حسن أحمد بيريش - حوارات مع محمد شكري.. (1) المعيش قبل المُتخيَّل البدايات من "بني شيكر" إلى طنجة

أنجز هذا الحوار بين صيف 1998 وشتاء 2001· واستغرق حوالي خمس عشرة جلسة عمل، توزعت بين أماكن عدة بطنجة· راجع شكري مخطوطة الحوار، أدخل عليها بعض التعديلات الطفيفة، وأجازها·

***

أستاذ شكري، أنت من مواليد 25 مارس سنة 1935 بقرية "بني شيكر" بالريف· كم كان عمرك عندما هاجرت رفقة أسرتك من الريف إلى طنجة هربا من المجاعة؟
عندما ضرب الجفاف القاتل مناطق الريف المغربي، في بداية الأربعينات، أي في أوج الحرب العالمية الثانية· هاجر الريفيون قراهم هربا من الموت جوعا! بعضهم اتجه صوب مدن الجزائر، خاصة وهران· وبعضهم الآخر رحل نحو مدن الشمال المغربية، خاصة تطوان وطنجة· أسرتي كانت من ضمن الأسر التي هاجرت إلى مدن الشمال، وعندما بلغنا إلى طنجة، عام 1942، كان عمري سبع سنوات·

هل ثمة ذكريات تختزنها ذاكرتك عن طفولتك في الريف؟
صورة طفولتي في الريف مشوشة لا توضح أي شيء· لقد هاجرت قرية "بني شيكر" التي ولدت فيها، وأنا طفل صغير· ولم تحتفظ ذاكرتي إلا ببعض الأشجار والطيور، وملامح مشتتة لبعض الأشخاص·· إن ذاكرتي الريفية مفقودة· ولست مسؤولا عن فقدانها، لقد كان ذلك نتيجة الظروف القاهرة التي حتمت مغادرتي للريف·

في الصفحات الأولى من "الخبز الحافي" ثمة كلمات وعبارات ريفية ·· توظيف هذه الكلمات هل هو محاولة لاسترجاع ذاكرتك الريفية المفقودة؟
توظيفي لهذه العبارات ليس أكثر من محاولة لتجسيد المناخ اللغوي الموجود في طنجة الكسموبوليتية·

هل ينتابك الحنين، في فترات معينة، إلى القرية التي ولدت فيها؟
إطلاقا· وأقول هذا بصراحة تامة· إن الحنين لايتكون من فراغ· ينبغي الارتباط بالمكان، والانفعال والتفاعل مع الفضاء، لكي يترسخ الحنين بنوع من الجذرية في الوعي· وكل هذا لم يتح لي·

ماذا تذكر عن الفترة التي شهدت وصولك الى طنجة وأنت في السابعة من عمرك؟
أذكر أنني اضطررت لإخفاء لكنتي الريفية من دراجتي المغربية! بل اضطررت لإخفاء أصلي الريفي لأتفادى احتقار أطفال الحي الذي سكنا فيه! كان هؤلاء الأطفال يعيرونني بريفيتي، ويصرخون في وجهي، كلما حاولت الاقتراب منهم ومشاركتهم اللعب· قائلين: "امش يالريفي ·· امش يا ولد الجوع ··"!! وإذا كنت قد وجدت بعض الصعوبة في مصادقة هؤلاء الأطفال· فإنني وجدت ترحيبا وقبولا عند الغجر الإسبان· الذين كانوا يسكنون في نفس الحي، ويمارسون أعمالا وضيعة، وفي الغالب يسرقون! وكانت حياتهم مستقرة رغم فقرهم، وكانوا أقل بؤسا من أسرتي· وبواسطة أطفال الغجر والأندلسيين، تعلمت كيف أستخدم يدي للدفاع عن نفسي ضد الأطفال المغاربة الشرسين، الذين كنا نغير عليهم بين فترة وأخرى· وكانت عراكاتنا تصل إلى حد الإدماء ··!

هل ثمة حادثة غريبة مازلت تتذكرها حتى الآن عن تلك الفترة من طفولتك؟
أغرب ما أتذكر عن تلك الفترة، أنني تعلمت الكلمات الأولى بالإسبانية قبل أن أتعلمها بالدارجة المغربية! لأن لا أحد من أسرتي كان يتكلم الدارجة المغربية، عندما هاجرنا قريتنا "بني شيكر"· اللغة الوحيدة التي كنا نتحدثها هي الريفية· سواء داخل براكتنا (كوخنا) أو خارجها·

عشت في طنجة حياة بوهيمية، ومارست الصعلكة، وزاولت عدة مهن في سنوات طفولتك وشبابك من أجل لقمة الخبز ·· هل يمكن أن تذكر لنا نوعية هذه المهن التي مارستها؟
لم أترك مهنة إلا وزاولتها· بدأت ماسح أحذية· ثم صبي مقهى ومطعم أغسل الصحون· وزورقي وبائع سمك· ومرشد سياحي· وسمسار ونشال وموسيقي مقلد للمطربين المشهورين، أمثال: محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، اسمهان، وأم كلثوم، أيضا اشتغلت بائع جرائد، وخضراوات وسجائر مهربة ·· عرفت جميع أنواع التشرد والحرمان· والتجأت للنوم في المقابر· فكنت أختار أحد قبور مقبرة "بوعراقية" وأفرشه بالجرائد وبقطع من الورق المقوى، وأرقد وأنام ··! لم يكن ممكنا أن أنام متوسدا عتبات البيوت، أو المحلات التجارية· لأنني لم أكن أتوفر على أوراق تثبت هويتي· إذا ما فاجأني رجال الشرطة ··!

ما الذي تتذكره الآن عن مدينة وهران الجزائرية، التي اشتغلت فيها عند زوجة مراقب المزرعة الفرنسي، وعمرك 14 عاما؟
لم أعد أذكر منها إلا بعض الشوارع التي نسيت أسماءها·

بصفة عامة، ما هي الأحداث التي رافقت طفولتك وظلت راسخة في ذهنك، وفي ذاكرتك حتى الآن؟
لا أكذب عليك· أنا لم أعش طفولتي بطريقة سوية· طفولتي مثال حي للبؤس! فبدءا من السادسة أو السابعة من عمري، كنت أشتغل وأساهم في مصروف الأسرة· عندما كان الأطفال، الذين في مثل سني، يلعبون ويمرحون ويعيشون طفولتهم، كنت أنا أعاني ألم الجوع· فأضطر إلى أكل ما أعثر عليه من مخلفات الطعام وسط قمامة النصارى الغنية· ذلك أن قمامة المغاربة كانت جد فقيرة! وزبل المرفهين هذا كان موجودا في الأحياء الأوربية· بينما نحن - أسرتي ومن كان يجاورنا من الفقراء والمعدمين - كنا نسكن في أحياء فقيرة وبائسة جدا· مسار الطفولة التي عشتها، والتي عاشها أمثالي من المهمشين (لا الهامشيين)، هو مسار مرتبط بالحرمان، بالتشرد، بالضياع، وبالتمزق الاجتماعي! وإذا كنت - أسي حسن - تنتظر مني أن أحدثك عن أشياء جميلة في طفولتي، فأنت ربما لاتعرف، أو بالأحرى لاتدرك جيدا ما معنى أن يتربى الطفل في الشارع، وأن يتشرب - مضطرا طبعا فلسفة منقطعي الجذور!!

هل تخلصت، على مستوى الوعي الباطني، من ترسبات الطفولة القاسية التي عشتها؟
لا أعتقد أنني تخلصت من ترسبات أوعقد طفولتي· إن وصمة الطفولة تظل تعيش معنا وبداخلنا إلى النهاية· إنها تصحبنا من ولادتنا الى مماتنا· من المهد إلى اللحد كما يقال· ومهما عالج الإنسان نفسه، سواء بالكتابة كما فعلت أنا، أو بالتحليل النفساني كما يفعل الكثيرون، فإنه لايتخلص من عقد طفولته بشكل نهائي· فهذه العقد راسخة في نفوسنا لدرجة يصعب - إن لم يكن يستحيل - محوها وتحرير الإنسان منها·

التحول الذي حدث في حياتك ودفعك الى تعلم القراءة والكتابة، هل هو ناتج عن رغبتك في قراءة حياة الفنانين ومآسي العشاق؟
أم كان سبب حادثة مقهى "سي موح" بطنجة، التي عُيِّرْتَ فيها بالأمية والجهل؟
ذات صيف من عام 1956، وكنت أبلغ من العمر آنذاك 20 عاما، أنهيت عملي (زورقي) بميناء طنجة، وذهبت إلى مقهى "سي موح" لأدخن وأشرب كعادتي· كان رواد المقهى يتحدثون عن الملك فاروق واللواء محمد نجيب، وثورة 23 يوليوز المصرية· أردت التدخل في الحديث، فنهرني أحدهم قائلا: "اسكت أيها الأمي! إنك لاتعرف كيف تكتب حتى إسمك وتريد أن تحشر نفسك في موضوع سياسي"! طبعا أحسست بالإهانة· وقررت أن أتحدى ظروفي وأتعلم القراءة والكتابة· حتى لا تظل كلمة "الأمي الجاهل" تطاردني بلعناتها واحتقاراتها، وتسبب لي الإهانات· في اليوم التالي للحادثة، اشتريت كتابا لتعلم الأبجدية من مكتبة بحي "واد أحرضان"، وساعدني في تعلم المبادئ الأولية للقراءة والكتابة نفس الشخص الذي عيرني بالأمية في المقهى! وفيما بعد تمكنت من الدخول إلى مدرسة "المعتمد بن عباد" الابتدائية بالعرائش، وحصلت منها على الشهادة الابتدائية· وواصلت الدراسة حتى تخرجت من مدرسة المعلمين بتطوان عام 1961، وعينت في مدرسة "الحي الجديد للبنين والبنات" بطنجة· واشتغلت في التعليم أكثر من 21 عاما·

10/15/2004

.../...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى