عبد القادر حكيم - صريف الأرصفة

إهداء الى : ( عبد الحكيم الشيخ / شيا / شفراى والسماك)


ألوذ الى جبل مخدود من بقاياي . أتمترس فيك وأصطفيك نبية فوق عرش يزدرني ، وألوب الى .. نطفة ، فجنينا ، ثم طفلا مستبيح . بينما صديقي الصندوقي ، يبحث عن (جغب ) آخر يختلس فيه الفرح … الشوارع ينهكها وقع الضباب الكثيف لمساء بلا حبق . وأنا في خاصرة الشارع البليد وحدي بلا زاد ، فقط أستمرء بنهم شديد ، حالة كوني أحبك بلا جدوى .

***

سار. كان في نيته اقتحام حانة في أقصى المدينة . أحتواه الشارع الآخذ الآن في التجهم ، صدمته الأبواب المؤصدة باحكام ، بصعوبة استطاع قراءة اللافتة المضاءة بالنيون .. ” معروضات السلام ” سخر من التسمية ، وترنح قليلا ، ثم أشعل على ضوئها سيجارة ، مج منها مجات واهنة ، وتركها بين شفتيه ، ليدخل يديه في جيبى بنطاله المرتق ، مما أتاح له السير بتوازن وقور . من شارع جانبي ظهر أحد أفراد القوات المساعدة .. كان ظهوره كفيلا يجعله يكبت – الى حين – مشروع التبول الذي كان سينفذه لدى بلوغه تلك البالوعة النتنة . الضباب يتكاثف حثيثا ، صراخ احداهن يصيب الضباب بالتخنثر ، ورأسه بالدوار .. يتسرب التخنثر الى سيجارته ، يلقي بها على الرصيف حانقا ، بالقرب من قطة سوداء ، كاد يدهسها لولا موائها الأنيني الغامق . تجاسر ، ثم بال عليهم جميعا ، مستغلا عبور الدركي الى الرصيف الآخر لفض عراك نشب حول فتاة .

***

لا مفر . فقط انتظريني هناك ، أعلى التل الأخضر ذاك .. سآتيك مع نسائم الهزيع الأخير من هذا الليل الكتوم كالغرغر ، سآتيك رقيقا كالنسمة .. سأضم نسمات عدة ، فأجعلهن حزمة ، أضع عليها بساطي ، وأستلقي عليه ، عليها . يمكنني أن أدخن تبغا غاليا ، أمج دخانه على ايقاع الحزمة ، وحفيف الأشجار التي ترجع للوراء .. سآتيك وستكون النسائم ميعادي ، ودابتي ، ودليلي اليك ، ولا وقت لي أضيعه حتى يحين حينك ، لا أشعار صديقي ، وفاطمته ، وشتائمه آخر الليل ، ولا البنات الجميلات ، يشعلن صريف الأرصفة .. فأنت كل وقتي ، وكل الصبايا ، والحكايا، وانبثاق الجمال المتناسل أبدا عنك . لا تقطبي حاجبيك ، أرجوك ، لا تستغربي عنادي ، أمازلت تحبين ذلك المعتوه !

***

أوقفوه ، وأوثقوه بالسؤال المربك :

– تشتمنا .. هه ؟؟!

حاول المراوغة ، القموه حجرا :

_ (…) مك

أمسك بفاطمته في عنف مخافة ألا تندلق على قدميه نهرا من جمال مباغت . سقط بعد أن ارتطم ظهره بالجدار . هربوا .

***

حقا حب الناس مذاهب . أتذكري يوم قلتيها لي ، أمسية رأس السنة بسينما ” دانتي ” منذ عامين اثنين .. كنت ثملة ، وكان الحفل مخصصا للشعر ، سألتك الجلوس لصقك ، ان لم تكوني في انتظار أحد ، ولما لم تلتفتي للسؤال ، جلست . كنت أعلم أن حبيبك ، وحياتك ، ودنياك ، سافر الى بلد مجاور لأحياء حفلة رأس السنة هناك . ربما لذلك جلست دون انتظار ردك – عدم التفاتك للسؤال كان ردا قاسيا – رغم يقيني المتوطد بأمكانية قضاء ليلتك تلك ، وكل الليالي ، مع أى شخص ، شرط أن يروق لك .. لا أعني بذلك ، انك مبتذلة ، كما يقول عنك صديقاتك ، المتجهمات نهارا ، المصهالات ليلا بالشبق ! دخل صديقي الصندوقي ،وفي عينيه نصف ابتسامة ، وبين شفتيه نصف لفافة من تبغ ، وطني ، رخيص .. صفق الجمهور ، ثم ضجوا ، وبينما ذاكرتي تخزن عطركالفواح ، وعيناى تجوسان في تفاصيل بنفسجك الأنشراحي ، قلت لك : ” ان ذلك الشاعر صديقي” قلت : ” تشرفنا ” وأشعلت لفافة ، بنية ، رفيعة .لم يكن دخان لفافتك ، اذ تمجيه كدخان لفافات المدخنين ، الذين شرعوا في التدخين – مثلك – رغم وجود التنبيهات المهذبة ، على جدران القاعة بالعربية والأنجليزية .. كان دخان لفافتك كثيفا ، وكان يتصاعد في فضاء القاعة حلقات ، وكان يتداخل – وحده -مع عطرك ، فيصير الى مزيج اليف ، يتسرب ببطئ لذيذ ، الى غضاريف ذاكرتي الضاجة بك . قرأ صديقي :

( آن أوان تسترب صمتك فى

تعذبني الكائنات الصغيرة ، والفاتنات العيون

يعذبني صمتك ، وابتسامتك الغامضة )

قلت : ” يعذبني صمتك ، أوغلت في الصمت حتى انني كنت أحس صمت صمتك ” .

قلت : ” متى تنداح عن شفتيك الأنغام .. فنحقق الأحلام ؟” أشعلت لفافة ثانية .

قلت : ” هل كان صديقي يعنيني ؟”

قلت :” أسأله ” ورميت باللفافة في نزق . تدحرجت اللفافة ، وأستقرت بين عاشقين يتبادلان الكلام المعطر . تماديت . بنبرة مترهلة ، قلت : ” يبدو عليك السحر في هذا المساء ” وطقطقت عظام رقبتي ، اشارة الهزيمة ، والقهر ، ثم مسدت يدي اليسرى ، شعري الكث ، دونما الحاجة الى ذلك ، ومضيت بسمعي الى صديقي : كان يكرر مقطعا يمور بي :

( رياء حديث الظهيرة كان

على حاجبيك تبدى ، تجلى على مقلتيك ،

عناد الليالي الأخيرة

وأنحسار ظلالك عني ، عليك انكساري ،

انشطاري ، انتحاري ، عليك جنزني ، انتحاري )

وضعت ساقا على ساق . برز عريك ، دافئا كشمس تشرئب للشروق ، رددت السطرين الأخيرين في خشوع ، وأعتلى وجهم الجميل ما يشبه الأنكسار . صفقوا . لم تصفقي . تحركت يدي حارة صوب يدك ، عبثت قليلا باحدى ركبتيك الغابيتين ، ركضت على فخذك العاري ، لم يكن هدفها الفخذ ،بل اليد التي كانت تقبع أعلى الفخذ في انتظارها . امتطت يدي ، يدك .. امتطتها ، أشفقت على يدك ، التي كانت مذعورة تحت ثقل يدي الضخمة . صعدت .. ملامسشة ساعدك الغض ن لم تتحركي . بلغت يدي كزعك ، لم تتحركي ، عبثت به برهة ، ثم همتبالولوج الى زندك .. سحبت يدك في قرف ، وخطفت حقيبتك ، وغادرت القعة . وقبل ان تتواري عن نظري تمعنت صديقي برهة ، كأنما تعقدين مقارنة بيني وبينه . طاش شعرك الحر ، لدى هبوطك الدرج ، ثم توارى ، تواريت . هل كان صديقي يروق لك تلك الليلة ؟. لحقت بك ممسكا علبة اللفائف التي نسيتها .. كنت تهمين بالثعود الى سيارتك ..

_ ” العلبة يا أستاذة ” .

_ ” اسمع أيها السيد لا تضايقني ” أدرت المحرك تحركت السيارة ، وقذفتني بتلك الجملة التي ماتزال تحرقني : ( حب الناس مذاهب .. يا .. استاذ ) واذا ذاك توجهت – فقط – بوجهي الى مرآة سيارتك ، كان وجهي بشعا ، بشعا .

***

أفاق . من فرجة في ذهوله ، تحسسها .. كانت تدمي ، لم يكن الجرح غائرا ، لكنها كانت تدمي ، بصق على الرصيف ، المبتل بالندى ، وبالعهر . وسار . كان في نيته – مازال – اقتحام حانة في أقصى المدينة .. استقبله النادل ، الطيب ، الأعرج ، بابتسامة فاغمة . سب الحرب ، وجلس .. الطاولة أمامه تعلن بالحاح شديد عن حالة الفوضى التيكانت عليها قبيل قدومه . غسل النادل جرحها الطفيف ، الكثيف معا . غاب قليلا ، ثم أتى – تتقدمه فاغمته

– بكأس جن ، وليمون ، وثلج .. صار قارورة .

***

أعود منتصف النهار تماما ، وقد تحول صريف الأرصفة في ذاكرتي ، الى طنين كثيف ، بحثت عنك في كل المنتديات ، وفي كل الشوارع ، والمنتجعات .. فقط كنت أريد أن أراك .

***

أعجبه ألأزرق ، يخفي تحت طياته أبيضا ناصعا كقلب حبيبته ، لكن لم يعجبه أسلوبها الاستجدائي .. كانت تغازل أحدهم بطريقة رثة ، وتدخن بطريقة فجة ، وكانت فجة ، الا من أزرق ترتديه . تناثرت فاطمة في فراغ الكهف ، كزهور ( التبر ئئ9 . صارت بالنسبة له مشروع تأمل ثمل .. وبالنسبة لرواد الحانة دهشة ، أخذت في الاتساع دوائر ، دوائر ، لتنداح في ذاكرته ، شجنا أليفا وغناء . ترهقه حفاوة الرواد ، ” كأس على حسابي .. وكأس ثانية .. وثالثة .. و ” لا يرتاح الى الشكل الاحتفائي ، بل يخشاه . تقيأ أحدهم ، وزهور التبر ما تزال تناثرت عن ذاكرته ، تملأ كل فراغ .. تحت الطاولات ، وفوقها ، سقف الكهف ، القوارير الفارغة ، وساعة الحائط التي تدور عكس الزمان . حاول جمعها ، تقافزت ، وتطايرت في دلال ، أحسه مشازا ف موسيقى قصيدته ، التي كانت تتأهب للاجتيح . خرج . تبعته وهي تترنح من السكر .

***

خرجت هذا الصباح في طريقي الى المدينة .. ولما بلغت أعى الزقاق ، ناداني ذو الصوت الطاحوني ، وأخبرني بأني نسيت اقفال غرفتي . رجعت ، وآثرت الكتابة اليك في دفتر مذكراتي ، على الخروج في صباح مترب . هذا الصباح هو اليوم الأول من عام جديد ، بذا مرت ثلاثة أعوام بلياليها الطوال .. أتساءل : ” الام علاقتي الركيكة هذي بك ؟؟ ” فيتقاطر من ذاكرتي بنفسجك الانشراحي ، وعطرك الفواح .

***

فتح عينا واحدة .. ضحت الشمس ، وزهرة حمراء كانت تتشممه . فتح الأخرى لم يضحك له عمال البلدية المتجهمون بزيهم القبيح ، كانو منهمكين في تسوير الحديقة بالسلك الشائك !!! هم بفتح مستودع شتائمه ، عندما أقبل الدركي :

_ ” هويتك ؟ ”

_ ” سل هذه الوردة التي تتسممني .. تنبيك عني “

_ ” سأسوقك أمامي كالكلب .. أنت مجرم “

_ ” أنا أم أ نتم ومن فوقكم الأمبراطور “

_ ” أتسب جلالة الملك يا شفتا ؟!! ”

أقبل أحد طلاب المدارس الثانوية ، في زيه المدرسي الأنيق ، ودس في يد الدركي شيئا . سار . جفف عرقه بمنديله الأزرق ، ودخل أول حانة صادفته .

***

زحفت ألأرصفة على صورتك .. أكلت نصف عينيك اليمنى وشامتك كلها ، واحدى غمازتيك .. صارت ضحكتك الآن بلهاء …هل كنت تذبلين فى شيئا فشيئا ؟؟؟!!.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اشـــارات :
* الأشعار للشاعر والقاص عبد الجليل سلمان عبى
* التبر : زهور برية بيضاء ، تنموا في منطقة السافنا الفقيرة صيفا .
* شفتا : قاطع طريق بالأمهرية ، كانت تطلق على الثوار الأرتريين .

اكتوبر 1995م

قبى ألبو – ارتريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى