منير العبيدي - حائك الدسائس العجوز

يتوفر دائما على صواميل، كماشاتٍ، مسامير، مفكات و قطع غيار، جديدة و مستعملة، لتصنيع شعراء، رسامين، صحفيين و كتاب، أو إصلاح ما عطب منهم في ورش متخصصة. العطب الأكثر حدوثا هو خلل في البوصلة و فقدان الاتجاه، ما يستدعي إدخالا فوريا لقسم بالطوارئ. كل هذا رغم انه هو من صنعهم على صورته و نفخ فيهم من روحه فقال للواحد منهم: أشعِر فأشعر، ارسم فرسم، غنِّ فغنى، موِسق فموسق، عندها يعبئ كل شيء له و يدعمه و يرعاه و يلمّع صورته أمام الخلق و يجعل له أتباعا و مريدين، هم في الحقيقة أتباعُه هو و مريدوه هو إنما جواسيسٌ له عليه و ناقلون إليه انحرافاته، انه لا يطيق مجدا لغيره، من يحز مجدا يحيله إليه كما يصب النهر في البحر. إذا استقام كما أُمر جعلَه من خاصته و من خلصائه. النافرون من الصورة أعداؤه الممقتون، لا يسلمون من سطوته، ينسج حولهم خيوطه الدقيقة المتينة حتى لا يسطيعون حراكا، تقوست يداه نحو مركز البطن و نمت له و استدقت بسبب طول الخدمة و الاستجابة الخلاقة أيادٍ أخرى كثيرة كساها قوام شوكي مستجيب لمتطلبات النسج... كلما أوغل في القدم وهَنَ و كُبر و تآكل، فترك أجزاءَ من جسده على العديد من المقاعد التي جلس عليها و زوايا الأماكن التي ارتادها: بقايا مؤخرة، عُصعوصا أو جزءا من ظهر، على أنه بقي متقدَ الذهن لا يكل و لا يمل طالما تعلق الأمر بأسر خصومه، تحييدهم أو، إذا ما بقوا عليه من عنت، تحطيمهم. يداه استدقتا أكثر و ازداد، رغم وهنه، مهارةً في النسج. يزور بانتظام و بطقوس خاصة بيت العنكبوت الأب، معلمِه و أبيه الروحي حيث الضحايا شعراء و رسامون تقطعت بهم سبل الحياة و انسدت دونهم المخارج بعد أن حادوا عن الطاعة فأوقعهم في حبائله و استحقوا غضبه. يجدهم عالقين في شباكه الحريرية فيصيبه الحبور، و حين هو يدفع الباب الفولاذي السميك حيث تنفر من سطحه صورةٌ بارزة لعنكبوت فولاذي صممه و صبه و ثبته عليها واحدٌ من خيرة أتباعه، يجد العنكبوت الأبَ قابعا مستكينا في الظلمة. يشعر العنكبوت الأبُ به حتى دون يراه، يشعر بغمرٍ من المحبة فيتوهج جسده بلون ارجواني نابض تعبيرا عن العشق و الوله و الإسناد بينما يتحول اللون عند أطرافه المستدقة إلى الوردي الساطع فتومض قبل الشروع بالعمل دلالةً على استعدادٍ و شهية و إرادة، فتشف عما فيها من دواخل و تُشاهد عندها العروق و سريان الدم و تدفق الأمصال و الدفق المتناوب لعمل القلب فيما يوفر له الأبُ العنكبوت دائما ضحيةً طازجة تكون بعد أن يتذوقها بنشوة جاهزةً للدرس القادم حين يجد أن هناك دائما ما علق بالشبكة من بقايا أجساد تفسخت لخارجين عن السرب و متمردين و عصاة من فنانين و شعراء و كتاب و أناس عاديين، أكل العنكبوت جزءا من أجسادهم و اطعم منها أتباعا له.... فيما يقع على الجانب الآخر من بيت العنكبوت الأب مصنعٌ متخصص بالأمجاد الزائفة و لكن فقط لأولئك الذين ضُمِن ولاؤهم النهائي حيث يمنح المجد لمن لا رجوع في ولائه ببراهين ثابتة تجليها:
أما أقصى دلالات الولاء المطلق. و قد وضع لذلك جهاز اختبار حساس يوضع على الجبهة يتلون بحسب درجات الولاء، أو
الموت....
فالموتى لا يخونون و لا يتراجعون
و في هذين الخيارين اختلف معه معاونوه، فلا مطلق في الولاء إلا بالاقتران بمطلق الموت كما يجادلون: "حتى أن لك أن تشك في ولائنا نحن" قالوا ثم حاصروه بما يفيد: "اجعل المجد بالميت فقط فالأحياء لا أمان لهم!". لكنهم لم يتركوا المشكوك في ولاءهم لتقييم التاريخ و ربما لمجد كامنٍ سيسفر عن نفسه لاحقا، فأثاروا حماس و إعجاب الحائك الأكبر بما قاموا به فيما وجد أنهم تجاوزوه في التفاصيل، فسرقوا جثث الشعراء و الكتاب من غير الموالين من بين أحبتهم و أهاليهم الناحبين و أطفالهم المتشبثين و نسبوا خلقهم للأب العنكبوت و للناسج العجوز صانع الدسائس الكبير و أنكروا أن يكون الميتُ ابناً لأبيه و أبا لأبنائه و نفوا عنه العمومة و الخئولة و جعلوه منقطعا إلا عنهم فجعلوا من أنفسهم صانعيه، و محوا الذاكرة السابقة و أشاعوا أنه لم يلد و لم يولد. قدسيةُ الميت لديهم انه الوحيد الذي لا يمكن أن يتراجع عن مسببات مجده الذي صنّعوه له، إذ غالبا ما ينسى المحسن إليه أن مجده ملفق و يصدق كذبة تفوقه و مجده و يشتم المحسنين إليه، فكان شعارهم: "لا يكون مواليا إلا الذي يموت و هو موالٍ"، فأقاموا الفواتح و مجالس العزاء لموالين أو خارجين عن السرب تم اختطافهم و إعادة كتابة ماضيهم لدى متخصصين درسوا انتحال الشعر و تزييف التاريخ و أعادة كتابته.
يتعهد قسم إعادة كتابة الماضي للشعراء و الفنانين المختطفين ببناء مجد عن الشاعر و الرسام و المغني الراحل يعمل فيه مقلدون ماهرون جُعلوا يتخلون عن طموحهم الشخصي بأن يكونوا هم أنفسهم شعراء أو رسامين أو موسيقيين ( و في هذا تضحية و إيثار منقطع النظير) من اجل إعلاء كلمة الناسج الأقدم المخول الوحيد بدخول بيت العنكبوت الأب، فادخلوا الشعراء في ورش لإعادة التأهيل حيث يسرق الشاعر من مقاصده و تُصنع له مقاصد غير قابلة للتأويل تسير به للولاء المطلق. و في الخارج يهرج جمهور من الرعاع غُذّي طويلا على الجهل لمقالات تدبيج مديح لصانعي الإطراء المحترفين الذي أطلق عليهم اسم "نقاد" بعد أن وظفوا الكثير من حوشي الكلام و غريبة، يهدف إلى التعمية و خلق إيهام جمعي لدى عامة الناس بأن ما لا تفهمه يتفوق على قدرتك و انه صادر من مخلوق خارق التفوق من العبث تحليل أفكاره و محاولة فهم مقاصده، و ذلك لتصعيد وهم العظمة لدى عامة الناس من الغوغاء بحكمة العنكبوت الأب و الناسج الأقدم بصواب النهج و عظمة المقصد و بلاغة الشعر و جمال الرسم و متانة الرواية.
فتوفرت برامج لتركيب عبارات إطراء و مترادفاتٍ مستلة من سياقات أخرى و نصوص نقدية فككت في ورش خزن و ترفيف كمواد احتياطية حيث تتوفر أدراج ذات أرقام تشير إلى طبيعة المخزون، حيث ما تلبث أن تحور بعد أن يستأصل منها أي ملمح من احتمالات سوء التأويل أو الانتقاص من المسلمات الثابتة و القواعد النظيفة في جعل خالق النتاج متواضعا للناس خادما لهم واضعا ما يشاءون سماعة مستبعدا ما لا يرغبون و ممجدا للناسج الأقدم، فيما جرى في مصانع خاصة إنتاج مرشحات نصوص و قصائد و لوحات و أغان و قطع موسيقية بعد أن جري حدلها لإسقاط كل ما هو غير رسمي و مقرر في خطوط الإبداع المسموح بها ، فينفذ ساقطا عبر منخل كبير و دقيق الفتحات و في حاويات خاصة كل ما يتعلق بالتجديد و التحديث و الشكلية و الأسلوبية و البنيوية و التفكيكية لصالح الكونية العنكبوتية، و نتاجات تعبوية لتمجيد العنكبوت الأب و الناسج الأقدم و يجري إتلاف كميات هائلة بشكل يومي لكل ما هو منحرف عن الصراط. و يجري أحيانا صهر نتاجات كثيرة و إعادة صبها في قوالب ملائمة حسب مقاييس تتلاءم و الأحجام أو المناسبات مع تحويرات تجعل منها صالحة لاستعمالات أخرى اقتصادا في النفقات و حرصا على الثروة العامة.
أما في ورش التصنيع التي تقع في آخر الرواق على يسار المدخل القدسي للعنكبوت الأب فتقع ورشة إعادة تجميع أجزاء لمنتجين آخرين جدد تماما من أجزاء احتفُظ بها بعد الإفناء و الاستئصال، فيجري إنتاج و تصنيع كتاب و فنانين من أجزاء متباينة فيما توفر المكان على رفوف فيها أجزاء من أجساد جرى ترقيمها لرؤوس و أكباد و عقول و أيادٍ و عيون و حتى لأعضاء ذكرية و أنثوية لإنتاج القادم من المنشدين الموحدين المنصاعين.
قُسّمت شعبة الردع إلى قسمين بعد إن أضيف لها قسم خاص بالردع الناعم حيث تخصص ماهرون من جيل جديد تحت إشراف الناسج الأقدم بالمحاربة و الاحتواء لمواجهة تفاقم الاحتجاجات و تطوير وسائل الاحتواء و اتفق سريا على رموز كتابية تتضمن التجاهل، التأديب، المحاربة في الرزق و صولا إلى التصفية الجسدية توضع في سياقات عادية من السرد و يفهمها فقط المتخصصون في شؤون الردع و هو الخيار الذي حاول الناسج الأقدم تلافيه قدر المستطاع و لكنه لم يتورع عن اللجوء إليه حتى لو تأسف على الضحية. و قد أشاد معاونوه بموضوعيته فلم يكن القتل انتقاما شخصيا من المغدور إنما إقصاء اضطراريا صير إليه كحل نهائي من اجل مصلحة الجماعة و راقب المساعدون باحترام متناهٍ دموع الناسج الأقدم التي ذرفها على ضحاياه الذين تذرع إليهم بصدق قبل تنفيذ أحكام الإعدام أن يتفهموا المصلحة العامة في هذا إبادتهم بأن يقوموا بأداء نشيد، لم يكن اختياريا، يشيدون فيه بموتهم من اجل المصلحة العامة بعدما وعدهم الناسج الأقدم ناطقا باسم العنكبوت الأب، بأنه سيقوم بتخصيص راتب تقاعدي لعائلاتهم و انه سيقوم بقبول أبناءهم في الجامعات استثناء من شرط المعدل و سيسجل الأبناء كمناضلين تخصص لهم رواتب مجزية بعد أن يبلغوا سن الرشد، بعد أن توافق العائلة على التوقيع على أوراق تثبت أن ربها المعدوم قد مات بمرض عضال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى