راوية جرجورة بربارة - ذهب ولُبان ومر.. قصة قصيرة

يهدهد صوت في داخلي، ورجْعُ الصدى يؤرقني، أصمُّ أذنيّ لكنّ الأصوات تنبعث من باطني المتعَب، أخلد لسريري هاربا أحتال على النوم فيحتال عليّ كابوس يلاحقني منذ سنين. إنّها تطاردني في كلّ حلم، بقرة سوداء مذبوحة تسير ودمها لا يقطر ورأسها مربوط بشريان رفيع يتمايل ويصوّب عيونه إليّ، استيقظ مذعورا، أصلّي وأبحث عن كلام الله تحت الوسادة أحتمي به من سطوة الأرق. ألملم رعبي، وعيوني الذاهلة تفضح أسراري، تسمعني صديقتي فتقهقه وتداعبني بقولها:

- بتّ أخشى مرافقة رجلٍ تسكنه بقرة سوداء مقطوعة الرأس...

- لا تخافي، إنّها مجرّد أصوات وكوابيس ليست من عالمنا.

- أمسكونٌ أنت؟؟ ( قالتها والذعر بادٍ على محيّاها وفي صوتها وفي خطوتها المتراجعة المبتعدة) شددتها إليّ بصمت، أمسكتُ يدها وطمأنتها إنّما أشاركها أحلامي لأنني لن أخبّئ شيئا عنها ما حيينا، أحاول ضمّها، أشعرها ترتجف بين يدي فألاطف شعرها وأضحك قائلا:

- دعينا الآن من الأحلام، ماذا سنفعل في يومنا الأخير من هذه السّنة؟؟

تطأطئ، تفكّر، تجرّني من يدي راكضة وتصيح ملء الهواء المارّ حولنا:


- سنذهب إليها، هيّا بنا...

- إلى أين؟؟ إلى من؟؟

- إنّها أمنيتي الأخيرة هذه السّنة، فهل ترفض تحقيقها؟

- لا، لكنني أودّ أن أعرف جهتنا

- إنّها مفاجأة....

تركض واللهفة في عينيها وتشدّني من يدٍ متمنّعة، تلهث أفكاري وراءها، والصّمتُ الباحث عن الحقيقة يلفّني ويعرّي دهشتي...

وصلنا بيتا صغيرا مفتوح الباب، تعبق منه روائح البخور الغريبة ويغرق في سكونٍ مخيف وشبه عتمةٍ، أحاول أن أفتح فمي ليستفسر لساني عن سرّ المكان، لكنّني خفتُ خدش الصمت، جذبتُ اليد التي ساقتني إلى هذا الشيء الشبيه بمعبدٍ هندي، فأومأتْ بأصابعها: أنِ انتظِرْ!!

رواق مظلم آخر ورائحة البخور تزداد والظلمة والرغبة في الخلاص من هذا الواقع، تتكاثفان.

باب صغير منخفِضٌ أجبَرَنا على الانحناء وأدخَلَنا غرفة مضاءة بالشموع وبالفوانيس الكازيّة، جُدُرها مزدانة بالصّوَر وبالتّحف الصغيرة الغريبة التي تشبه تماثيل الآلهة المحفورة على بقايا المعابد الأثريّة، وامرأة لا يتّضح سواد بشرتها من ضباب البخور والشّموع تفترش كرسيا خشبيا وتعبثُ بأوراق ملوّنة بين يديها تفتحها بأصابعها الطويلة ، تنظر فيها وتنثرها على الطاولة، ترحّب بنا بنظرةٍ باسمةٍ من عينين سوداوين وحاجبين رفيعيْن مقوّسيْن. تجلس صديقتي بارتياح بينما تحاول قدماي أن تلوذا بالفرار، تشعر العرّافة بمحاولتي فتوبّخني ألاّ أهزأ بأصدقائها حكماء السّماء أثناء عملهم، يجول نظري في الغرفة فلا أرى صديقا ولا حكيما، تبتسم العرّافة فيشعّ للمرّة الأولى شيء أبيض من بين شفتيها ويتحرّك لسانها بصوتٍ هامسٍ واثق...:

- اختر ورقة من الطاولة وأخرى من بين يدي ولا تنظر فيهما.

اخترتُ ورقتين الأولى مرسوم على ظهرها صورة قوس وسهمِهِِ والثانية صورة برج الجوزاء، أخذَتْهما وأخذتْ تمزج الأوراق تفردها على الطاولة، تتناول بعضها تدقّق النظر فيه وتقول:

- أنتَ لا تشعر بالاستقرار المادي والعاطفي.

فأجبتها:

- ومَن يشعر بهما في بلدنا، سيّدتي؟

- صديقتُك المقبلة على فرحةِ عمرِها تشعر بالاطمئنان العاطفي، ولا تهمّها ماديّات الحياة.

- لذلك اخترتُها شريكةً لحياتي ... تستمدّ استقرارها من قلقي الدّائم!!

- لكنّها لن تكون شريكتك قريبا.

- لكلّ شي أوان.

- وقد آن الأوان لتبحث عن عملٍ.

- أنا أعمل.

- عليك بعملٍ جديد يلائم طموحاتك، ابحث فالأبراج تدور في فلكك هذه السّنة وستجد ضالتكَ.

ترفع يدها فتصهل الأساور في معصمها وتجمح الأفكار في ورق الشّدّة كاشفةً الماضي والحاضر والمستقبل، ترمقني حبيبتي بنظرة عتاب عندما تسمع قصصا اقتصرت بطولتها على غيرها من الفتيات، فأشير للعرّافة بطرْفٍ مرتعشٍ ألاّ تفضح أخباري، لكنّها تتعامى عن رؤية محاولاتي المتكرّرة وتستوحي من الأوراق الصامتة حكايات كانت طي الكتمان، تنفض الغبار عن صفحاتها وترويها ، تأخذني في رحلة عبر الماضي وتعزو فشل علاقاتي إلى خوفٍ دفينٍ داخلي..لا شكّ ّ أنّها ستعرف سرّ البقرة السّوداء مقطوعة الرّأس، أعدل جلستي وأستعد للسماع ناسيا حبيبتي المتجهّمة المتأهّبة للانقضاض عليّ في كل ثانية..أخافُ أنْ أكذّب هذه المرأة السمراء الضّخمة، وأخاف أن تجرّني الحقائق لهاوية جديدة..

استهوي لعبة الكشف، فأسدل أجفاني وأنصت، أسمع الأصوات المنبعثة من داخلي، وأرى شفتَي العرّافة تتحرّكان، والذهول في عيون حبيبتي يتّسع، لا آبه بهما فشريط من ذكريات الطفولة والشّباب يمرّ في مخيّلتي، وانقباض عنيف يدقّ في جوانبي من ذكرى صديقةٍ ألبستُها الكمّامة أيّام الحرب مع العراق، فكادت تختنق، أسرع صديقي وأبعدَ قطعة مطّاطيّة من فم القناع الأسود فتنفّستْ صديقتي وخبّأَتْ ذُعرها في عيون صاحبي واستكانتْ إليه....أزحتُ قناع الحماية عن وجهي، لامني حينها كثيرون لكنّني تمنّيتُ لحظتها أن أستنشق الغاز الكيماوي وأختنقَ بطولةً بدل الهزيمة التي حلّت بعواطفي....

عدتُ من رؤيتي فسمعتُ العرّافة تُنبئني أنّ بيتي لن يُصاب بعد شهور في الحرب القادمة علينا، وأنّ الخطر الذي داهم شمال البلاد قبل عدّة أشهر - والذي نالت غرفتي وذكرياتي المصوّرة نصيبها من كاتيوشاته الحارقة- لن يهدّد حجارتي وأوراقي مرّة ثانية. ...كيف عرفَتْ بأمر الصّور والمكتبة المحروقة؟ وما قصّة الحرب القادمة؟ ..كيف يعرف حكماء السّماء بالحرب ولا يحرّكون ساكنا لمنع وقوعها؟؟؟

وكأنّها سمعت حواري مع ذاتي، فمدّت أظفارها الطويلة المتراخية بتحفّزٍ على أوراق اللعب، وهي تُفهمني بأنّ أصدقاءها في السماء لا يستطيعون تجنُّب البلايا إنّما يُحذّرون منها...وطلبتْ مني أن أختار كشف المستقبل بثلاثة أوراق، فسألتها:

- ولماذا ثلاثة أوراق؟

- واحدة لأموركَ العاطفيّة، وثانية للاجتماعية وثالثة للسياسيّة

- لا علاقة لي بالسياسة!

- لكنّها على علاقة وطيدة بكَ كما يبدو، هيا اختر!

اخترتُ وأنا نادمٌ لأنني لم أتابع كشف أوراق ماضيّ معها، تُرى ماذا أخبَرَتْ حبيبتي حتى استكانت واحمرّت وجنتاها؟ لن أضيع هذه المرّة مع أوهامي وسأصغي لوقع أقدام مستقبلي ....


- يطاردك حلم عنيفٌ

- صحيح.

- كابوسٌ.

- نعم.

- حياتك العاطفيّة قاتمة رغم وجودها قربكَ. ( وأشارت بيدها نحو حبيبةٍ أظنّها كانت تتمنى في سرّها لو لم تكشف شيئا عنّي)، حبّها يطهّرك من رجس الحياة وعليك أن تعتمد بمياه دموع غفرانها، الأوراق تشير إلى علاقة مرتجفة بينكما لذلك سأكشف لكِ أوراقكِ بعد الانتهاء معه.

لكنّ حبيبتي انتفضت كمن لسعته أفعى وهزّت رأسها بشدّة بالسّلب، هل تخاف على علاقتنا من بضعة أوراق تافهة، أم تخاف مشاركتي ماضيها، أم .....؟ يا لها من نهاية شاذّة لسنة تمتّعنا بها معا...!

- ستندم على خيارات عديدة في حياتك لأنّ السنة الجديدة ستُحدث انقلابا في عالمكَ، ستتعرّف على مجموعة من البشر تقلب لكَ مجرى حياتكَ ومجرى تفكيركَ، ستربح مبلغا من المال تضيعه في مشروع فاشل، ستنتقل لمكان عمل آخر لن تتأقلم فيه بسهولة، غلاء المعيشة سيعيق تحرّكاتكَ والوضع السّياسي سيعرقل أحلامكَ، والحبّ سيضيع بين سطور الواقع التي ستحاول أن تخطّها بالحبر الأسود فتنكسر ريشة قلمكَ ويتمايل رأس القلم الذي يخطّ ويخطّط مستقبلكَ. ستواجهك بعض المصاعب لأنّك عنيد، ستمرّ عليكَ سبعٌ عجافٌ وسبعٌ خيّراتٌ، سبعٌ هزالٌ وسبعٌ سِمان..ربّما سبعة أيّام أو سنين أو ساعات، لا أسمع بوضوح لأنّ فكرَكَ مشوّش.. ستحلب سبع بقرات فتدرّ لك ذهبا ولبانا ومُرّا، وسمنا وعسلا ولبنا ... وزيتا.

استرسلت العرّافة في كشف الظنون عن السّرّ المكنون، جذبتُ يد حبيبتي هاربا بها من رائحة البخور ورائحة الجنون، تركتُ حكماء السّماء مع صديقتهم وخرجتُ وصديقتي إلى النور، نظرتُ إلى وجهها يلمع فرَحا في وهج الشّمس، ألقيتُ كوابيسي في سلّة السّنة المنصرمة، ودّعتُ أحلامي الخائبة الخائفة، احتضنتُ امرأة ستشاركني حياتي قريبا، وجهّزتُ يديّ لحلب بقرة الحياة...مهما درّتْ !!!!!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى