نجيب محفوظ - الزيف

كان التياترو مكتظا حين تمثل رواية البخيل لمولر، وكان جمهوره كالمعتاد، خليطا من طلاب التسلية ومحبي الظهور ومدعي الفن وعشاق الخيال، كان على أفندي، المترجم بوزارة الزراعة بين الجالسين، وعندما علم من إحدى المجلات عن موعد العرض، ذهب آخذًا في اعتباره أنها ستكون أيه من آيات الكوميديا، لكنه خُذل، فأخذ يتابع العرض بين اليقظة والنوم، لكن تشاء الأقدار أن يكون العرض مدخلا لآخر أكبر، فإذا هو بين الجالسين، جاءه النادل في وقت الاستراحة طالبا منه الذهاب لبنوار رقم واحد.

ذهب فرأى الستار مسدلا فعلم أن هناك نساء، طرق الباب فسمع صوت امرأة تأذن له بالدخول، فتردد لحظة ثم عاد؛ لأنه من الرجال الذين تغلبهم في حضرة النساء جسارة غير محدودة وحب للمجازفة وثقة بالنفس..، اقتحم المكان فإذا امرأة في سن الأربعين ناضجة الأنوثة، يزين وجهها حسنُ تركي ممصر، تدل على طبقتها العالية، بهره حسنها لكنه كان آسفا لأنه ظن أن في الأمر خطأ وسرعان ما ينتهي اللقاء، فكان الأمر غير ما ظن، ثم قالت له باسمة: أرجوك ألا يسوءك إقلاقي لراحاتك.. أنا أرملة المغفور له على باشا عاصم.

أسعده الكلام، لكنه كان قلقًا؛ فما الذي تريده منه امرأة مثل هذه، ثم أخذه الغرور لعلها أُعجبت به، ثم رد قائلاً: العفو يا صاحبة السعادة.. خادمك، وهم بتعريف نفسه، لكنها بادرته قائلة: وهل انت في حاجة إلى التعريف يا أستاذ.. تفضل، فجلس، لكنه ندم على أنه لم يقدم نفسه لأنه كأي إنسان لحاجة إلى تعريف وبدأت تتقاذفه الشكوك، ماذا تعني السيدة بهذا القول؟ هل تظن بأنه شاعر مصري أكبر الأستاذ محمود نور الدين، فإن الشبه الكبير بينهما جعل أصحابه ينكتون عليه كثيرا، ولو صدق ظنه، فالسيدة إذا لم تر الشاعر إلا في إحدى صورة التي تظهر في المجلات والصحف.

قالت السيدة: معرفتي بك قديمة جدا لا كما تظن، وأفضالك على روحي لا تقدر بثمن، وطالما منيت نفسي بالحديث إليك.. فقال علي أفندي وقلبه يلعن الشاعر ما أسعدني بعطفك يا سيدتي إننا معشر الشعراء نحرق أرواحنا في سبيل الخلود والشهرة، ومثل إعجابك يا سيدتي أثمن من الخلود والشهرة…

أعجبت بالقول ثم قالت: هل أعجبتك الرواية؟

الرواية التي صدعت رأسه وفر منها للنعاس!!

قال عندما رأى إعجابها بالرواية: البخيل آية فنية رائعة وهي من الآيات التي لا تمنحك كنوزها مرة واحدة.

انتهت الاستراحة فطلبت منه أن يأتي إلى قصرها، واتفقا على يوم الأربعاء الساعة السابعة مساء، شارع خماروية رقم 10 بالزمالك.

تنهدت المرأة بعد ذهابه وظنت أن الأقدار ما زالت معها وستحقق ما ترنو إليه، فقد تزوجت من رجل عظيم ثم كفاها الموت شر شيخوخته، فترك لها مالا واسما، لكن ما يؤرقها تلك المنافسة لها التي ظهرت معها على الساحة وهي أرملة الدكتور إبراهيم باشا رشدي، التي لها ما لها من الجمال وتحمل ما تحمله من وجاهة واسم، فكل امرأة منهم تنافس الأخري حتى يذاع صيتها، من خلال اقتناء السيارات باهظة الثمن وإقامة الجمعيات النسائية، غير أن أرملة إبراهيم باشا سبقت نظيرتها بأن تعرفت على الموسيقار الكبير الشربيني، وأصبح الدور المعروف “حبيت قلبي” الذي يتغنى به الناس لُحن من وحي جمالها من ثم بدأت أرملة عاصم باشا في البحث عن شخصية مشهورة كي تتعادل مع غريمتها فلم تر ندا للشربيني غير الشاعر الكبير محمد نور الدين فهو الذي يستطيع أن يخلدها في قصيدة كما فعل الموسيقار.

أما علي أفندي، فقد عاد إلى مقعده يتفقد الحضور مخافة وجود الشاعر الحقيقي ولما عاد بدأ يأهل نفسه ليتقمص شخص الشاعر وهو الذي ما أحب الشعر يوما، ذهب إلى مكتبة فاشترى جُل أعمال الشاعر وبدأ في قراءتها، لكنه سُرعان ما ضاق بها فتركها.

في الموعد، ذهب للقصر يُظهر لها حبا وهو يطمع في جسدها، وتظهر له مودة وهي تطمع في قصيدة تساويها مع غريمتها، نال هو ما أراد وهي بدأت في نشر صداقتها به على أساس أنه الشاعر، وبعد يومين ذهب علي أفندي للمعرض الرابع عشر للفنون مع مدعي الفن ومُحب الظهور، وأوقفه القدر أمام صورة لفلاحة عارية تستحم في النيل وهنا رأته صاحبته حرم عاصم باشا ومعها جماعة من الأرستقراطيات فقالت لهن: إئذن لي أن أقدم لكن صديقي الشاعر محمد نور الدين، فأبتسمن إلا واحدة نظرت له ولها، ثم قالت: يا لها من نكته بارعة يا سيدتي، الآن صدق من قال: يخلق من الشبه أربعين، ما أعظم الشبه بينه وبين الشاعر! فقالت الأرملة: تكلم يا أستاذ أني لا أهزل.

فقال علي أفندي: معذرة يا سيدتي يخلق من الشبه أربعين.

فسألته: ألست الشاعر؟

فقال: كلا يا سيدتي.. أنا موظف بوزارة الزراعة.

ـ ألم تقابلني قبل الآن؟

ـ لم يحصل لي الشرف يا سيدتي.

ثم انطلق علي أفندي خارج المعرض منفجرا بالضحك، غير أن الأمر لا يخلو من الأسف فقد كان هناك موعد آخر بينهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى