رسائل الأدباء : رسالة ثيودور دوستويفسكي لأخيه بعد الحكم عليه بالإعدام

قلعة بطرسبرج في 22 ديسمبر 1849م

” أخي الحبيب: وصديقي حصل ما حصل، وحكم عليّ بالسجن أربع سنوات وبعدها أعود لألتحق بالجيش. في هذا اليوم نادونا و قرؤوا علينا حكم الإعدام. ثم أمرونا أن نلثم الصليب، ونزعوا ملابسنا وألبسونا قمصاناً بيض. وربطوا ثلاثة منا إلى عامود ليطلقوا النار عليهم. وكان دوري السادس وكان النداء على ثلاثة كل مرة. لم يكن عندها باقياً لي من الحياة سوى دقيقة، وقد ذكرتك أيها الأخ أنت، وأولادك، وعرفت مقدار حبي لك، وقد تمكنت من أن أقبّل”بلاتسياف ودوروف”..وكانا واقفين بجانبي وودعتهما. وأخيراً نفخ البوق وأُعلن الأمر بالرجوع، وحل الذين كانوا قد ربطوا بالعامود.وقرأ علينا أمر الإمبراطور بمنحنا حياتنا والحكم علينا بالسجن.
وقد أبلغت أنهم يا أخي الحبيب سيرسلونني اليوم أو غداً. وقد طلبت رؤيتك فأخبروني أن هذا محال وأن كل ما يستطيعونه أن يسمحوا لي بالكتابة إليك. وأنا أخشى أن يكون قد بلغك الحكم علينا بالإعدام ، فقد نظرت من نافذة العربة التي حملتنا إلى ساحة الإعدام ورأيت في الطريق جمهوراً كبيراً وخشيت أن يكون من رأوني قد أبلغوك وآلموك بذلك. ولكن الآن يمكن أن تهنأ بشأني يا أخي.
لا تظن أن الحكم قد هدّني أو غمّ علي.. فالحياة في كل مكان هي الحياة. هي بداخلنا وليست فيما هو خارج عنا. وسيكون قريباً مني أناس وسأكون رجلاً بينهم،وأبقى كذلك للأبد، ولن يهن قلبي أو تفشل عزيمتي أمام المصائب. وهذا في اعتقادي هو الحياة أو الواجب في الحياة. وقد حققت ذلك وصار هذا الخاطر جزءاً من لحمي ودمي. أجل فهذا الرأس الذي كان يبتكر ويعيش سمو الحياة الفنية والذي حقق أسمى الحاجات الروحية، هذا الرأس قد قطع من عاتقي ولم يبق عندي سوى الذكريات والخيالات التي اخترعها ولكنها لم تتجسم في ذاتي بعد، وأعرف أنها ستمزقني. ولكن ما يزال باقياً لي قلبي وهذا اللحم والدم الذي ما يزال قادراً على الحب والألم والرغبة.ولا تنس أن هذه هي الحياة. أجل مازلت أرى الشمس.
قبل زوجتك وأولادك و أذكرني عندهم كيلا ينسوني فعلنا نلتقي يوماً ما.
أخي أوصيك بالعناية بنفسك وأولادك وأن تعيش في هدوء ويقظة .وأن تفكر في مستقبل أولادك.
عش عيشاً إيجابياً إني ما شعرت قط بوفرة الحياة الروحية في شخصي كما أشعر بها الآن وأنا مريض. ولكني لا أبالي بذلك. أخي لقد كابدت من الحياة الشيء الكثير حتى ما يكاد شيء يخيفني الآن في العالم فليكن ما هو كائن وسأكتب إليك في أول فرصة وأرجو أن تضغط على أيدي الجميع وتصافح جميع أولئك الذين لم ينسوني. وأكتب خطاباً إلى إخوتي وأخواتي وأفعل ذلك باسمي و أدعوا لهم بالسعادة.
(ربما نلتقي يا أخي في المستقبل. لا تهمل العناية بنفسك بل عش وأبق حياً فعلنا نتعانق يوماً ونذكر شبابنا ذلك الوقت الذهبي، ذلك الشباب وتلك الآمال التي أمزقها الآن من قلبي ودمي كي أدفنها)
هل يمكن أن أتناول القلم بيدي مرة أخرى؟ أظن أني سأعود للكتابة بعد هذه السنوات الأربع وسأرسل لك كل شيء أكتبه إذا أنا كتبت وا رباه، كم من خيالات عشت فيها، اخترعتها ستموت وتنطفئ في دماغي، أو تتمزق وتسير في دمي كالسهم، أجل. إذا لم يسمح لي بالكتابة فإني سأموت. وخير لي من ذلك أن أسجن خمس عشر عاماً ويكون في يدي قلم. أكتب لي كثيراً وأكتب بالتفصيل والإسهاب وأذكر لي حقائق كثيرة. وفي كل خطاب أكتب لي عن الأسرة مع التفصيل ومع ذكر ألأشياء التافهة. ولا تنس هذا، الخطابات تعيد لي الرجاء والحياة. آه لو تعرف كم أحيتني وأتعستني رسائلك التي وصلتني وأنا في القلعة. الشهران والنصف الماضيات حين منعوني من كتابة الرسائل أو تسلمها من أشق ما كابدته وقد كنت مريضاً.
لما أهملت أنت إرسال النقود إلي ساورني القلق من أجلك لأني فهمت من عدم إرسالك للنقود إنك في حاجة شديدة. قبّل الأطفال مرة أخرى، فوجوههم الصغيرة لا تغيب عن بالي. ولا تحزن لأجلي وثق إني لم أهن والرجاء لم يهجرني، وبعد أربع سنوات سأعود وأعانقك لقد كنت في قبضة الموت ثلاثة أرباع الساعة وعشت هذه المدة بهذا الخاطر. وبلغت آخر لحظة من الحياة وها أنا ذا حي مرة أخرى.
وإذا كان أحد يتذكرني بسوء ،أو إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أو أسأت إليه فأخبره إذا لقيته بأن ينسى الإساءة وليس في نفسي مرارة أو نقمة على أحد، وأود أن أعانق في هذه اللحظة كل واحد من أصدقائي السالفين، وقد شعرت اليوم بالراحة وأنا أودع أحبابي الأعزاء قبل الموت، وخطر ببالي في هذا الوقت أن خبر إعدامي سيقتلك ولكن استرح الآن فأنا مازلت حياً.
أسأل ماذا تفعل؟ وبماذا فكرت اليوم؟ وهل عرفت شيئاً عنا؟ وما هو مقدار البرد اليوم؟ آه ما أشوقني إلى أن يصل خطابي هذا إليك بسرعة. إذا تأخر فاني سأبقى أربع أشهر بدون خطاب منك. وقد رأيت الرسائل التي أرسلت فيها النقود لي منذ شهرين وكان عنواني مكتوباً عليها بخطك سررت برؤية الخط.
عندما التفت إلى الماضي وأتذكر مقدار الوقت الذي ضاع عبثاً وكم منه ضاع في الأوهام والكسل والجهل بالعيش، وكيف أني لم أقدر الوقت حق قدره، وكيف جنيت على قلبي وذهني، أحس أن قلبي يسيل دماً. أجل إن الحياة عطية وهي سعادة وكان من الممكن أن نجعل من كل دقيقة منها عصراً طويلاً من السعادة.
الآن حياتي تتغير وأنا أولد من جديد في شكل آخر .أخي .أقسم لك أني لن أفقد الأمل وسأصون روحي وقلبي في الطهارة، وميلادي الجديد سيكون إلى حال أحسن من حالي الماضية. وهذا كل رجائي وعزائي.
إن حياة السجن قد قتلت في جسمي مطالب اللحم التي لم تكن كلها طاهرة، ولم أكن قبل هذه الحياة أعنى بنفسي كثيراً أما الآن فالحرمان لا قيمة له عندي ولذلك لا تخشى علي من المشاق المادية وتحسب أنها ستقتلني ،لن يحدث هذا.
وداعاً وداعاً يا أخي. إني أعانقك بقوة وأقبلك بحرارة ،تذكرني بلا ألم في قلبك، فأرجو أن لا تحزن. سأخبرك في خطابي الآتي بما يتم لي. تذكر عندئذٍ ما أخبرتك به: لا تعش جزافاً دائماً دبر حياتك ورتب حظك وتفكر في أولادك.آه لو أراك إني أنزع نفسي الآن من كل شيء أحببته.وهذا النزاع مؤلم .ومن الموجع أن أقطع نفسي نصفين وأشق قلبي شقين. وداعاً ولكني سأراك، أنا واعٍ فلا تتغير وأحبني ولا تدع ذاكرتك تبرد. وذكراك ستكون أحسن شيء في حياتي. ومرة أخرى وداعاً .وداعاً لكم جميعاً.
لمّا قبض علي أخذوا مني كتباً عدة ولم يكن بينها سوى كتابين ممنوع تداولهما.فهل لك أن تطلب الباقي لنفسك ،ولكن لي طلباً وهو أن أحد الكتب يحتوي على مؤلفات فاليرمان مايكوف.وهو مقالاته الأنتقادية .وهذه النسخة كنت أخذتها من أوجينيا بتروفنا .وكانت تعدها كنزاً وقد أقرضتها لي ،ولما قبض علي طلبت من الشرطي أن يرد إليها الكتاب وأعطيته عنوانها .ولا أعرف إذا كان قد رده .أسأل عن ذلك، لأني لا أحب أن أحرمها هذه الذكرى وأخيراً وداعاً.
أخوك
ف.دوستويفسكي
على الهامش: لا أعرف هل أمشي أم أركب فرساً.وأظن أنهم سيركبون الخيول.ربما.قبل يد أميلي فيدروفنا وقبل الصغار واذكرني عند كريافسكي .وأكتب لي عنك..

أخوك:
ف. دوستويفسكي …

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى