راشد يسلم - العشاء الأخير !

ما زلت متماهيا مع صمتك .. مسكون باللاجدوي ، مليئ بالفقد كلحن مزمار في مساءات الشتاء القاسية ، تعبرك الأيام المتشابهة كوجوه شرق آسيوية ، تقامر التقاويم بآخر ما تملك من دهشة وعند المساء – لفرط ترفك – تخلو بالبحر لتعلمه كيف يكون مستمعا جيدا لمن أراد أن يبث همومه !؟ أو أن يكون حنونا وهو يغسل آثار أقدام العاشقين عن عتبة شاطئه ، أو أن يعلم فراشاته ذات الزعانف المالحة معني القيلولة !؟
في السبعين ستفكر إن كانت هنالك حقاً حياة آخري تنتظر الطيبين أمثالك ، أولئك الذين قضوا ما مضى من وقت وهم يقطعون الشجر اليابس الذي نما في الإنحاء الأليفة ، وستتذكر أنه ما كان عليك أن تكبر هكذا وأنت لم تفعل ما كان يجب أن تفعله .. تلك المخاوف التي كانت تعوقك آن ذاك ستبدو تافهة اليوم وأنت تجلس هنا وحدك كمزهرية أسقطها طفل صغير من علي الطاولة ، فقررت أمه أنها لم تعد تصلح ودفنتها في ” عُلية ” النسيان ، وهذا الطفل ذو الثلاث سنوات هو حفيد جارتك التي كان يجب أن تحبها لولا إرتعاشة يدك حينما كنت بحاجة ﻷن تلقي أمامها بخطاب غرامك الأول ولولا تأتأة الحروف داخل فمك حينما كان من المفترض أن تقول لها .. أحبك
بربك ماذا كان سيحدث لونك دسست الكلمة في قلبها ؟ صدقني كنت ستكون أقل حزنا اليوم ، وكنت ستكفي نفسك عنت مئات اللوحات التي رسمتها فيها بكل أحوالها .. مقبلة كالريح .. مدبرة كما الفرح .. متمنعة كباب موارب .. مانحة كأم عطوف ، تلك اللوحات التي صارت بمرور الوقت ثقوبا سوداء تتسرب منها روحك شيئا فشيئا ، فقد كنت مؤمنا تماما بما قاله بيكاسو : ” الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات ” .. كم كنت رساما فاشلا بقدر ما كنت عاشقاً عظيماً
غريبة هذه الحياة بسخريتها من سذاجتنا وتضخيمنا لذواتنا المعطوبة .. ففي حين أنك كنت تظن أن الكون كله قد أوقف عجلته عن الدوران لينتظر خروج تلك الكلمة من فمك ليبتهج بعدها ويغسل أيامه بالورد والبنفسج ؛ ها أنت الآن تضحك بعد ان علمت أنك لم تكن يومها إلا ممثلا فاشلا في عرض كبير نجح فيه غيرك وأخفق من كانوا يشبهونك ، فالسحر الحقيقي للحياة يكمن في قدرتها المبهرة علي شحنك بتلك القناعة المضحكة التي تشعرك بأنك وحدك المحور الرئيسي للأحداث فيها ، ثم ما تلبث أن تصفعك بالحقيقة عارية من أنك فيها لست إلا عدم قابل للتأويل .
ما الذي تبّقى لك من تلك الأيامِ؟ .. لا شئ ضخمة فقط .. وبقية من صدى ذكريات كانت تخبو سريعا ، لتتركك رجلاً من الماضي لا يحسن ” الغد ” ولا حتى اليوم ، أظن أنه يحق لي الآن أن أقول وبكل ثقة أنني إكتشفت أن علاقات الحب الفاشلة تصنع منا نحن الرجال كائنات ممسوخة مشوهة من الداخل ، فمن بين كل رجلين في هذه المدينة ولجا للحب من بابه المفضي إلي الجحيم لابد أن تجد أحدهما وقد أصبح زيراً للنساء إلا من رحم ” قلبه ” .. لماذا برأيك ؟ هل تظن أننا ننتقم لجمال كان فينا منهن ، أم أننا نحاول أن نثبت لأنفسنا أن ” دون جوانيّتنا ” لا تزال في كامل لياقتها ؟
هل تذكر جدك ؟ ما لم تكن تستوعبه في صغرك تلك العادة الغريبة التي كان يمارسها .. فقد كان يقوم عن المائدة بمجرد إنتهاء الطعام الذي علي الإناء دون أن ينتظر المدد القادم من الداخل والذي كنت تقوم بجلبه بحكم أنك الأصغر سناً ، كان هذا بالنسبة إليك محيرا فعلا لكنك ظننت أن للأمر علاقة بالصحة .. فهو رحمه الله قد مات واقفا كما تموت الأشجار .. أو أنه يؤمن بإسطورة قديمة يدين لها بالطاعة العمياء كما كل الأجداد ، حتي أكتشفت ذات خيبة أن النسخة الثانية من أي شئ خاصة في الحب .. رديئة ؛ لأننا ننظر في داخلها بحثا عن النسخة الأولي فقط لا عن ذاتها ، فيغشي البصر عن الذي فيها من جمال ، وحين لا نجد في ملامحها ما نبحث عنه نشوهها ثم ننتقل لغيرها .
هكذا نحن الرجال .. لم يخلق الله من هو أكثر ضعفا وأنانية منا ، وكلما تقدم بنا قطار العمر وكبرت هزائمنا كأورام خبيثة كلما ظهرت هذه الأعطاب بصورة أوضح ، عكس النساء اللاتي تظهر تضحيتهن في عز ضعفهن .. حيث يتجلى منحهن في قمة إحتياجهن .
هل تعلم كيف أدركت أن أمي قد بدأت تشيخ ؟ حدث ذلك منذ وقت بعيد .. بعيد بما يكفي لأنسى تفاصيله ، لكنني عرفت أنها قد كبرت فعلا حينما صارت تنسي إغلاق صنبور المياه بإحكام ، نعم بهذا فقط ؛ فبالنسبة لسيدة وهبت حياتها منذ خمسين عاما لتكون ربة منزل ناجحة كان مثل هذا الخطأ لا يغتفر ، و لا زلت أذكر كم عوقبت منها بسببه ، أما أبي فكان إكتشاف أمره سهلا جدا ، هي بضعة أعداد من مجلة طبيبك الخاص وجدتها مخبأة بين ثيابه .. وفهمت إقتراب وصوله للنهاية .
أنا الآن أحادثك منذ أكثر من ألف ” حرف ” ، ولا تلوح لي في الأفق نهاية مقبولة لهذا النص ، وهذا ليس جيدا لك ولي وللقارئ .. فقل شيئا لو سمحت .. قبل أن يصدأ سيف الكلام في غمده .
* * *
أنت لا تعرف شيئا .. ” كم كذبنا حين قلنا نحن إستثناء ” كثيرا ما كنت أشعر أن هذه الجملة لي أنا .. لكن محمود درويش ولد قبلي .. وقد قلتها حين سرق الشتاء بلياليه إستثنائية كانت لي .. يومها خضب ” حسنها ” بالحناء ، وخضب ” حزني ” بمأثورات التعابير .. و ” للغياب ” زفونا ، ثم تركني كافراً بكل النساء ، أتناول وحيداً عشائي الأخير متألفا مع هزائمي كغزال أنهكته المطاردة فرضي أن يكون الفريسة ، ثم أفعل كما يفعل المذنب حين ينوي الإعتراف بخطاياه بحثا عن صك غفران أو رصاصة الخلاص .
أطفئ الأنوار .. أشبك يداي .. ثم :
” يا الله
قليلة هي الحماقات التي إرتكبتها في حياتي
فلم يسبق – مثلا – أن سقطت ” أحبك ” من جيب قلبي لإحداهن سهوا
ولم يحدث أن سرقت قبلة كانت تناديني من ” خد ” موارب
ولم أشاهد يوما تفاحة الخلود متلصصا من ثقب باب الجنة
لم أزرع الأمل في مزهرية مليئة بالأشواك
لم تلوح كفي منذ أن بلغت العلم بإتجاه الرياح لأحد مودعا
ولم تطأ قدمي منذ أن قرأت الأرصفة دربا لا وجهة له “
مسالم أنا يا الله ..
وأنت تعلم يا الله أنه ..
ما أسهل الجوع إن كان الذي يكفيه قطعة خبز ..
وما أخف العطش إن كان ما سيرويه قطرة ماء ..
وما أهون الدمع إن كانت ستجففه المناديل ..
لكنه الحزن يا الله ..
رجل مطل لم يسدد ما لنا عليه من فرح منذ سبعين عاما “


* نقلا عن موقع جيل جديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى