تسنيم محمد حسن - المساحيق لا تكفي..

هي..
التي وضعَت التاج على كَتِفها، صَلّت داخل محراب النيل قداسها حتى عكّرت رتابة البحر، هنا نَفَضَ الشجر أغصانه لتنتشر تراتيلها هناك، سكَتت فذابت كل أصوات الطبيعة داخل صمتها.
هي.. التي كان لا ينام بجِفنها إلا السهر، تغرس أعمدة الظلام داخل مسامها، ثم تتمدد تحت أقدام الوجع..
تحاذيه بحوافها..
تنتفض..
فيضيء السكون..
تُقبِل وجه الصباح المالح، تسير عكس الطرقات والمارة، وتخلق من ذاتها روحاً تهبط على جسدِك كما رقة تسربها منه..
وتتماسكان ، ليبدأ الواقع هذيانه على أنقاض حياة ما..
وأنت أنت..
تجلسُ كما اعتدتَ من قبل، منتصف ظلمتك تماماً، تحت عمود كهرباء جاهر الإنارة ذاته، تبتلع قهوتك حالكة السواد، تتبعها بدخان أبيض تُكثفه داخلك وتُخرجه أقل بياضاً، تَلوثُ نواياك تجاه نفسك تعاود اكتشاف الفكرة ذاتها كل مرة، كلما أمتص الليل لا وعيك انغمس فيك أكثر، إذ كيف سيكون حالك إن هي رحلت.
كانت لا تغسل ملابسك إلا في يوم عطلتك بالذات، ما زلت لا تقبل مجاراة حقيقة انهزامك أمام ارتباكها العفوي، أو كما تحسبهُ، تُزعِجك، كلما صرخ الباب الحديدي وأنت تجرهُ على أرضية المنزل بنصف استيقاظ، تَلتَقِطُ قطعة صابون انزلقت من يدها برفق، وكأنها تطلب منك استئذاناً.
لو أنك تنازلت عن نومتك الممتدة صباحَ السبت تحديداً، لتخلصت من مشقة شفقتك وامتنانها، وكل ما يحدث بينهما.
بماذا تفكر اللحظات وهي تمضي عبرك الآن وتترك خلفها صدرك المكشوف لرشات الملح
أتنوي أن ترسل لك غيمة بنفسجية محتقنة بالحب؟
أم أن الأمل لا يأتي إلا بعد الألم؟
أتذكر؟ عندما رأيتها أول الأمر
تمشي ببطء.. تقف فجأة.. تبتسم.. ثم تُحلق سريعاً..
كرائحة البرتقال عندما تتغلغل هباتِ المساء..
ترتدي سعادة مخملية شفافة لا تلتهمها العيون الفضولية..
تُضيء بداخلها كالكريستالة..
كلما اتكأت على ممشى الرصيف تناثر حول خطواتها البريق..
اقتحمت صمتك بفضول، تجاوزت الظلمة، وقادتك إليك..
مرغت أنوثتها بك، وأنت تعلم أنها لا تعرف كيف تستر جروح روحها بابتسامة مصطنعة تعلقها على حافتي وجهها، هي لا تخفي.
تَجلسُ على الكرسي فيتجمد ألمها، تَحِلُّ عُقدة شعرها فينتشر الصداع من تحته..
ثرثرة التلفاز المتواترة..
رنين الهاتف الذي لا يصمت..
وكل فوضاك لا تشبه أبداً ما بداخلها لحظة وجع..
حتى وأنت تركتَ كل شيء، جلست بجانبها تماماً، تقاسمت معها الوعي، بتآكلك الغياب كقَبْرٍ باردٍ يحٌفر بانتظام في منتصف دِفئها، ملابسها الداكنة ستخفِ عنك النَزيف البنفسجي دوماً، ملامحها غير المرهقة ستطفئ أعقاب المشاعر المبعثرة..
أتذكر؟
رغم كل ذلك لم تتخل مطلقاً عن عادتها الطفولية في شرب الشاي؛ تتركه ساخناً على الطاولة، تحرك ساقيها القصيرتين في الهواء بضعة دقائق، ثم ترتشفه بارداً تماماً، تمر الحياة عبرها كل يوم وهي تزداد إشراقاً، وأنت تزداد عتمة، حتى كادت أن تبتلعها عتمتك، لكنها خشيت أن تفعل، خشيت أن تبدد حزنك المستتر بالضوء.
قالت لك ذات مرة أن النوم يهضم الهم، وأن الصباحات الباكرة تفطم الأوهام عن صدر الوجع، حدثتك عن أن الأفق ينحدر عندما تلتصق رائحة المطارات بالسماء، وعن أعمدة الإنارة التي تكون شاردة في مشهد ولادة قرص الشمس.
وأنت لم تكن ترى إلا في وجهها هي فقط لوحة الصباح، امرأة سمراء معتدلة على طرف الجمال، لم تضع يوماً المساحيق لتخفي الألم، بل كانت تجر الحزن من ياقته ليفرح.
تخاف عليها أن ترحل
أن تشرق ابتسامتها بفضول جديد
أن تنزع يوماً ما عنها ظلها وتعلقه بحافة الشمس..
يومها سينتهي كل شيء، تماماً كما لم تَكن تتوقع..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى