فاتن الجابري - لكل قبر زهرة

في أول يوم عمل له تبددت حالة الاكتئاب التي عاشها منذ ثلاثة أيام حين استلم أمر تعينه من دائرة العمل عاملاً للتنظيف في حديقة المقبرة بأجر يورو واحد للساعة الواحدة ، مضافاً لراتب الإعانة الاجتماعية الذي يتلقاه ، منذ قدومه إلى المانيا لاجئاً سياسياً مطارداً ومهدداً في بلده الذي غادره غارقاً بالموت ، فتحت له البوابة الكبيرة للمقبرة التي تزدحم وتتشابك فيها أشجار السرو والصنوبر العاليات وعلى جوانب السور الداخلي تجتذب بصره تلك الشجيرات الصغيرات لأنواع محتلفة من الورود الملونة ، سار على البلاطات الملونة للشارع الذي يشطر المقبرة الى شطرين تصطف على الجانبين بانتظام القبور ذات الشواهد المرمرية اللامعة والمصقولة ، حمل جردلاً وقطعة من القماش وعصا طويلة يلتقط فيها الأوراق اليابسة المتساقطة من الأشجار ، انتهت ساعات عمله الخمسة عند الغروب ، وضع عدة العمل في المخزن المخصص ، وحث الخطى قبل حلول الظلام داخل المقبرة ، لكنه توقف حين رأى ما أثار استغرابه وفضوله ، شاهدها تسير بين القبور بمعطفها الأسود الطويل وقبعتها الصوفية تحمل زهرة وتنحني على أحد القبور،وضعت زهرتها وسمعها تردد كلمات بصوت لا يسمعه سواها ، أقفلت عائدة بذات السرعة التي قدمت فيها ، ثم تقود سيارتها بسرعة فائقة كأنها تخشى أن يتبعها أحد، يتكرر المشهد كل يوم زهرة حمراء على ذات القبر و امرأة ذات جمال باهر تأتي مثل ومضة حلم ، يمسح الغبار عن شاهدة قبر لرجل في ريعان الشباب ، كما دونت ساعة وفاته ، صار ينتظر قدوم تلك الفاتنة بفارغ صبر ، يختبئ خلف الأشجار الكثيفة حتى تنتهي من طقسها اليومي ،استحوذت على تفكيره حتى في أيام راحته ، عطلة نهاية الأسبوع أطبقت عليه بالملل واللاجدوى ، أعادته إلى مراراته وهزائمه القديمة يعتصره ألم اغترابه وحيداً وسط وحشة القبور ، في الأيام التالية انقطعت المرأة ذبلت ويبست كل زهورها أزاحها ونظف شاهدة القبر ، و استل زهرة حمراء كزهورها من باقة يانعة على قبر مجاور وضعها بذات المكان بأتجاه رأس الميت ربما تأتي عند الغروب ، لكنها لم تر ما يفعله لأجلها حين يضع زهرتها القرمزية وتحرقه ساعات انتظارها ، يستل الزهور من الباقات على بعض القبور ويوزعها على قبور أخرى يلفها الأهمال والنسيان ربما لآباء وأمهات لم يتذكرهم الأبناء ولو بزهرة واحدة ذات عيد رويداً شحب ظل المرأة في ذهنه ربما تنعم الساعة بأحضان رجل جديد أنساها ذلك الحبيب الذي كانت تهمس له كلمات الحب وتطبع على ذكراه زهرة حمراء ، لم ينتبه لدخولها حاملة زهرتها ، فقد هزل جسدها وشحبت بشرتها تتلفع بشال صوفي تنقل خطواتها ببطء شديد ، رمت زهرتها تمتمت بذات الكلمات وعدته أنها قادمة اليه ، ولم تنتبه إلى الزهور الذابلة التي كان يرميها مستغرقاً في انتظار بهجة حضورها.
تتوالى الشكاوى ضده إلى إدارة المقبرة بتهمة العبث بباقات الزهور وسرقتها ، لم يدافع عن نفسه لاعتقاده أنه كان يحقق عدالة تسعد موتى منسين ، فلم لا تكون لكل قبر زهرة ، مرة أخرى تلقيه حماقة أفكاره المجنونة عاطلاً عن العمل متسكعاً في دروب الغربة الباردة .



* من مجموعة سرير البنفسج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى