محمد سعيد ناود - المغترب

وكانت نهاية علاقتي بالعمل لدى عمي عمر بسبب احدي هذه الخادمات.. فقد كانت تتردد على دكانه فتاة جميلة القوام.. بارزة الصدر والأرداف بشكل مثير, وكان يعطيها اهتماما خاصاً دون الأخريات.. كما كان يكثر من الحديث والمداعبة لها.. وفي احدي المرات جاءت كالعادة لتشتري من دكانه, وبينما كان يعد لها مطالبها ويضعها في الميزان مال برأسه قليلاً إلى الأمام باتجاهها.. وحرك يده سريعاً وكأنه يطرد ذبابة علقت بوجهه.. ورأيت يده تتجه إلى صدر الفتاة وتلمس نهديها بسرعة.. فتراجعت الفتاة إلى الوراء قليلاً.. وبدأ يكرر ذلك كلما جاءت تلك الفتاة..

وبمرور الأيام لاحظت أن تلك الفتاة لا تتراجع إلى الخلف ولكنها تبتسم مما شجعه في إحدى المرات أن يمسك بنهدها في كفه اليمنى بينما كانت يده اليسرى تمسك بالحاجيات التي طلبتها..

ثم بدأت تلك الفتاة تأتي إلى الدكان بعد حلول الظلام وهي ترتدي ملابس نظيفة ولا تحمل مقطفاً كما تفعل في الصباح.. وما أن تظهر أمام الدكان حتى يطلب مني عمي عمر أن أنصرف قائلاً: كفى فقد تعبت اليوم من العمل المتواصل فاذهب لمنزلك لترتاح.. وتكرر هذا أياماً عديدة.. وفي احدي المرات وعندما سمح لي بالانصراف عند ظهور تلك الفتاة اتجهت لمنزلي.. وفي منتصف الطريق تذكرت أنني قد نسيت الأوز الذي طلبت والدتي أن أحضره, فعدت إلى الدكان حيث وجدت الباب الخارجي نصف مفتوح فدخلت بهدوء معتقداً أن عمي عمر يقوم بإعداد وحفظ حصيلة يومه من المال ويضعها في الخزنة, إلا أنني سمعت أصواتاً بشرية تنبعث من المخزن الداخلي للمتجر.. ففتحت الباب بهدوء ودون أن أفكر بشيء لإشهاد منظراً لم أكن أتوقعه إطلاقاً..

عاريان تماماً فوق السرير.. كانت الفتاة مرتمية تحته وتمسك ظهره بكلتا يديه بقوة وهي تلهث وتخرج من فمها كلمات متلاحقة غير مفهومة.. أما هو فكان يجثم فوق جسدها والعرق يتصبب من كل جسده, وما أن تنبها لوجودي حتى توقفا.. وقامت الفتاة بسحب بيديها بسرعة من خلف ظهره ثم غطت وجهها.. أما عمي عمر فقد قفز من فوقها واستوى واقفاً على الأرض وسحب قطعة من ملابسه وغطى بها عورته..

كل ذلك جرى في أقل من دقيقة من الوقت, حيث انسحبت إلى داخل الدكان وعيناي لا تصدقان ما شاهدت, وهناك لحق بي عمي عمر بعد أن ارتدى ملابسه سريعا وهو في حالة ارتباك ووجهه مصفر من الخجل.. ودون أن يتفرس في وجهي سحب ورقة مالية من فئة العشرة دولارات ودسها في يدي دون أن ينطق بكلمة.. فانصرفت مسرعاً بعد أن رميت بالورقة المالية في وجهه..

في تلك الليلة لم أذق النوم.. كنت مستيقظا أفكر فيما شاهدته.. وأتحدث إلى نفسي وأتساءل: أن عمي عمر متزوج من جميلة ما, ومازالت تحتفظ بشبابها.. ولديه ثلاثة أطفال, فما الذي أجبره على مضاجعة هذه الفتاة وبداخل متجره, معرضاً نفسه وسمعته للخطر؟.. وماذا عن صلاته ومظاهره الدينية والآيات والأحاديث المعلقة بالمتجر وهي تقف شاهداً على أكاذيبه وسرقاته وفجوره؟.. مرة أشعر بالاشمئزاز مما شاهدته, ومرة أخرى كنت أحس نحوه بالحسد.. وكنت أتمنى لو وجدت الفرصة للاختلاء بتلك الفتاة بدلاً عنه, وعندها لما ترددت أن أكرر معها نفس المشهد الذي أثار في نفسي أحاسيس غامضة.. ورغم أنني وزملائي من الشباب كنا نتحدث عن هذه المسائل كلما اختلينا بأنفسنا إلا أنني لم أكن أعرف شيئاً عن عالم النساء وأسراره..

كنت أبحلق في سقف المنزل في الظلام وأنا مستلقي فوق السرير, أفكر كيف سأواجه الموقف غدأ.. في لحظة فكرت أن أتناول العصا وأنتظره أمام المتجر, وعند قدومه أشبعه ضرباً.. وعندما يتجمهر جيرانه من التجار أشرح لهم ما شاهدته من فعلته المنكرة.. ولكني تخليت عن هذه الفكرة.. أيضاً فكرت أن أدخل معه في مساومة وهي أن يسمح لي بمضاجعة تلك الفتاة وفي نفسي المكان مقابل شراء صمتي ولكيلا أفضحه.. ولكن أيضاً أبعدت هذه الفكرة سريعاً لأنني شعرت منها بالخجل..

أكثر ما كان يحيرني هو شخصية عمي عمر الغريبة التي جمعت كل المتناقضات من التدين والوقار إلى السرقة والكذب ثم الفجور..

وكيف استطاع أن يغطي كل ذلك بقناع زائف من التدين.. وهنا بدأت أقنع نفسي بفكرة غريبة في محاولة لإيجاد مبرر لمسلك عمي عمر وهي : أنني توصلت لحقيقة عمي عمر بعد أن لازمته لأكثر من عامين وبشكل يومي, أما بقية الأشخاص من التجار الذين أعرفهم ولكن لهم الاحترام والتقدير فلم أتعرف على حقيقتهم لأنني لم أعش معهم عن قرب.. وربما إذا وجدت معهم نفس الفرصة التي وجدتها مع عمي عمر فلربما أكتشفت لديهم شروراً وخصائل قد لا تخطر على البال .. وفي هذه اللحظة تمنيت إزالة كل الأقنعة لكل من أعرفه حتى أتبين حقيقة الجميع.. إلا أن ذلك كان احدي الأمنيات المستحيلة التحقيق..

بينما أنا سابح في هذه الهواجس والأفكار وتدور في داخلي منا قشات وصراعات سمعت آذان الصباح..

وكنت آنذاك قد توصلت إلى قرار نهائي وهو عدم العودة لمتجر عمي عمر وترك العمل معه نهائياً..

فقد كنت محظوظا حيث أن أخواتي الأربع كن قد تزوجن تباعاً بعد مرور عام من وفاة والدي.. وليس لي من المسئوليات الأسرية سوى والدتي, أيضاً فكرت في قرار آخر وهو أن أهاجر إلى السعودية حيث الكثيرين من شباب ورجالات قريتنا كانوا يهاجرون في تلك المرحلة إلى اليمن والسعودية بعد أن انتشرت البطالة, وكانوا يبعثون بالمصاريف والهدايا إلى أسرهم.. والبعض منهم كان يجمع مبالغ إلى قريتنا والقرى الأخرى المجاورة ويشترون منازل فخمة أو يقومون بإعادة بناء منازلهم القديمة بالطوب والحجر بدلاً من الخشب والأشجار, كما أن بعضهم كان يأتي ويقيم حفلات كبيرة للزواج ويدفع مهراً غالياً لأهل عروسته, وبعد الزواج يأخذ عروسته ويعود لمقر عمله بالسعودية, وكانت أخبار الناجحين من المغتربين حديث المجالس.. كما أن المغترب وعند عودته للقرية كان مثار الحفاوة والترحيب من الجميع..

وكنت دائماً أتمنى أن أكون أحد هؤلاء المغتربين لأحقق أمنيات وطموحات المرحوم والدي ووالدتي وأخواتي, تلك الأمنيات التي طالما ترددت على مسامعي عندما كنت طفلاً صغيراً.. من هنا نبع قراري بالهجرة وعدم العودة للعمل بالمتجر, حيث أنني وجدت في تنفيذ هذه الخطوة مخرجاً من المأزق والصراع النفسي الذي عانيته من كل تصرفات عمي عمر الغريبة والتي ختمها بحادث ليلة الأمس..

في الصباح جاءت والدتي لإيقاظي وهي تحمل كوب الشاي, فوجدتني صاحياً, وبعد أن وضعت الكوب أمامي جلست بجانبي على السرير والقلق باد على وجهها وبدأت تتحسس بيدها جبهتي وظهري وسألتني: ماذا بك, هل أنت مريض؟ فعلامات التعب بادية على وجهك وعينيك كما أن حرارتك مرتفعة.. أجبتها بأنني لست مريضاً ولكني لم أنم طوال الليل.. وعندما استفسرت عن السبب قلت دون تردد: كنت أفكر طوال الليل, وقد هداني تفكيري بعدم الذهاب إلى العمل بالمتجر مع عمي عمر.. وقررت أن أهاجر للعمل في السعودية.. ودون أن تعلق على كلامي وتبدي فيه رأيها سحبت يدها بسرعة من ظهري وتركتني واتجهت من مكانها إلى غرفتها..

احتسيت كوب الشاي بعد أن غسلت وجهي..

ولاحظت أن والدتي لم تعلق بأي كلام على حديثي, وأنها تركتني وذهبت إلى غرفتها.., ذهبت إليها في غرفتها فوجدتها جالسة فوق الحصيرة على الأرض ورأسها بين منكبيها وهي مطرقة نحو الأرض والدموع تنهمر من عينيها.. فجلست بجانبها دون أن أنطق بكلمة.. نظرت نحوي وهي تقول: أن والدك قد توفي لرحمة ربه.. وأخواتك قد تزوجهن.. وأنت تنوي الهجرة إلى السعودية.. فمن بقى لي؟ هل كتب علي أن أعيش وحيدة؟ لماذا لا تستمر في عملك الحالي؟ فأحوالنا والحمد لك, متيسرة بفضل جهدك..

وعمك عمر رجل طيب ولم يقصر معك في شيء.. والقرية بكاملها تشهد بطيبته وهو في منزلة والدك.. فخرجت مني زفرة وقلت في سري: لو كانت تدرك حقيقة عمي عمر لكانت طلبت مني ترك العمل معه منذ فترة طويلة.. ولو كنت قصصت عليها ما شاهدته من عمي عمر مساء البارحة لكانت قد اتهمتني بالكذب..

وضعت يدي اليسرى فوق رأسها ومسحت بيدي اليمنى الدموع عن وجهها وقلت: يا أمي أرجو أن تفهمي موقفي.. أنني لم أعد ذلك الصبي الصغير الذي تخافين عليه.. كما أن الذين هاجروا من قبلي ليسوا نادمين على ذلك.. فأنت تسمعين كل قريتنا تتحدث عنهم بالإعجاب والحسد لما حققوه من نجاح.. ولا أريد ألا موافقتك لأنني لن أفعل ما يسبب غضبك وعدم رضائك عني..

وبعد أن لاذت بالصمت لدقائق نظرت إلى وهي تقول: لا تهمني الأموال التي ستجلبها إلي باغترابك.. فوجودك بجانبي يساوي كل كنوز الأرض.. وأن الغربة بما فيها من الأموال والملابس لا تساوي شيئاً إذا قورنت بالاستقرار وسط الأهل وفي الوطن حتى لو كان الإنسان يعيش على الكفاف.. ولكنك كما تقول لم تعد طفلاً صغيراً حتى أتمكن من منعك وإرجاعك عن قرارك.. فأفعل ما تراه صائباً والله يرعاك..

كانت المشكلة التي لا بد وأن أجد حلاً لها هي توفير مصاريف السفر مع ترك القليل لوالدتي, وقد هداني تفكيري للجوء إلى خالي الذي يسكن بالريف في منطقة تبعد عن قريتنا يومين سيراً على الأقدام.. وخالي هذا يعتبر ثرياً بمعايير سكان الريف حيث يمتلك عدداً لا بأس به من الأبقار والماعز ومزرعة صغيرة للحبوب.. كما يعتبر من أعز المقربين إلى نفسي لأنه يزورنا من حين للآخر بالقرية ويحضر لنا معه السمن والعسل كما أنني لا أنسى اهتمامه بي عندما كنت صغيراً حيث كان قد أحضر لنا ثلاث من الماعز لنشرب لبنها.. وخلال العامين الأخيرين كانت والدتي تلمح لي بأنني سأتزوج أحدي بناته..

كما كنت أفعل دائماً عند زيارتي لخالي, اشتريت رطلين من السكر ورطلين عجوة ونصفاً رطل بن وقطعتين من الصابون..

وعند وصولي إليه استقبلني بترحاب ناولته الصرة التي بها هديتي المتواضعة.. فاستلمها وهو يقول: بارك الله فيك..

وكنت محل حفاوة من أسرته التي سارعت بإعداد الطعام , وهي العصيدة بالسمن وبجانبها اللبن.. وإثناء الطعام كان يسألني عن أحوال أخواتي ووالدتي وأحوالي في العمل وعن المقربين من أصدقاء والدي الذين كان قد تعرف عليهم أثناء زياراته لقريتنا..

وبعد الانتهاء من الطعام انفردت بخالي وشرحت له ما أنوي القيام به وهو السفر إلى السعودية, وحاجتي لمصاريف السفر والقليل من المصروف لأتركه لوالدتي.. وظل لفترة يهز رأسه دون أن ينطق بكلمة.. وأخيراً سألني : ما هو رأي والدتك؟ فأخبرته أنها اعترضت في البداية ولكنها وافقت أخيراً بعد إلحاحي عليها.. فقال: أسمع يا ابني.. أولاً أنت الابن الوحيد لشقيقتي التي ليس لها ابن غيرك.. وأحوالنا واحمد لله متيسرة.. فلدينا المواشي والأراضي الزراعية.. وإذا كنت قد ضقت من العمل بقريتك بالمتجر, لماذا لا تحضر أنت ووالدتك وتستقران معنا هنا وتساعدني في الزراعة ورعاية المواشي؟ أن الهجرة والغربة ليست محببة إلى نفوسنا.. وإذا كان كل شاب منكم يفكر بالهجرة عندما يبلغ من الرشد فلمن ستتركون هذه الأرض وهي أرض أجدادكم وقد توارثناها أباً عن جد وانتظرناكم فيها؟..

فأجبته: أشكرك يا خالي فأنا أعتبرك مثل والدي ولا أشك بأنك تفكر بمصلحتي.. ولكن ليست مهاجراً للأبد, بل أفكر في الاعتماد على نفسي لأجمع شيئاً من المال وأعود إليكم.. أما عرضك ببقاء والدتي هنا معكم فالأمر متروك لها وسوف أستثيرها.. فعلق على كلامي قائلاً: أنني صارحتك بما يمليه علي ضميري وما أحس أنه الصواب.. ولكني أعرف أنكم معشر شباب اليوم عندما تضمرون شيئاً في نفوسكم فليست هناك قوة تجعلكم تتراجعون عن ذلك..

على كل حال سأرافقك غداً إلى القرية, وأنهى حديثه وعلامات التبرم وعدم الارتياح بادية في وجهه..

في الصباح شاهدت خالي وهو يمسك بأحد الثيران ويربطه بحبل على جذع شجرة ويستبقيه من المواشي التي تذهب إلى المرعى قبل شروق الشمس.. وبعد أن تناولنا طعام الفطور وشربنا اللبن تمنطق خالي سلاحه وهو السكين وتناول الرمح والعصا ثم أمسك بالحبل المربوط في عنق الثور, وطلب مني أن نتحرك وهو يسوق جراب وضع بداخله أناء السمن وحاجياته الخاصة, وعندما حاولت أن أحمل عنه الجراب رفض ذلك..

بوصولنا إلى القرية طلب مني أن أرافقه لمكان بيع الماشية قبل الذهاب إلى المنزل وهناك بدأت عملية المفاصلة بين خالي والمشترين.. كان خالي يذكر مبلغاً من المال كقيمة للثور, فكان المشتري يعرض نصف المبلغ فيتركه ويتجه لأخر واستمر عملية المفاصلة لساعات طويلة حتى منتصف النهار.. وأخيرا باعه بنفس المبلغ الذي ذكره لأول مشتري في الصباح..

بعد أن أستلم قيمة الثور والارتياح باد على وجهه تحركنا باتجاه المنزل.. وقبل الوصول إلى هناك أو قفني وطلب أن نجلس قليلاً تحت شجرة ظليلة صادفتنا في الطريق.. وعند جلوسنا على الأرض ناولني قيمة الثور, ثم فتح جرابه واخرج منه مبلغاً مماثلاً كان ملفوفاً داخل خرقة بالية وسلمني إياه أيضاً, وقال: هذه مساعدتي لك كمصاريف للسفر , ولا تفكر بموضع والدتك لأنني سأتكفل بأمرها وسألح عليها أن تنتقل معي إلى الريف .. وما أطلبه منك هو آلا تخبره والدتك بأنني بعت ثورا أو أعطيتك أي مال, يمكن أن تقول لها أنك زرتني لوداعي بمناسبة سفرك.. ثم وقف لنواصل سيرنا إلى المنزل..

من جانبي لذت بالصمت وتناولت المبلغ ووضعته في جيبي.. ولم أدري هل أشكره أم ماذا أقول.. وبينما كنت سائرا بجانبه بدأت أقارن بين عمي عمر وبين خالي.. الذي لا يمتلك متجرا أو أموالاً طائلة فانه يقدم لي هذه المساعدة الكبيرة ثم يطلب مني أن أخفي أمرها عن أقرب الأقربين وهي شقيقته… وبدأت أقول في سري : إنني لو أزلت القناع الخارجي عن خالي لوجدته في نفس صورته الماثلة أمامي..

وذلك عكس القناع الخادع الذي يظهر به عمي عمر وأمثاله الذين يخفون تحته صوراً مغايرة تماماً لمظهرهم الخارجي.. عند وصولنا للمنزل استقبلتنا والدتي بارتياح وهي تطبع القبل على خد خالي ثم أخضرت لنا ماء الشرب في إناء كبير.. وبدأت تتحرك بنشاط لإعداد القهوة والطعام.. وإثناء ذلك كانت تروح وتجيء وتستفسر خالي فرداً فرداً.. وبأسمائهم, وعندما انتهينا من تناول الطعام وشرب القهوة جلست والدتي بالقرب من خالي ثم نظرت بعيداً في الفراغ.. وبعد ذلك نظرت إليه وهي تقول: هل علمت بما ينوي عثمان القيام به! ثم بدأت دموعها تتقاطر.. نظر إليها خالي ملياً ثم أجابها.. ما معنى هذه الدموع ؟ نعم أخبرني..ولم يشأ أن يسافر قبل زيارتي واستئذاني.. أن الشباب هذه الأيام يختفون فجأة دون إخطار ذويهم ثم يسمعون بعد شهر إنهم في أحدي البلدان البعيدة, أما عثمان فهو عكسهم , وما الضرر في أن يسافر عثمان بعلمنا وبعد استئذاننا؟ أن عثمان ليس ابنك وحدك بل هو ابني أم نسيتي ذلك؟ .. إنه سيسافر وينجح ويعود بالمال والخير الوفير وهذا من مصلحة الجميع, ولكن ليس هذا ما جئت من أجله, فقد حضرت لأخبرك إنك سوف تسكنين معي بعد سفر عثمان, وهو موافق على ذلك.. وبدأت والدتي تتحدث من خلال دموعها التي لم تتوقف..

وقلت: كنت أعتقد أنك ستمنعه وتقنعه بالعدول عن السفر.. وما دمت قد وافقته على رأيه فلن أستطيع أن أترك القرية.. أنت تعلم أن بناتي متزوجات بهذه القرية ويقمن بها.. وأن هذه الدار التي أسستها مع المرحوم زوجي وأنجبت فيها أبنائي لا يمكنني أن أتركها لغيري.. فرد خالي عليها قائلاً: من الذي طلب منك ترك الدار ؟ إنها ستبقى لك وسنزورها سوياً من حين لآخر ونمكث بها بعض الأيام.. كما سنزور بناتك باستمرار ونتفقد أحوالهن.. ولكن لا يمكن أن أسمح لشقيقتي بأن تعيش تحت رعاية أزواج بناتها, ألا تعرفين أن الناس ستعيرني إذا حدث ذلك.. وهل يعقل أن يتحمل مسئولية شقيقتي آخرون حتى ولو كانوا أزواج بناتها على قيد الحياة؟ أن هذا من الممكن أن يحدث عندما أموت فقط, أما الآن والحمد لله فأنا على قيد الحياة فلا يمكن أن يحدث ذلك.. أم انك قد ألفت حياة هذه القرية ونسيت حياة الريف وتتعللين ببناتك ومنزلك؟ واستمر يجادلها ويلح أن تنتقل معه إلى الريف..

إثناء هذا الجدل والذي كنت أتابعه بكل حواسي صامتاً ودون المشاركة فيه كنت في الوقت ذاته أفكر في الدرس الجديد الذي على يد خالي.. فهو رغم إنه لم يكن موافقا على سفري إلا إنه تبنى منطقي أمام والدتي.. ولم يظهر لها معارضته أو استياءه من سفري الأمر الذي جعلها في النهاية تخفف من لوعتها على فراقي.. وفي نفسي الوقت أوصي لي بضرورة النجاح في غربتي والعودة لأهلي كما أشعر في أن هناك من سيتحمل مسؤوليتي إثناء غيابي..

وصلت إلى السعودية بعد رحلة بدأت بالمتاعب ثم الخوف والمشاق والأهوال, وكانت إجراءات السفر بداية المتاعب. أن إجراءات السفر بداية المتاعب. أن إجراءات السفر تتكون من فصول وأجزاء كل منها أصعب من الأخر. فالحكومة الإثيوبية التي كانت تدفع بالمواطنين للهجرة والاغتراب وترك الأهل والدار عن طريق طردهم من أعمالهم أو ملاحقتهم بواسطة أجهزتها القمعية فإنها في الوقت ذاته لم تكن تسهل لهم مغادرة إرتريا, وكانت تحرك جواسيسها وسط الشعب وكلهم عيون وأذان يحصون حركات وسكنات المواطنين, وهؤلاء الجواسيس إذا نما إلى علمهم بأن مواطنا يود مغادرة إرتريا فأنه يجد نفسه بين أمرين أحلاهما مر. فأما أن يتم اعتقاله وفي هذه الحالة يتعرض للتعذيب الجسدي والنفسي وربما يتعرض للسجن فترة طويلة. وأما أن يقع تحت ابتزاز رجال المباحث ليدفع لهم رشوة مالية كبيرة تفوق مقدرته مقابل شراء صمتهم وليغمضوا عيونهم عن متابعته.

وبما إنني كنت أعرف كل ذلك من الذين سبقوني في الهجرة فقد أحطت كل تحركاتي بالسرية التامة. وفي الوقت الذي كنت أبحث فيه عن وسيلة للسفر كنت أتعمد التردد على المتاجر والمقاهي بحثاً عن العمل, وكنت أشيع بين الأصدقاء بأنني وجدت عملاً بأحد المتاجر وسأبدأ عملي بعد شهر حسب اتفاقي مع صاحب المتجر.أما عن حقيقة تحركي اليومي فكان بحثاً عن وسيلة السفر.

والوسيلة الوحيدة التي كانت متاحة هي البحث عن أصحاب المراكب الشراعية الذين يتنقلون بين الشاطئ الإرتري وشواطئ الجزيرة العربية.. ويقومون بتهريب المسافرين نظير مبلغ من المال وفي الوقت ذاته يقومون بتهريب المواشي والسمن إلى هناك. وبعد بيعها يشترون بثمنها البضائع المطلوبة في إرتريا وبذلك يحققون ربحاً لا بأس به. وهؤلاء يستعملون المرافئ الصغيرة والبعيدة عن رقابة السلطات الإثيوبية.

بعد بحث طويل وسعي مضني استمر لأسبوعين تمكنت من الاتفاق مع أحد أصحاب هذه المراكب كما اتفقت معه على المبلغ المطلوب نظير نقلي للشواطئ السعودية ودفعته له. وفي اليوم المحدد لسفري كان وداعي لوالدتي وأخواتي مؤشرا وهو شبيه بيوم وفاة والدي. وكنت متهيباً وخائفاً من هذه المغامرة والتي لم تكن أمامي أي فرصة للتراجع عنها. ففي لحظات الوداع تمنيت لو أتيحت لي فرصة عمل مناسب يقربني لأتخلى نهائياً عن فكرة السفر. كما إني أعدت التفكير بشكل جاد في العرض الذي قدمه لي خالي. ولكني كنت قد ذهبت بعيدا في تنفيذ فكرة السفر ولذا أصبح التراجع صعباً بالنسبة لي. وانتزعت نفسي انتزاعاً من بين أحضان والدتي وأخواتي, ودون النظر إليهن حملت حقيبتي الصغيرة التي لا تحتوي إلا على القليل من الملابس القديمة. ثم غادرت المنزل وأنا واجم والدموع تترقرق في عيني.

كنت أخر الركاب الذين انتقلوا من اليابسة إلى قلب المركب الشراعي. ففي الوقت الذي كان فيه, ركاب يتدافعون ويتعجلون الصعود للمركب, كنت أفسح الطريق لغيري وأتراجع إلى الخلف.. فالي تلك اللحظات كنت مترددا… أتلفت في غالب الأحيان إلى الوراء باتجاه قريتي.. وكما نظرت إلى البحر الممتد على مد البصر ونظرت للمركب الشراعي الصغير الواقف أمامي كنت أحس بخوف لا حد له. ومن الصعب أن أحدد نوع الأحاسيس التي كانت تنتابني وتتجاذبني.. فقد كانت نوعاً من الحنين الجارف إلى أسرتي وقريتي, وخوف من المستقبل المجهول الذي ينتظرني بالإضافة إلى خوفي من البحر, وفي تلك اللحظات تذكرت الأقاصيص التي كان يرويها لي والدي عن أخطار البحر التي تبتلع البواخر رغم حجمها الكبير.. والبحارة الذين تفترسهم اسماك البحر, وكنت أتساءل : ماذا يخبئ لي القدر؟ هل سيكون مصيري أن أستقر وللأبد في أعماق هذا البحر؟ وإذا قدر لي الوصول بالسلامة إلى الشاطئ الأخر فهل سأعود ثانية إلى قريتي أم إنها الرحلة التي لا عودة منها؟ وبينما أنا غارق في هذه الهواجس إذا بي أفاجأ بأحد البحارة وقد لاحظ ترددي يمد لي يده ويجذبني إلى داخل المركب.

أقلع بنا المركب بعد أن نشر أشرعته. ولم تمض سوى دقائق معدودة من الإقلاع حتى أصبت بدوار البحر والغثيان, وبدأت أتقيأ حيث كانت تلك تجربتي الأولى في ركوب البحر. وكلما تمايل المركب يمينا أو يسارا وكلما ارتفع بفعل الأمواج وهبط إلى تحت, بدأت أشعر وكان أمعائي ترفع من مكانها لتخرج من فمي, فأزداد تقيئي بحيث لم يبق بمعدتي شيء تفرغه خارجاً. وبما إنني كنت أصغر الركاب سنا فقد وجدتهم يعيرونني اهتماما فائقاً. اقترب مني أحد الركاب وهو رجل في عمر والدي تقريباً وقدم لي حبة من الليمون طلب مني أن أمضغها وأبتلعها بكاملها, وعندما هدأت وتوقفت عن التقيؤ أحضر لي كوبا من الماء وطلب مني أن أشرب منه قليلاً وأغسل وجهي, جلس بعد ذلك بجانبي وسألني إذا كنت أجيد السباحة, وعندما أجبته بالنفي سألني عن اسمي, وعندما ذكرته له صمت للحظة وهو يضع يده على جبهته ثم سألني : ” أليس والدك أحد العمال الذين قتلتهم إثيوبيا بميناء مصوع ؟ ” . وعندما أكدت له ذلك أشاح بوجهه وأصبح ينظر إلى الأفق دون أن ينطق بكلمة. وأخراً التفت نحوي وعلامات التأثر بادية على وجهه ثم قال : ” اسمي يعقوب , وأسكن احدي القرى البعيدة عن قريتكم, ولم تكن لي معرفة أو علاقة بوالدك. إلا إننا سمعنا بحادث الميناء وعلمنا بأسماء كل الشهداء الذين راحوا ضحية لجريمة الجيش الإثيوبي. وكان لهذا الحادث وقعه السيئ في نفوس الجميع خاصة وان بعض ضحايا ذلك الحادث لهم أصدقاء وأقارب في قريتنا”. ثم سألني عن الأسباب التي دفعتني لركوب هذه المغامرة في هذا السن المبكر من عمري, فأوضحت له أنني الابن الوحيد لوالدي الذي ترك لي بعد موته مسئولية الأسرة. ولم أجد في قريتي العمل المناسب الذي يمكنني من توفير القوت الضروري لأسرتي وتأمين مستقبلي.

وعندما أنهيت حديثي ونظرت إلى وجه الرجل رأيت دمعة تترقرق في عينيه. فأطرق إلى الأرض للحظة محاولا إخفاء انفعاله. وبعد برهة من الوقت ربت على كتفي قائلاً:”أن لي بنات وأبناء في عمرك. وبعد أن ضاقت بي سبل العيش في قريتي تراني قد تركتهم ورائي. وها انذا أهاجر بعيداً عنهم لكيلا يتعرضوا لتجربتك. ولو كان والدك على قيد الحياة لما أجبرتك الظروف لتترك أهلك وأنت في هذه السن المبكرة, عموماً, اعتبرني مثل والدك وسأهتم بأمرك إلى أن نصل بالسلامة”. وقدم لي النصائح بالا أتحرك كثيراً بداخل المركب وأن أبتعد عن الوقوف على حافتها. ثم تركني وبدأ يتحرك وسط الركاب.

كنت الأصغر في أسرة فقيرة تتكون من والدي ووالدتي وأخواتي الخمسة وكلهن من البنات.. وبما أنني كنت رجل المستقبل الوحيد وسط أسرة حرمت من الذكور فقد تمت تهيئتي نفسياً لتحمل المسئوليات الأسرية منذ الصغر.. في تلك الفترة كنت أسمع الكثير من أمنيات والدي ووالدتي عندما كان يخاطباني دوماً بأنني عندما أبلغ سن الرشد سأحيل حياتهما إلى رخاء.. كما أن أخواتي كن يتناقشن دائماً أمامي وكل منهن تقول : عندما يكبر شقيقي عثمان سوف يحضر لي ثوباً جميلاً.. فترد الأخرى بأنه سيشتري لي قطعة من الحلي.. وهكذا كل واحدة تفصح عن رغباتها وأمنياتها بشكل دائم على مسمعي..

من جانبي كنت أحس بنشوة وسعادة لهذا الاهتمام الذي أجده من الجميع.. وكان الجميع يضجون ضاحكين عندما أشاركهم في أمنياتهم وأحاديثهم وأقول: عندما أصبح كبيراً سأشتري كيسا من السكر لأنني كنت أحب السكر كثيراً.. كما أو عدهم بأنني سأشتري أيضاً الكثير من الحم والأرز وحذاء وثوباً جديداً لنفسي.. إذ كنت محروماً من هذه الأشياء وكان يصيبني نوع من الهم والحسد عندما أشاهد بعض أقراني من الأطفال وهم يرتدون الثياب الجديدة والأحذية.. فأنا لم أكن أمتلك سوى حذاء واحد لمناسبات الأعياد والأفراح حيث كانت والدتي تقوم بتنظيفه بعد أن تلفه بشكل محكم في خرقة بالية.. وكنت أستغرب عندما أشاهد الأطفال الآخرين وهم يرتدون الأحذية دون مناسبة عيد أو فرح..

كان والدي عاملاً بسيطاً بميناء مصوع.. كان يعمل حمالاً مثل غيره من آلاف العمال الذين يقومون بتفريغ البواخر وشحنها, ولم يكن يحكي لي عن طبيعة عمله.. ولكنه كان يحكي كثيراً عن البواخر وأسمائها وأحجامها وبحارتها والبضائع التي تحملها, وقد عرفت الكثير عن هذه البواخر دون مشاهدتها حيث كانت قريتنا بعيدة عن الميناء.. أيضاً حفظت أسماء الكثير من الموانئ الأسيوية والعربية والأوروبية التي كان يذكرها والدي دائماًًً كما كان يذكر الكثير من الأسماء الهندية والعربية والأوروبية ويقول أنهم أصدقاؤه من البحارة الذين تعرف عليهم ..

كان والدي يذهب إلى عمله عند الفجر.. وفي كثير من الأحايين كان يغادر المنزل ونحن نيام.. فقد كانت والدتي تصحو قبله وتعد له القهوة والفطور وتغلق الباب من ورائه عندما يذهب لعمله.. ولا يعود للمنزل إلا بعد غروب الشمس وهو يحمل في يده ربطة بداخلها القليل من السكر أو اللحم والبصل أو الأرز.. وكل من بالمنزل كان ينتظر عودته وكنت أعرف مواعيد قدومه ولذلك كنت أنتظره خارج المنزل أمام الباب.. وعند وصوله أمسك بيده وأقبلها وادخل من خلفه.. وبعد أن يسلم الربطة لوالدتي كان يدخل يده في جيبه ويخرج قطعة من الحلوى دسها في فمي.. وكنت سعيداً بذلك حيث أنه لم يشاركني أحد من العائلة في تلك الخطوة التي كنت أجدها من والدي.. أما والدتي وبعد أن تستلم الربطة فأنها تنهمك في إعداد الطعام..

بعد صلاة العشاء كنت أتناول مع والدي, أما والدتي وأخواتي فكن يتناولن طعامهن سوياً.. فتقاليدنا لا تسمح أن تشترك النساء والرجال في مائدة واحدة للطعام.. وكانت والدتي وأخواتي تدعوانني دائماً لمشاركتهن طعامهن ولكني في غالب الأحيان كنت, لأنني ألاحظ أن ما نتناوله أنا وأبي من الطعام يوازي الكمية التي تتناولها والدتي وأخواتي الخمس.. وهذه أيضاً أحدى تقاليدنا.. فالرجال يأكلون أولاً..وتضع ربة البيت الطعام الأكثر والأحسن للرجال ثم تتناول هي وبناتها ما يتبقى منهم.. وربما لهذا السبب فان والدي لم يكن يأتي على كل الطعام الموضوع أمامه.. بل كان يتناول قليلاً منه ثم يترك المائدة المتواضعة..

بعد العشاء كان الجميع يستسلمون للنوم.. ولكن هناك يومان مشهودان من كل أسبوع كنت أنتظرهما بفارغ الصبر..هما ليلتا الجمعة والاثنين.. ففي صبيحة الخميس والأحد كانت والدتي تقوم بتنظيف ملابس والدي بشكل منتظم.. تلك الملابس البيضاء التي تتكون من سروال وجلباب وسترة وعمامة.. وبعد أن يتناول والدي طعام العشاء لم يكن يأوي لفراشه كالمعتاد في هاتين الليلتين.. بل كان يأخذني معه ونذهب سوياً إلى حلقات الذكر الدينية التي يقيمها رجال القرية مرتين في الأسبوع.. وفي تلك الحلقات كانت تقرأ مناقب الأنبياء وأولياء الصالحين مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني والسادة المراغنة.. وعندما تدق الطبول يبدأ الرجال يتمايلون يميناً ويساراً وهم وقوف..ثم تدق الطبول بشكل أعنف لتخرج أنغاماً رتيبة متشابهة ولكنها سريعة.. وهنا تزداد حركات الرجال عنفاً لتتناسق مع سرعة الطبول.. فكان البعض من الرجال يتناولون بأيديهم جمرات من النيران الملتهبة ويدخلونها في أفواههم.. وبعد أن تنطفئ يقذفونها خارجاً ليتناولوا غيرها وهكذا دواليك.. أما الرقصات الدينية على أنغام الطبول فقد كان والدي يشارك فيها مع الآخرين.. حيث كان يدخل وسط الحلقة مع مجموعة من الرجال وهم يدورون تارة حول أنفسهم وتارة أخرى حول الدائرة وهم يخرجون من حناجرهم أصواتاً تختلط بدقات الطبول حتى يتصبب منهم العرق بغزارة.. أما في وسط الدائرة فكان الدخان يتصاعد من مباخر اللبان والصندل ومختلط العطور وفي هذا الجو الروحاني عندما تتوقف الرجال عن الدق.. ويتوقف الرجال عن الرقص والتمايل.. كان بعض الأشخاص يظلون يرقصون ويدورون حول الحلقة وحول أنفسهم وهم يخرجون أصواتاً غريبة غير مبالين بمن حولهم..

والذين يفعلون ذلك أغلبهم من الذين يتناولون جمرات النيران الموقدة.. ويفسرون ذلك بأنهم وفي تلك اللحظات يكونون قد انفصلوا تماماً عن حلقة الذكر بمن حوت من أناس وطبول واختلطوا بعالم آخرـــ عالم الروحانيات ـــ حيث يشاهدون الأولياء والأنبياء ويتحدثون إليهم بلغة غير مفهومة للحاضرين.. عن ذلك..

وكان والدي يحكي لي الكثير قبل منتصف الليل بقليل ينفض الجميع ونقفل راجعين إلى منزلنا.. وتكون والدتي متيقظة في انتظار عودتنا.. وكنت ألاحظ أن والدتي في ليلتي الجمعة والاثنين تتعطر بعطور فواحة وذلك دون باقي أيام الأسبوع.. كما أنها وبعد عودتي مع والدي من حلقات الذكر لا تذهب لا هي ولا والدي إلى فراشهما كالمعتاد بل يظلان صاحيين حتى أخلد للنوم تماماً..

وفي تلك المرحلة من عمري لم أكن أدرك السر في ذلك.. ولكن عندما كبرت علمت بأن الأزواج ينامون سوياً ليلتي الجمعة والاثنين اعتقادا منهم بأن الطفل الذي يكتب له أن يخلق في هاتين الليلتين يكون أبنا صالحاً وباراً بوالديه ومتمسكاُ بدينه وناجحاً في حياته..أيضاً كان لوالدي برنامج ليوم آخر في الأسبوع.. ففي يوم الجمعة ومنذ الصباح الباكر كان يأخذ صنارته ويتناول مقطفاً ثم يذهب إلى البحر ليصطاد السمك.. وكان يعود قبل الظهيرة وهو يحمل ما جاء به البحر من أسماك مختلفة الأحجام.. فمرة يعود بكمية وافرة ومرات يكون نصيبه قليلاً.. وفي مثل هذا اليوم من الأسبوع تقوم والدتي بأعداد أنواع متعددة من الأطعمة من هذا السمك وتكون مائدتنا عامرة.. فهناك الصيادية بالأرز والسمك المشوي والمقلي وشوربة السمك اللذيذة.. وربما يكون هذا هو اليوم الوحيد من أيام الأسبوع الذي كنا نذوق فيه الشبع حتى امتلاء المعدة.. وكان ذلك واضحاً من حالة الانشراح والحركة والنشاط غير العادي الذي كان يصيب كل أفراد العائلة.


********

يمثل سكان قريتنا عالماً قائماً بذاته.. فهم خليط من كل القبائل الإرترية.. ومن نزوحات ما وراء البحار من الهنود والأتراك والمصريين واليمنيين والسودانيين والسعوديين وسكان الخليج الذين جاءوا إلى مصوع واستوطنوا بها وتزاوجوا مع السكان المحليين وأنجبوا أجيالاً فقدت رابطتها بأصولها الأولى.. وهذا الخليط المتعدد الجذور أفرز أخلاقيات خاصة بهذه القرية عكس باقي القرى الإرترية.. فقد كانت قرتنا خليطاً من الريف والمدينة.. فلا هي بالقرية ولا هي بالمدينة والطابع الذي يجمع الكل كان روح التمرد والفردية..

والتمسك بعزة النفس والكبرياء. وعدم الظهور بمظهر الضعف أو الفقر أمام الآخرين.. فالكل يعتبر نفسه سفيراً للجهة التي أنحدر منها سواء كانت من القبائل الإرترية أو من خارج الحدود. والمطلوب منه أن يمثلها خير تمثيل.. ورغم أن سكان القرية هم من الأثرياء والفقراء ومتوسطي الدخل إلا أن ذلك لم يكن يسمح للثري بالتطاول أو التعالي على الآخرين في أي شكل من الأشكال وإلا نال الأذى والمقاطعة والتشهير..

كان مسلك والدي مثالاً لمسلك الآخرين حيث أنه ينحدر من أحدى القبائل الإرترية البعيدة عن قريتنا.. فرغم حالة الفقر المدقع التي كنا نعيشها بالمنزل إلا أنه كان يحافظ على مظهره اللائق أكثر من اهتمامه بالقوت الضروري.. فلم يكن يتخلف من تأدية الوجبات الاجتماعية. مثل حضور مناسبات الأفراح والأحزان ويساهم مالياً بنصيب مثل الآخرين.. كما أن والدتي كانت تهيئ له ملابسه المعدة لهذه المناسبات وتقوم بغسلها وكيها.. وهي السروال والقميص الأبيض ثم العمامة والسترة البيضاء وحذائه الذي يقوم بتلميعه ويتناول عصاه ويكون في مقدمة الملبين لنداء الواجب.. وعندما تأتي أواني الطعام للحاضرين فأنه لا يتناول منها إلا القليل حتى لا يظن أنه جائع جاء من أجل الطعام.. بل على الجميع أن يدركوا أنه جاء للقيام بواجبه.. وبعدها يدفع مبلغاً مالياً كمساهمة منه ثم ينصرف وهو شامخ الرأس.. ومن يراه بهذا المظهر لا يتصور أننا نعيش حالة من شظف العيش بالمنزل. فالمهم لديه ألا يظهر بأنه أقل من الآخرين في ملبسه وفي القيام بواجباته في كل المناسبات..

ورغم هذا المظهر السلبي لأخلاقيات قريتي إلا أنه كان يخفي جانباً إيجابياً ظهر عند اندلاع الثورة في إرتريا.. فسكان القرية الذين كانوا يبذلون كل ما يملكون من جهد ومال ووقت في قضايا صغيرة, وجدوا جميعهم قضية كبرى وهي قضية الوطن التي تهم الجميع.. ولذا فان الشباب من أبناء قريتي تركوا مصالحهم ومدارسهم وكانوا في مقدمة من اندفعوا لحمل السلاح.. كما أن الرجال من التجار والموظفين والعمال كانوا يجمعون الأموال ويبعثون بها إلى الثوار في معاقلهم بالجبال.. وهذه الخطوات تمت بعقوبة.. فالمهم لديهم أن هناك قضية.. وهناك عدوان خارجي لا بد من مقاومته بالأموال والنفس والبنين.. وهم الذين لديهم الاستعداد الفطري للتحرك في قضية صغيرة فكيف يكون الأمر وقد برزت لهم قضية كبرى تهم الجميع…

*****

توضيح

نقلت القصة كما وردة في مجلة الثورة التي كانت تصدرها من بيروت جبهة التحرير الإرترية ــــ قوات التحرير الشعبية في العدد172ـــ السنة 20 ــــ تشرين أول (أكتوبر) ـــ 1981

سعدت بقرأة هذا الحلقة في قصة المغترب, وعند تأملي ما حفلت به في سردها الشيق لحياة الناس في الأيام من أيام مصوع الجميلة. أشعلت في نفسي ذكريات ذلك الماضي الجميل في بلادنا. كان الكاتب على قدر عالي من الإحساس بعادات أهل مصوع الذي ينظر إليها باحترام شديد في تعايشهم اليومي وهذا التعايش بتواضعه وغروره هو الذي أوجد أجواء إيجابية خرجت منه شرائح فعالة في ثورة الإرترية, ثم يبدي بالغة أنيقة قدراً من التصوير لقرية حرقيقو وابنها عثمان الشهير, ومن هنا تنبهتا ربما الكاتب قد ضمن كل رؤى عثمان وهواجسه الداخلية الأولى في هذه القصة التي بدأت من واقع اقتصادي صعب جعلته يعبر الشاطئ المعاكس لنا في البحر الأحمر. وفي حركتنا التاريخية الحلم الإرتري كان دائماً يسكن في الهجرة وهو الحدث الأساسي التي تولدت منه الثورة الإرترية, لهذا أقول إنها رواية ترصد الهم الجماعي بصورة رائعة الجمال. وللأسف عثمان لم يدفن فيها وسيحكم التاريخ له وعليه ولكنه في كل الظروف لم يكن عدواً لإرتريا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى