شهادات خاصة حسن بيريش - محمد شكـري كما عرفتـه.. (18) سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان رب العزة والملكوت

تجاذبنا أطراف الحديث زهاء نصف ساعة، ثم غادرنا· أمام مقهى (روكسي)، ودعتهم· سرت بضع خطوات· ثم توقفت · التفت ورائي· أراهم يبتعدون· يلجون تباعا مدخل العمارة·
أحسست أنني أودع شكري لآخر مرة·
أحسست أنني لن أراه بعد اليوم·
لا أدري من أين جاءني هذا الإحساس·

ــ يوميا :

ـ 2003/10/29:
قدرة جسد شكري على الاستجابة للعلاج جد مطمئنة· معنوياته جد مرتفعة· مجابهته للمرض بسلاح السخرية والضحك، تثير دهشة الأطباء·
شكري يخوض معركته المصيرية مع الداء الكارثي متشبثا بأهداب الحياة·

ــ 2003/11/8:
هتفت له:
ـــ كيف أنت، آلسي محمد؟
صوته ضعيف، ثقيل، بالكاد يسمع:
ـــ أنا أنتظر موتي· هذا أكيد·

ــ 2003/11/12:
قدرات شكري على المقاومة تتداعى بالتدريج· الداء اللايسمى يستفحل· ينتقل إلى أكثر من عضو·
انحبس لسانه· تراخت حركة يديه ورجليه· همدت أعضاؤه كلها· لم يعد قائما بالتعبير والإبانة فيه، سوى عينين ذابلتين كسير ين ـ بتعبير نجيب العوفي·

ــ 2003/11/13:
ــ حالة شكري جد متدهورة· مقاومته للمرض لم تعد تجدي نفعا! إنه يستسلم شيئا فشيئا·
قال لي الروائي كمال الخمليشي، في اتصال هاتفي، وأضاف في نبرة مشوبة بالحزن:
ــ شكري يعيش عده التنازلي!

ــ 2003/11/15:
عصر هذا اليوم الممطر، غادرت المنزل لشراء بعض الحاجيات· التقيت صديقا في شارع الزودية· ومثل رسالة لا أود تسلمها· بادرني قائلا:
ــ هل وصلك الخبر؟
ــ أي خبر؟
ــ وفاة محمد شكري·
ــ أين سمعت الخبر؟
ــ في التلفزة·
لم أصدق· اتصلت بالصديق الزبير بن بوشتى· جاءني صوته كما الصفعة:
ــ مات صديقنا الرائع محمد شكري· عزاؤنا واحد·
تذكرت أماسي (إلدورادو)· أحاديث (الريتز)· الضحكات المجلجلة في فضاء شارع البحتري·
شعور بالفجيعة يترسب في داخلي· أقف على حافة البكاء بذاكرة تواصل نزيفها·
أردد مع لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم·

ــ 2003/11/16:
أتصفح صوري معه بحنين لا أعرف كيف أقاومه· ذكريات الزمن الأجمل تهجم بلا هوادة· تنحفر في المسام· تفعل في الحنايا· يداخلني شعور يقيني أنني في مهب الحزن سأظل مقيما·
كل شيء يتسرب كما الرمل من بين الأصابع·
شكري يطل من كوة الماضي· ملامحه غائمة· يلج ملكوت الغياب· صدى صوته باق يملأ حيز شرودي:
سحبت ساعتي من وقتكم الزائل، ثم انصرفت ·
يا زمن التخلي!

ــ 2003/11/17:
نعش محمد شكري محمول على الأكتاف·
الأصوات الجنائزية تبدد هدوء مقبرة مرشان:
سبحان الحي الذي لا يموت ·
سبحان رب العزة والملكوت ·
سبوح، قدوس·
رب الملائكة والروح·
وأنا أقف على حافة قبره، أحسني أسمعه يردد قولة سعيد المتشائل: أما بعد، فقد اختفيت، ولكنني لم أمت·
ساعتها تمنيت لو أن شكري انتفض فزال القبر والكفن ـ بعبارة شيخنا المدهش المتنبي·

ــ 2003/11/19:
تلقيت، هذا الصباح، رسالة مؤثرة، بليغة، من الشاعر الكبير، الصديق الأعز، عبد الكريم الطبال· هذا نصها:
بسم الله
الأستاذ الصديق حسن أحمد بيريش
سلاما· سلاما
الحياة غدروف يدور بخفة· ثم بتؤدة· ثم يتوقف· ربما يعود إلى بيته الأول في شجرة ما· بعيدا عن أي فأس قادمة، وبالأحرى عن نجار لئيم· ثم عن صبي عابث·
أمام نعش شكري في المقبرة تخيلت غدروفه يعود خفية إلى بيته الأول منسابا في اللافضاء· وتخيلت في نفس الوقت ، غدروفي يتمايل وعيناه على بيته الأول·
وتذكرت المتنبي: رماني الدهر بالأرزاء حتى؛ فؤادي في غشاء من نبال·
كان محمد عزيزا علينا جدا· وفي أيام قليلة يرحل القاسمي والقيسي وإحسان· إن النصال تتكسر على النصال، كما يقول المتنبي·
لنواصل قليلا اللعب مع الغدروف إنما الحياة الدنيا لعب ولهو كما قال القرآن الكريم·
ولنضحك قليلا ولو على أنفسنا·
مع مودتي أيها العزيز·
2003/11/19
عبد الكريم الطبال

ــ 2003/12/25:
في زيارة خاطفة للرباط، صحبة القاص محمد سدحي، وفي رحبة مقهى (باليما)· كتبت شعوري بفقدان محمد شكري: المايزال يحتل الدواخل:
لمَّ ظلّه وأغفى
إلى محمد شكري:
الحي في موته
(1)
في شساعة المدى المقفر
تتضرّج الكلمات بدم الغياب
من شرفة البحتري يطل الوجه النحيل
يتهجّى أسارير طنجة
والخطوات السكرى
والأساطير المجروحة
والطفولة المولودة في حضن العاصفة
(2)
في الصباحات
في انتصاف الليالي
من حكي تجئ إلى حكي
تحفر غائرا في الذاكرات
فيزهر الكلام بين يدي الكلام
والكأس في منتصفها
والسيجارة مشتعلة ما تزال·
(3)
تنطفئ الضحكة المدججة بالبهاء
يتوقف النبض في العمر الذي ولد شيخا
نقرأ سفر الحزن
نقتعد كراسي الجراح
ونستحضر فواجع من مروا·
(4)
العمر رماد
تناثر في خفقة نار
تجهش في الصمت
(5)
بالأمس
من هنا مر
أضاء كالشمس لحظة تبرجها
ومثلما البرق
سريعا انطفأ
أينما ولَّيت
فثم وجه للنشيج
(6)
مثقل ببشائر الآتي
أجيؤك
أسابق ظلي إليك
لأرى فيك غبش الظن
فأصفع على قلبي
و علو الفجيعة كالشراع·
(7)
دمعتان··
واحدة لرتق حكايا بللها الشجن
والأخرى لحرف لم ظله
وأغفى في مسالك الرماد
وما يتبقى:
لارتعاش السؤال
في السؤال·

ــ 2004/2/16:
التقيت فتحية الخياطي في مكتبة (دارنا) بالسوق البراني· ما يزال شكري ماثلا في دواخلها· موته هز كيانها إلى حد بعيد· قالت لي:
ـــ لا أعرف ما أفعل بنفسي بعد موت شكري· يبدو لي أنني لم أفارقه إلا منذ لحظات· أحيانا يخيل إلي أنني أسمع صوته: فتحية· فتحية· فتحية· وأحيانا يأتيني في المنام ويتبادل معي الحديث·
تسلس فتحية قيادها لسيل الذكريات· تشرد قليلا· ثم تضيف:
ــ شكري شخصية رائعة جدا· إنسان استثنائي لن يتكرر أبدا·
قلت لها:
ـــ إنني أكتب حاليا مذكراتي مع محمد شكري·
قالت في حماس:
ــ مزيان، مزيان، لكنك لا تعرف شكري مثلما أعرفه أنا· لا أحد يفهم شكري كما فهمته أنا·
ــ هذا صحيح·
قلت وأنا أودع لالة فتحية الخياطي، أو شبر ديال التساع· كما كان يدعوها شكري·
والعهدة على الزبير بن بوشتى·


طنجة: 15 مارس 2044



انتـــــــــــــــــــــهى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى