فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. النسيب في الأدبين العربي والإنجليزي

الجمال هو مادة الفن، والتأثر به هو وحي الأديب، والتعبير عنه هو رسالة الأدب، سيان جمال الطبيعة والجمال الإنساني؛ وأصدق مقياس لرقي الأدب وحيويته حسن تعبيره عن الفتنة بهذين الضربين من الجمال، وأدق برهان على رقي المجتمع وصحة بنيته حفول أدبه بالتعبير الصادق عن الشعور الحار بفتنة الجمال في مظهريه. والأديب الموهوب لا مندوحة له عن الإتيان بشيء جليل في بابي الوصف الطبيعي والنسيب، مهما كان حظه من سائر ضروب القول؛ فالجمال الطبيعي والجمال الإنساني هما لباب الفن وصميمه، وما عدا ذلك نوافل وفضول

والنسيب لا يزدهر إلا في مجتمع توفرت له شروط خاصة: في مجتمع على جانب من الثروة لا هو إلى الترف ولا هو إلى الفاقة، على جانب من الخلق العظيم لا هو إلى النعومة والضعف ولا هو إلى الجلافة أو التزمت، على حظ من حب المغامرة لا فانٍ في حروب متواصلة ولا خانع قابع، في منزلة من الحضارة والرقي العقلي بين الهمجية والتوحش، وبين الإغراق في التقاليد المملوءة بالنفاق: ففي المجتمع الفقير يشتغل الأفراد بكسب القوت عن الترنم بعواطف النفوس، وفي المجتمع المترف ترذل الأخلاق وتدنس العلاقات، والتزمت أو التشدد الديني يخفت صوت العواطف، وكذلك تخفته التقاليد الحمقاء الشديدة الوطأة، كما أن عصور المغامرة هي شباب الأمم التي تحس فيه بكل نوازع الشباب، من حب الجمال والشغف بالعظائم

وقد تحققت هذه الشروط إلى مدى بعيد في العربية في العصر الأموي: ففيه كانت الأمة العربية على جانب من الثروة والرقي العقلي والسمو الخلقي وحب المغامرة: قد ورثت أخلاق البادية المتينة وصقلتها الحضارة ولم تفسدها بعد، وأصابوا من ثروة الأمم التي أدانوها، وما زالوا مجاهدين متأهبين للجلاد، فلا غرو ارتقى النسيب في هذا العصر؛ وكان قد بلغ في الجاهلية درجة عالية من الرقي، فأصاب في العصر الأموي غاية رقيه؛ وكان ذلك العصر عهده الذهبي في العربية، ففيه نبغ من شعراء النسيب جميل وكثير وقيس، وجم غفير منهم عروة بن حزام وبن الدمينة وأبو صخر الهذلي وبن الطثرية

امتاز نسيب هذا العصر بخير ما يمتاز به النسيب: صدق شعور، وحرارة عاطفة، وجزالة نسج، وعفة مقال، وحسن بيان لمظاهر الحب وخفاياه وأحواله، وحسن وصف لجمال المحبوبة الجسمي دون إغفال لجمالها النفسي. ومن عجب أن جيلاً نبغ فيه من ذكر كان يصغي في نفس الوقت إلى الأخطل والفرزدق وجرير وهم يتشاتمون؛ ونبه شأن هؤلاء حتى كادوا أن يخملوا الأولين، مع أن جميلا وعروة وأمثالهما كانوا يترنمون بعواطف إنسانية نبيلة، والآخرين كانوا يتقاذفون بالأوضار! ومن بديع النسيب المتخلف عن هذا العصر قول قيس بن ذريح:

نهاري نهار الناس، حتى إذا دجا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع

أفضّي نهاري بالأحاديث والمنى ... ويجمعني بالليل والهم جامع

وقول ابن الدمينة:

لك الله إني واصل ما وصلتني ... ومثن بما أوليتني ومثيب

وأخُذُ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأزورُّ عما تكرهين هيوب

وإني لأستحييك حتى كأنما ... عليَّ بظهر الغيب منك رقيب

تصرم ذلك العصر تدريجياً، ودخل عصر الترف والمجون والملكية المطلقة ذات الأبهة، فلم يعد المجتمع يصلح للحب الصادق، ولا الأدب يتسع للتعبير الصادق عن الحب: فقد ضعفت الأخلاق وانتشرت المفاسد، واشتد تأثير الجواري في المجتمع. وتقلصت مكانة الحرائر وضرب عليهن حجاب الجهل. وفي ذلك الجو الخليع تفشو الغواية والشهوة، ولا يفشو الحب العذري الحار؛ فالحب الصادق لا يكون، والنسيب الرائع لا يزدهر، إلا حيث جمال وحيث عفة، كما قال العذري؛ أما حيث تقع الجارية من نفس الرجل فيشتريها بماله ويصيرها في عداد ممتلكاته، فلا يكون ذلك

وذهب عهد المغامرة والجلاد وتلاه عهد الشيخوخة والوهن وكفت الأمة العربية عن الحرب، وأقيم عليها المرتزقة من الترك والعجم، وخمدت العزائم، واستخذت النفوس تحت جبروت الملكية المطلقة وعمالها الغاشمين الذين أفقروا الأهلين بمفارمهم، فأنصرف الناس إلى طلب القوت وحرصوا على المادة؛ ولم يعد الحب إلا اسماً يذكر، وطيفاً يتوهم، وأنيناً موصولاً وعويلا، وتصابياً كتصابي الشيوخ؛ أما صدق الشعور بالحب والتقلب في أحواله وأطواره، فقد انقضى بانقضاء شباب الأمة

أما الأدب فسرعان ما داخله التكلف في ظل الملكية ذات الصلات، وتوفر الشعراء على المديح؛ وبدل أن يبتكروا جديداً انصرفوا إلى معارضة معاني الأقدمين في المدح والنسيب. ومن ثم انقسم شعراء العصر العباسي فريقين: فريقاً انغمس في تيار الشهوات وملأ شعره بوصفها، كبشار وأبى نؤاس اللذين أوغلا في الباب الذي كان فتحه ابن أبي ربيعة في العصر السابق؛ وفريقاً كان أنقى صفحة وأعف طبعاً فلم يجر إلى ذلك المدى، ولكنه لم يودع شعره وصفاً صحيحا صادقاً لعواطفه وغرامه كذلك الذي توفر عليه جميل ومعاصروه، بل اكتفى بالنسيب الاستهلالي التقليدي الذي تتكلف فيه البراعة وتتوخى المحسنات البديعية؛ ومن ثم لا نرى في أشعار البحتري والطائي والشريف ومهيار وصفاً صادقاً حاراً لغرامهم. ومن الخطأ الشديد حين الكلام على النسيب في العربية أن نخلط نسيب هذا العصر الاستهلالي التقليدي بنسيب العصر الماضي الصادق الحي.

وقد شهد النسيب في الإنجليزية عصوراً مشابهة لهذه وإن جاء ترتيبها مختلفاً: فأما العصر الذهبي للنسيب في الإنجليزية فهو العصر الاليزابيثي الذي توفرت فيه الشروط السالفة الذكر، فكان عهد شباب وطموح ومغامرة، فيه ثروة ونهضة وعقلية وخلق متين؛ ومن ثم حفل مجتمع ذلك العصر بأحاديث الحب؛ وكانت قدوة الشعب ملكته التي كانت على جانب عظيم من الجمال والثقافة، يحيط بها طائفة من الفرسان البواسل، يتقربون إليها بتدويخ أعدائها ومد سلطانها براً وبحراً؛ ومن ثم ازدهر النسيب في أشعار شكسبير وسبنسر وبن جونسون وغيرهم

وفي العصر التالي خمد النسيب حيناً بتغلب طائفة المطهرين المتشددين الذين حولوا المملكة إلى صومعة يسودها الوقار والكآبة، وحرموا شتى المتعات والمسرات، حتى قيل إن سبب تحريمهم قتال الديكة - وكانت تلك تسلية معروفة إذ ذاك - لم يكن رغبتهم في الرفق بتلك الطيور، بل حرصهم على حرمان الناس السرور والتمتع. وقد ركد النسيب كذلك ركوداً طبيعياً لم يفرضه عليه أحد، في صدر الإسلام حين امتلأت النفوس برهبة الدين وانصرفت الهمم إلى جهاد أعدائه وتلا عصر المطهرين في إنجلترا عصر ترف وفساد، جاء رد فعل للعصر السابق، فرانت الشهوات في المجتمع، وشاع الفجور في الأدب، كالذي كان في العصر العباسي، ثم زايلت المجتمع والأدب تلك اللوثة رويداً رويداً خلال القرن الثامن عشر. على أن النسيب لم يزدهر ثانية خلال ذلك القرن لأقفاره من روح المغامرة والطموح، وتقاعد رجاله في المدن وتزاحمهم في المنتديات التي شاعت إذ ذاك. ومن أهم ما يعاب على شعراء ذلك العصر أمثال بوب وأديسون وجونسون خلو شعرهم من آثار الفتنة بالجمال في مظهريه الطبيعي والإنساني

وإنما ازدهر النسيب وحفل الأدب بوصف فتنة الجمال بانبعاث النهضة الرومانسية، التي انصرف رجالها إلى الطبيعة والتفتوا إلى الماضي الحافل بحوادث البطولة، فكان جميع رجالها كوردزورث وكولردج وكيتس وشلي مغرمين غراماً شديداً بمحاسن الطبيعة ومفاتن الجمال الإنساني. ولكيتس في ذلك أقوال جرت مجرى الأمثال، كقوله: (الشيء الجميل هو حبور لا ينقضي) وقوله: (الجمال هو الحق والحق هو الجمال؛ هذا كل ما هنالك، وهذا كل ما يعنيك أن تعلمه)

والحق أن النسيب في الإنجليزية مقرون غالباً بالوصف الطبيعي، لشعور الأدباء البدهي بما بين الأمرين من صلة وثيقة؛ فالطبيعة غالباً هي المنظر الخلفي للصورة التي يرسمها الشاعر لموقف الحب الذي يريد رسمه، كما يتخذ المصورون مظاهر الطبيعة من بحر أو غاب أو أفق مناظر خلفية لما يصورون من وجوه أو أشخاص آدميين. والطبيعة هي التي تمد الشاعر الإنجليزي بالأوصاف والتشبيهات التي يمثل بها حبيبته وعاطفته؛ وظواهر الطبيعة هي الرسل الأمينة بينه وبين محبوبته، وهي أيضاً الوحي الذي يوحي إليه فلسفة الحب التي ينسجها لنفسه

فشلي مثلاً يقول: (النافورات تمازج النهر، والنهر يمازج المحيط، ورياح الفضاء تمازجها دائماً روح عذبة، ولا شيء في العالم يمضي وحيداً، بل كل الأشياء مطيعة لقانون إلَهي يمازج أحدها الآخر، فلم يشذ كلانا؟) ومارلو يقول: تعالي سويا وكوني لي، كي نستوعب كل المتعات التي يحبونها بها التلاع والسهول والوديان والحقول والجبال الوعرة) وتنيسون يقول: (ما بالها تتباطأ في إسباغ الحب على قلبها تباطؤ الوريقة على الغصن في اكتساء الخضرة وقد اخضر جميع الغابة؟) ووولر يقول: (اذهبي أيتها الوردة الجميلة إليها، إلى تلك التي تضيع وقتها ووقتي، والتي تعلم حين أشبهك بها كم هي تبدو لي جميلة جذابة. أخبريها - تلك الصغيرة التي يأبى لها الخفر أن يطلع إنسان على مفاتنها - أنك لو نبت في القفار الموحشة لذويت دون أن يطري جمالك إنسان؛ ثم موتي أيتها الوردة كي تقرأ فيك النهاية المحتومة لكل غال عزيز، وتعلم قصر المدة التي يحظى بها كل جميل جذاب)

ولولوع أدباء الإنجليزية بالفنون الجميلة، وشمول نظريتهم إلى شتى مظاهر الجمال وأحواله ووسائل التعبير عنه، كانوا كثيراً ما يمزجون جميع ذلك في مقطوعة واحدة من شعر النسيب. فشلي يقول مثلاً: (إن رجع الألحان بعد خفوت الصوت يبقى مردداً في الأفئدة، ولنشر البنفسج بعد موته طيب في الأنوف، وأوراق الورد بعد ذبولها تنثر على فراش الحبيب، وكذلك ذكرياتك تظل بعد ذهابك ماثلة)، وكولردج في قصيدته (الحب) يصور موقفه مع حبيبته حيال تمثال فارس مدجج تستند إليه محبوبة الشاعر، ثم يمضي يقص حكاية غرام ذلك الفارس في سالف الدهر في أسلوب خيالي عذب، مازجا وصف عواطف الفارس بوصف عواطفه هو نفسه

وفي النسيب في العربية شيء من ذكر الطبيعة ولكنه ضئيل. وقد كانت الطبيعة على العموم مهضومة الجانب في الأدب العربي، كما مر ذكره في كلمة سابقة؛ ولم يخفق الأدب العربي في عصر من عصوره بمثل ذلك الحب الحار الذي خفق به للجمال الإنساني، في معالجته للوصف الطبيعي؛ إنما جرت عادة شعراء العربية على تحميل الرياح سلامهم، ودعاء الغيث إلى سقي منازل أحبابهم، ومناجاة الحمائم والتشاؤم بالغراب، وتشبيه لواعجهم بلواعج الإبل أو القطا لفقد صغارها وأُلافها، كما كانوا يغبطون الوحش الآمن في سربه المهنأ بألفه كما قال أبو صخر الهذلي:

لقد تركتْني أغبط الوحش أنْ أرى ... اليقين منها لا يروعهما الذعر

أما مناظر الطبيعة: أشجارها وأزهارها، والامتزاج الروحي بكل ذلك، فقليلة الأثر في الشعر العربي عامة وفي النسيب خاصة؛ فبينا نجد الشاعر الإنجليزي حين يتأنق في تصوير أقصى مناه يتصور نفسه ومحبو بته يجوسان بين الخمائل والغدران، نجد الشاعر العربي الذي تعود حياة المدينة واستمرأ معيشة الحضارة، لا يتصور اللقاء إلا في الدار، ولا يقابل حبيبته إلا في المجالس والمحافل والمآتم والحج، كما قال أبو حية النميري:

رمَتْه أنآه منَ ربيعة عامر ... نؤومُ الضحى في مأتم أي مأتم

وكما قال كثير:

ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسَّح بالأركان من هو ماسح

نقعنا قلوبا لأحاديث واشتقت ... بذاك نفوس منضجات قرائح

وكما قال ابن الرومي:

يا ليت شعري هل يبيت معانقي ... ويداي من دون الوشاح وشاحه؟

وقد يتفق النسيب العربي والنسيب الإنجليزي من بعض الوجوه: ففي كليهما استعار الشعراء أحياناً أسماء خيالية تكتماً وتعمية عند التحدث عن حبائبهم: ففي العربية فشت أسماء هند وليلى وسعاد مأخوذة عن العرب المتقدمين، وفي الإنجليزية استعملت أسماء جوليا وإلكترا وثيرزا منقولة عن الأدب الكلاسي؛ وفي كلا الأدبين اشتهر نفر من رجال الدين برقة النسيب والبصر بملابسات الحب: ففي الإنجليزية كتب دن وهربرت وسويفت وغيرهم قطعا من أصفى وأنقى ما كتب في النسيب، وفي العربية أثر عن عروة ابن أذينة الفقيه نسيب رائع اشهره أبياته التي مطلعها (إن التي زعمْت فؤادَك ملَّها)، وألف ابن حزم وهو فقيه من بيت فقهاء كتاب (طوق الحمامة) يفصل فيه أطوار الحب ونوازعه، ويبرهن على نظرياته بتجاريبه الخاصة

وقد تناول الأدبان شتى أغراض النسيب بين فارحها وحزينها، وبين الذكريات والآمال، وبين طرب اللقاء ولوعة الفراق، وبين التوجع لغدر الحبيب ولتفجع لوفاته؛ بل تتماثل في الأدبين معان كثيرة جدا من معاني النسيب: فقول الشاعر العربي: (أسرب القطا هل من يعير جناحه؟) له نظير في مقطوعة تنيسون (إلى الخطاف)، وقول كراشو: (وجه لم يصنع من دكان غير ذلك الذي تفتحه يد الطبيعة البيضاء على مصراعيه) شبيه بقول جميل: (إذا ابتدلت لم يزرها ترك زينة)، وقول تنيسون من قصيدته (مود): (لو كنت فانياً منذ قرن لسمع قلبي خطاها على رقتها، ودق وخفق تحت قدميها، وارتد زهراً احمر قانياً) يشبه قول توبة الحميري:

ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت ... عليَّ ودوني جندل وصفائح لسلمتُ تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح

واختص الأدب العربي بمواضيع احتفى بها وأدمن طرقها، وكان أكثرها وليد خصائص بيئته، وقلما التفت إليها الشاعر الإنجليزي: كالوقوف بالأطلال، ومناجاة الأطياف، ووصف نحول الجسم وذم المشيب الذي يقعد عن المتعات ويروع الغانيات، والشكوى من الواشي والرقيب والعذول؛ وهذا الأخير راجع إلى انتشار الحجاب وحظر الاختلاط بين الجنسين إلى حد بعد أو قرب في مختلف عصور العربية. وهو أمر جعل مسحة الحزن ولتفجع اظهر في النسيب العربي منها في الإنجليزي، إذ لا مانع في المجتمع الإنجليزي من الاختلاط، ولا رقيب سوى الخلق القوي؛ وكان الشريف الرضي عني هذه الحال في المجتمع الإنجليزي بقوله:

عفافيَ من دون التَّقيَّةِ زاجرُ ... وصَونكِ مِن دون الرقيب رقيب

يختلف النسيبان من هذه الوجوه، ويختلف أدباء كلا الأدبين بعض الاختلاف في النظر إلى الجمال، لاختلاف البيئتين وأثر ذلك في تكوين الجسم: فالأديب العربي في بيئته الحارة يشبب بالعيون الدعجاء والحوراء، والشعور السوداء الاثيثة، والجفون المريضة، والجسم الممتلئ ونؤوم الضحى، على حين يهم الشاعر الإنجليزي بالشعور الشقراء يشبهها بالثلج نقاءً، ويهوى زرق العيون وينفر من الحدق النجل؛ والأديب العربي يشبب بكاعب (بنت عشر وثلاث) كما قال بشار، ولا تكون مثل هذه في الجو الإنجليزي إلا طفلة غريرة؛ والشاعر الإنجليزي آخر من يعجب بصاحبة الشاعر العربي التي يصفها بقوله:

أبتِ الروادف والثديُّ لقمصها ... مسَّ البطون وأن تمس ظهورا

وإذا الرياح مع العشيَِ تناوحت ... نبهن حاسدة وهِجنَ غيورا

يختلف النسيبان من وجه آخر أهم كثيراً: ذلك أن النسيب كسائر فنون القول في الأدب العربي التزم طريقة التعبير المباشر، يعبر الشاعر عن إحساسه الفردي تعبيراً صريحاً ثم لا شان له بسواه، كما عبر جميل عن حبه لبثينة، وتوبة عن حبه لليلى؛ أما في الإنجليزية فيقوم بجانب هذا الضرب المباشر من التعبير ضرب غير مباشر، فيه يتحدث الشاعر عن شعور سواه بالجمال، ويصف جمال غير محبوبته، ومجال ذلك الروايات التمثيلية كروايات أنطوني وكليوباترا لشكسبير، والقصص كقصص وسكس لهاردي، ففي هذه وتلك يصور الأديب عواطف غيره ومواقفهم، مازجا ذلك بلا ريب بعواطفه ومواقفه، مسبغاً على إنشائه ثوباً رائعاً من الخيال

وفي العربية شيء من القصص أولع بتأليفه بعض المتأخرين من الكتاب كابي الفرج الببغاء؛ غير أنه بدائي سطحي مشوب بلوثة الترف والشهوة. وأحسن ما في العربية من وصف للحب وأطواره هو النسيب الشعري؛ فالشعر لموسيقاه واختيار ألفاظه وأخيلته خير معبر عن الشعور الفردي المباشر؛ فالشعر في العربية دون النثر هو المستأثر بالتعبير عن الحب؛ أما في الإنجليزية فللنثر نصيب من ذلك تزايد بانتشار الرواية التمثيلية وذيوع القصة، حتى ليكاد بفضل الأخيرة يغلب الشعر على مكانته من نفوس القراء، لما يستطيعه دون الشعر من التحليل المسهب الدقيق، والحركة المستمرة، والوصف المستوعب لدخائل النفوس وأطوار الحب. مواقف الغزل، حتى ليستطيع القصصي البارع أن يبكي قراءه ويمزج نفوسهم بنفوس أشخاص قصته، ويجعلهم يتمثلونهم أحياء ويذكرونهم مدى حياتهم كأنهم أصدقاء قدماء قد فقدوهم

ومن ثم نرى أن أعلام الغرام المذكورين في الأدب العربي، والذين تتخذ أسمائهم رموزاً للحب، وتضرب أمثالاً في الهيام، هم الأشخاص الحقيقيون الذين عاشوا وسجلوا قصة غرامهم بأنفسهم في أشعارهم وحدثتنا عنهم كتب الأدب؛ كعنترة وعبلة، وجميل وبثينة، وتوبة والأخيلية، وبن زيدون وولادة، على حين نرى في الإنجليزية أن أعلام الغرام الذين تضرب بهم الأمثال ويجري ذكرهم على الألسنة هم الأشخاص الخياليون الذين اخترعتهم مخيلة الأدباء، مثل روميو وجوليت، وعطيل وديدمونة، وأوفيليا وهملت، نعرف كل أولئك وهم من ابتداع شكسبير، ولا نعرف إلا الشيء القليل الغير المستيقن عن محبوبته (الحسناء السمراء) ولم ينفرد القصصيون بذلك الابتداع وذلك التعبير المباشر عن مظاهر الحب، بل جاراهم الشعراء: فمعظم شعراء الإنجليزية الذين تناولوا الحب في شعرهم تغنوا بالجمال الإنساني على إطلاقه، ولجئوا إلى الخرافات اليونانية أو أساطير عهد الفروسية، ينتخبون منها من وقائع الغرام بين بواسل الأبطال وفاتنات ربات الحجال ما يصوغونه شعراً سلساً، يضفون عليه ثوبا رقيقاً من الخيال، ويودعونه شغفهم المطلق بالجمال غير مقصور على امرأة واحدة، ولا على الوجه الإنساني، بل شاملاً لمحاسن الطبيعة أيضاً ولهذا الضرب من الشعر النسيبي مزايا جمة: ففيه إمتاع للخيال وإثارة للطرب، وإشباع لحب الجمال على إطلاقه؛ وهو منزه عن الغرض الشخصي وعن ريبة الشهوات تنزيهاً تاما؛ وهو يجعل من الحب والجمال والبطولة والمرأة مثلا عليا تهفو إليها النفوس، ويمنح المؤلف والقارئ معاً جواً من النقاء والسمو كثيراً ما يعوزنا في الحياة الواقعة، وفي ذلك عزاء للنفس عن نقائص الواقع المجرد وأوشاب الحياة التي قلما تتعلق بالكمال

فالأدبان العربي والإنكليزي فرسا رهان في مضمار النسيب، قد وعيا من آثاره سجلاً حافلاً يصور فتنة النفس الإنسانية بالجمال الإنساني؛ يتمثل ذلك في العربية في بعض شعر الجاهلية، وبالأخص في شعر العصر الاموي، وبذلك النسيب الأموي يعتز الأدب العربي ويفاخر أول ما يفاخر، لصدق ما فيه من شعور يعوز شعر العصور التالية، ونبل ما فيه من غرض يباين غرض أشعار المديح والهجاء، وجزالة ماله من أسلوب يزدري أسلوب الصناعة والمحسنات التي داخلت الشعر بعده، وذلك الأدب النسيبي لم ينل حقه من التقدير والاهتمام بعد، وأولئك الشعراء الناسبون لم يتبوءوا مكانهم الجدير بهم في الأدب العربي

فخري أبو السعود

مجلة الرسالة - العدد 185
بتاريخ: 18 - 01 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى