على حزين - عم بخيت والسمك الكبير

عم بخيت , في العقد الخامس من عمره .. نحيف العود .. لا بالطويل البائن .. ولا بالقصير .. يرتدي جلباباً بلدياً .. فضفاضاً صافية بلون السماء .. وطاقيته فوق رأسه .. وشاله علي كتفه دائماً هاشاً , باشاً .. في وجه الناس جميعاً .. سهلاً .. سمحاً.. مرحاً .. بسيطاً , عشرى ومتواضع جداً .. أهلي , ومنفتح على الآخرين .. ولا يعرف الهم ..أو الحزن طريقاً له هكذا عهدته .. وهذا هو الانطباع الذي يتركه ..من أول وهلة .. في نفس من يراه .. ومن يدنو منه .. ومن يكلمه يشعر..وكأنه يعرفه من زمن بعيد .. ما من مرة ذهبت فيها للإدارة التي بجوار المحطة .. إلا ووجدته يضحك مع الكبير , والصغير .. والرئيس , والمرؤوس.. فهو يحب الضحك والانبساط .. وربما تعداهما إلى اللهو البرىء.. والهزار مع الموظفين الذين يحسدونه على ذالك.. ويعدونه ترفيهاً .. وترويحاً عن النفس..ليخفف عنهم ساعات العمل الطويلة..
"عمله في الإدارة فراش.. وقائم بالكانتين (البوفيه) .. ليس هذا فحسب.. بل له في كل شئ .. دفاتر.. تحضير .. ورق الإجازات المأموريات .. الخ .."..
شاطر جدا.. وشهم .. وابن بلد .. فهلوي .. قدمه هي أول رجل تدب ــ كل صباح ــ في الإدارة .. يفتح .. ينظف المكاتب .. يكنس .. يمسح .. ثم يجلس بعدما يكون قد وضع غلاية الماء علي النار.. يستقبل الموظفين.. بابتسامته المعهوده .. التي لاتغيب عن وجهه البشوش أبداً .. بنظراته الممعنة .. الفاحصة .. يتفقدهم .. ومن لم يحضر يسأل عنه .. وإذا رأى أحداً .. مهتما أو محزوناً .. أو حتى صامت .. لا يدعه .. يصمت.. بروح الدعابة .. والمرح.. يكلمه حتى يضحك ..
ــ ما لك .. المرأة ضربتك النهاردة ولا إيه ؟؟!.
ينظر اليه .. مبتسم في وجهه.. وربما ألقي له بكل ما يحمله في جوفه .. من هموم الحياة ونغصها .. ويفضفض له عن مشاكله التي لا تنتهي إلا بانتهاء العالم .. ينهض عم بخيت ليعد الشاي .. وهو يلوح بيده.. وفي وجهه ابتسامته الجميلة .. وهو يردد :
ــ ملعون أبو الدنيا.. ولا يهمك ..روق واشرب الشاي .. مافيش حد واخد منها حاجه!
وعندما يكون الزحام على أشده في أخر الشهر.. والكل منهمك ومشغول بقبض راتبه تراه .. لا يكف عن التصفيق .. وتعليقاته اللازعة .. ومشاكسته الطريفة تسمعه بين الفينه والفينه .. يرفع عقيرة صوته بكلمه واحده .. والتي تكاد تكون شعاره له.. أو من إختراعه .. والكل يحفظها عن ظهر قلب ..
ــ أوعى السمك الصاحي .. السمك الكبير ..!!!.
عم بخيت .. رجل مزارع .. فلاح معه أرض .. يقوم على زراعتها .. بعد إنتهاء ساعات العمل الرسمية .. أحياناً أراه يحمل فأسه خلف دراجته .. والمقطف .. وهو يغني فوق الجسر الحربي .. بصوت يسمعه من يمر بجواره :
ـــ :" يا بحر يا أبو البحور موجك لعب بي .. عشمتني بالسمك ونزلته الميه ... دوبني موجك ليه ليه .. على البحر ورماني .. واللي بدور عليه .. سايبني وحداني " ذات مره .. ذهبت إليه لآخذ راتبي الشهري .. فقد كلفته أن يأخذه من الصراف .. فهو محل ثقة من الجميع .. فأرشدتني زوجته القديمة علي مكانه في الحقل .. ( يقال بأنه تزوج بامرأة أخرى لتنجب له الولد .. وهي حامل في شهورها الآولى ) ..فذهبت اليه في الحقل .. فرأيته مترباً , وعفارت التبن تملأه.. وهو يدرس القمح .. وقفت للحظة فوق رأسه .. وهو لا يشعر بوجودي .. مرتدياً سرواله الطويل الآبيض .. والسديري فوق فانلته الصوف , قد امتلأت بزرات التبن .. والطاقية على رأسه .. والعمامة مفرودة على كتفيه .. أعطيته صوتي لينتبه اليّ
ـــ يا عم بخيت ..؟!
التفت نحوي .. وإبتسامته المعتادة .. تعلو وجهه .. مندهشاً
ــ أهلاً يا شيخ (.. .. .. ).
نهض ينفض يديه في سرواله والسديرى .. سلم علي ورحب .. وفوق سور الحقل جلسنا نتحدث .. تضحكنا سوياً برهة .. ثم أخذت راتبي .. وشكرته .. وانصرفت ..
عم بخيت..رجل عجيب .. لديه قدره فائقة .. في حفظ ما يقرب من عشرة ألاف عامل يأتون إلي الإدارة.. من كل بلاد الله .. وبديهته حاضره دائماً.. ذكائه متوقد.. وفطرته سليمة .. الكل يحبه .. فهو شهم .. وإبن نكته .. خفيف الظل .. والدم .. أذكر مره في بداية تعييني .. ذهبت إلي الإدارة القديمة .. فلما رآني .. أخذ يكلمني .. ويضحكني .. وكأنه يعرفني من زمن فات .. رفع الكلفة .. وتخطى الحدود , والرسميات .. ولآني كنت لا أعرفه بعد .. غضبت .. وثرت في وجهه .. فتركني وانصرف .. دون أن ينبت ببنت شفه .. غير إنه أخذ يضحك .. وهو يضرب كف بكف .. فعجبت لصنيعه .. ودهشت لما حدث .. فسألت عنه .. فأوقفوني علي حاله .. فرأيتني أتقرب منه .. كلما جئت إلي الإدارة .. لآكلمه .. وأمازحه.. بعدما تأسفت له .. علي ما بدر مني وقلت له :..
ــ إللي ما يعرفك يجهلك يا عم بخيت ...؟1
ومن حينها صرنا أصدقاء .. وأصبحت واحداً من الذين يحفظ إسمهم جيداً.. ويضحك معهم .. والذين إذا ما قابلوه في الشارع .. يسألوه عن السمك , وأخباره .. وهل هو كبير , ولا صغير .. وهذا الرمز يعد من إبتكاره .. للرواتب .. والبدلات .. التي نتقاضها..والتي لا يعلمه إلا كل من ذهب إلي الإدارة .. ليقبض راتبه الشهري وسمع عم بخيت .. وهو يرفع صوته في تصفيق حاد
ــ أوعي السمك الصاحي .. .. السمك الكبير ..؟؟!
" فالسمك الكبير يعني الراتب .. واما السمك الصغير فيعني بها البدلات "
البارحة ذهبت إلى الإدارة الجديدة.. لآقدم بيان حالة.. وأقبض البدلات المستحقه ليّ .. لمحته .. وهو يدخل الإدارة .. وبيده ورقة شاي كبيرة .. فناديت عليه .. لآسأله عن أخبار السمك .. فالتفت بوجهه ضاحكاً .. وقال بصوت عالٍ :
ــ يا مسهل .. لسه ما فيش حاجه جاتت حتى ألان ..!
تجاوزنا السلم سوياً .. ومكتب الصراف .. ثم جلست علي احد المكاتب .. في الغرفة المتاخمة لمكتب الصراف , الذي لم يأتي بعد , والساعة تخطت العاشرة صباحاً .. لاحظته وهو يضع الشاي فوق النار .. وهو ينشد لـــ "ياسين التهامي " فهو متيم به .. وبقصائد المدح , والذكر .. وكان يتمايل برأسه يمنيناً .. وشمالاً مصفقاً بيديه السمراوين تارة .. واخرى يطوح بهما في الهواء .. وكأنه في حضرة .. أو حلقة ذكر
ــ يامدد يامدد يامدد .. يا عم يا فرغل يا مدد .. يا سيدى أبا العالمين المدد ..
وهو في حالة وجد , وهيام تام .. فأخذت أضحك في سري .. وأنا متجاهله تماماً .. لكني كنت اتابعه بأذني , وعيني احياناً .. حتى يستمر في الأنشاد إلى أخر ألقصيدة فجأة توقف عن الغناء , والتصفيق , والمدح .. وقد إلتفت إلىّ زاغراً .. بنبرةٍ حادةٍ .. وهو يصب الشاي في الآكواب , الزجاجية التي امامه.. وقد أبتسم في وجهي
ــ ما دام مش قد الحاجة بتعملوها ليه ....؟!!!
فهمت قصده .. واكتفيت برد الأبتسامة عليه .. واسترخيت علي المقعد .. ووضعت يدي علي خدي .. واخذت افكر فيما سأفعلة بعدما اعود الي المنزل .. وراحت عيناي تستسلم لتعسيلة مفاجأةٍ .. فالمروحة فوق راسي .. والجو حار.. وكنت متعباً.. ومرهق
ــ انت هتنام هنا ولا إيه !!
ــ أصلي المكان بعيد يا عم بخيت .. والدنيا شمس .. والواحد منا ما بيصدق يجي ..!
هز رأسه,وهو يعبر الممر..متبختراً في مشيته.. ليقدم الشاي للموظفين الذين حضروا وهو يقول بصوته الجهوري .. المتميز بالكنة الصعيدية ..
ـــ هات بطانية للشيخ يا ولد ... !
وعندما جاء الصراف .. أخذت مستحقاتي المالية.. وانصرفت تاركاً الإدارة خلفي .. وعم بخيت.. منهمكاً في قصائده التي يحفظها عن ظهر قلب .. والمدح .. وإعداد الشاي .. فأشرت إليه بيدي ــ مبتسماً ـ أن سلام ــ فأشار هو بيده فوق رأسه ـ مبتسماً ــ أن سلام ــ


علي حزين.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى