رسائلي. كان يَظهر عندي أنه قرأها. لكنه لا يرُد.

بعد أيام قليلة بعثَ هو برسالة، وحقيقة كون فرانسيس مؤلفًا في الأصل جعلتني لا أصاب بالحيْرة مما حكاه عن نفسه. لكني بينما أقرأ ترددتُ بقوة بين اليقين والخداع، أو بمعنى آخر صار الاثنان في كلامه واحدًا.

كتَبَ يقول

عزيزي مانويل

أمُر بأصعب وسواس تعرضتُ له طوال حياتي. أعرف أنه سيصعب عليك تصديق هذا، لكن إن كنا نكتب القصص فما الذي يمنع حياتنا مِن أن تأخذ هذا المنحى من الغرابة. واعلمْ أنه لولا تحولها لعدو بعد أن كانت عشيقة، لَمَا فضحت أسرار علاقتنا. ولا تأخذ حكايتي على غرار هؤلاء الشبان الذي يتباهون بفحولتهم، إذ عاهدتها ألا أتحدث عن علاقتنا الجنسية أبدًا أمام أحد. لكنها ليست هنا بعد.

أنا أصدق ما رأيتَه أنت وأخفيتَه عليّ، كونها تملك من الضحالة ما يكفي أن تَرِثه فتيات جيلِها جميعهن، لكن، أيَقِينا ذلك مِن الانزلاق في وحل الحب؟

لقد نِمتُ معها مرة واحدة، لكني لن أكررها يا مانويل. لن أفعلها مجددًا معها أو مع غيرها. يبدو أنه إبّانَ ليلتنا الوحيدة هذه انتقلَ شيء من جسدي لها. أعرف أنك لستَ متدينًا لهذا الحد، لكن ألم تسمع قصة المسيح حينما لمسته وسط الزحام المرأةُ نازفة الدم فشُفيتْ في الحال؟ فصرخ هو “من لمسني؟” إذ شعرَ ابن الله بقوة انسلت مِن جسده وامتلكها أحدهم. أو لم تقرأ بسِفر نشيد الأنشاد “المَحبة قوية كالموت”… فبعد أن ضاجعتها صارت تتحدث كما نيتشه في عنجهيته، وتفض حبكة الكتاب الذي نقرأه معًا قبْل أن نصل حتى لمنتصفه، وتسهِب في نقد ممثل نرى ملصق فيلمِه على أبواب السينما، بل حتى تسبر أغواري أنا شخصيًا وتقول لي أعرف مِن أين استلهمتَ تلك الفكرة. اليوم كان موعدي بورشة الكتابة النسوية، ألَّفتْ هي قصة لها افتتاحية أفضل مني. لم أعُد أجيد كتابة افتتاحيات مثيرة، ولم أعُد أفهم الشِّعر، ودرجاتي بالجامعة ترتفع على نحو سخيف، والجميع صاروا يفهمون ما أكتب بما فيهم أنت. تخبرني بأنه ينقصها فيلم واحد كي تكمل أعمال سبيلبرج. وانتبهتُ لرأيها في فيلم The Tree Of Life حينما قالت: “انظرْ، لقد صنعوا فيلمًا من الصورة”. تسألني هل زوربا حقيقي؟ أعرف أنك قرأتَ الرواية. في بداية علاقتنا كنت أراها مثل زوربا تمامًا. هل تعرف ما الفَرق بينه وبين المُعلم؛ هو لا يكترث لِمَا خلْفَه أو أمامَه، لا يرى، ولا يتخذ الحيطة. ومع ذلك يمتص من الحياة حتى ما لا تهبه إياه. كذلك هي. أمّا المعلم فهو مثلي ومثل بقية الكتَّاب؛ نرتجف كثيرًا، نشم المتعة قبل أن ننقض عليها. نفتقر للمخاطرة. الاستيقاظ مغامرة. الحب مغامرة. حتى الكتابة. ليس هناك شيء بسيط. الأمور كلها تستحق العناء، ولا تستحقنا نحن الكتّاب. لأننا أسمَى مِن أن نتكلف عناء تلك الحياة البائسة… أمّا الآن يا مانويل فلم أعُد أرى في نفسي ذلك المعلم، وهي لم تعُد زوربا، بل صارت قادرة على دمج الاثنين بداخلها. تفعل هذا مستندة إلى ألفاظي وحركات يدَيّ. تنقلها دون تحريف. تنسخها وتكررها اليوم وغدًا على نحوٍ يلغي مكانتي. إنها تقتلني يا مانويل.

تقتلني بنفسي.


* القصة من كتاب نشيد الجنرال

** عن مدونة مارك امجد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى