فردريك نيتشه - هكذا قال زرادشت.. ترجمة الأستاذ فليكس فارس

الطفل والزواج

لي سؤال أخصك به لأسبر أعماق روحك يا أخي:

- أنت في مقتبل العمر وتتمنى أن يكون لك زوجة وولد، ولكن قل لي الست الرجل الذي يحق له هذا التمني؟ أأنت الظافر المنتصر على نفسه، الحاكم على حواسه السائد على فضائله؟ أم أن تمنيك هذا ليس إلا شهوة حيوان أو خشية منفرد أو اضطراب من قام النزاع بينه وبين نفسه؟

إن ما أريده منك هو أن تتوق بانتصارك وحريتك إلى التجدد بالولد إذ عليك أن تقيم الأنصاب الحية لانتصارك وحريتك، فترفع هذه الأنصاب إلى ما فوق مستواك. وهل بوسعك أن تفعل إذا لم تكن منين البنية من رأسك إلى أخمص قدميك؟

ليس عليك أن ترسل سلالتك إلى الأمام فحسب، بل عليك بخاصة أن ترفعها إلى ما فوق فليكن عملك في حقل الزواج منصبا إلى هذه الغاية.

عليك أن توجد جسداً جوهره أنقى من جوهر جسدك ليكون حركة أولى وعجلة تدور لنفسها على محورها، فواجبك إذاً إنما هو إبداع من يبدع.

ما الزواج في عرفي إلا اتحاد إرادتين لإيجاد فرد يفوق من كانا علة وجوده. فالزواج حرمة متبادلة ترسو على احترام هذه الإرادة.

ليكن هذا معنى زواجك وحقيقته أما ما يدعوه الدخلاء الأغبياء زواجاً فأمر أحار في تصريفه؛ فما هو إلا مسكنة روحية يتقاسمها اثنان، ودنس يتمرغ به اثنان ولذة بائسة تتحكم في اثنين، ولكن الدخلاء يرون في مثل هذا الزواج رباطاً عقدته السماء

وما أنا بالمرتضي بمثل هذه السماء، سماء الدخلاء أطبقت شباكها عليهم، تباً لهاً وسحقا لمثل هذا، الإله الذي يتقدم متراجعا ليبارك اثنين لم يجمع هو بينهما.

لا يضحكنكم هذا الزواج، فكم من طفل من حقه أن يبكي على أبوي رأيت رجلا وقورا فحسبته بالغا من النضوج ما يدرك به معنى الأرض، ولكنني رأيت امرأته بعد ذلك فلاحت لي الأرض كأنها مأوى المجانين. أود لو تميد الأرض بي عند ما أرى رجلا فاضلا يتخذ له زوجة حمقاء. من الناس من يتجرد كالأبطال سعياً وراء الحقائق فلا يلبث حتى يصطاد رباطاً مزيفاً يدعوه زواجاً ومنهم من اشتهر بحذره في علاقاته وبصرامته في اختياره، فإذا هو بين ليلة وضحاها قد افسد حياته ووقف يدعو هذا الإفساد زواجا. ومنهم أيضاً من كان يفتش عن خادمة لها فضائل الملائكة، فإذا هو ينقلب فجأة خادما لامرأة وقد حق عليه أن يتصف هو بالفضائل الملائكية.

فتشت في كل مكان فما رأيت إلا مشترين يقلبون السلع وعيونهم تتدفق مكراً، ولكن امكر هؤلاء الناس لا يتوصل في آخر الأمر إلا إلى ابتياع هرة يدسها في جلبابه.

إن ما تدعونه عشقاً إنما هو جنون يتتالى نوبة بعد نوبة حتى يجئ زواجكم خاتماً هذه الحماقات بالحماقة المستقرة الكبرى. ويا ليت حب الرجل للمرأة وحب المرأة للرجل كانا إشفاقاً يتبادله إلهان يتألمان، ولكن هذا الحب لا يتجلى في الغالب إلا تفاهما بين إحساس حيوانين وما خير الحب لو تعلمون إلا تحول واضطرام في ألم وخشوع إن هو إلا المشعل ينير أمامكم مسالك الاعتلاء وسيأتي يوم يتجه فيه حبكم إلى مقر ابعد وارفع من مستقر ذاتكم لقد بدأتم بتعلم الحب لذلك ترتشفون الآن المرارة الطافية كالحب على كأسه.

إن في كاس كل حب إطلاقا وحتى في كاس أرقى حب مرارة لابد لكم من تجرعها؛ وهذه المرارة هي التي تنبه فيكم الشوق إلى الإنسان الكامل وتلهب فيكم الظمأ إليه أيها المبدعون إذا كان هذا الظمأ هو الذي يدفع بك إلى طلب الزواج يا أخي وإذا كنت تشعر بشوقك يندفع كالسهم نحو الإنسان الكامل فإنني اقدس إرادتك واقدس زواجك

هكذا تكلم زارا. . .

تخير الموت

كثير من يتأخرون في موتهم، وكثير من يبكرون. فإذا قال قائل للناس بالموت في الزمن المناسب رفعوا عقيرتهم مستغربين. وزارا يعلم الناس أن يموتوا في الزمن المناسب. ولكن إن لمن يعرف الحياة أن يتخير الموت في أوانه؟

أفما كان خيرا للدخلاء على الحياة لو انهم لم يولدوا ولكن هؤلاء الدخلاء يريدون أن يولي الناس أهمية كبرى لموتهم، وكم من نواة تباهي بأنها كسرت وهي جوفاء. . . انهم يعلقون أهمية على الموت لأنهم ما عرفوا بهجة الموت فالناس لم يعرفوا حتى اليوم كيف يقدسون أبهج الأعياد. ولسوف أنبئكم بالموت الذي يقدس، الموت الذي يدفع الأحياء ويجتذبهم بحوافزه وآماله إن من اكمل عمله يأتي ظافرا وحوله من يحفزهم الأمل وتنطوي فيهم الأماني. تعلموا أن تموتوا هكذا، ولكن اعلموا أن لا ظفر لمن يموت إذا هو لم يبارك ما اقسم الأحياء بإتمامه.

تلك هي الميتة الفضلى، تليها في المراتب ميتة من يسقط في المعركة وهو ينشر عليها عظمة روحه غير إن ما يحتقره المجاهدون والظافرون على السواء إنما هو ميتتكم الشوهاء التي تزحف لصا وتتقدم أمرا مطاعاً

ما اجمل ميتتي إذا أنا تخيرتها فجاءتني لأنني اطلبها

ولكن متى يجدر بالإنسان أن يطلب الموت؟

إن من يتجه إلى مقصد في الحياة وله وريث وجب عليه أن يتمنى الموت في الزمن المناسب لغايته ولوريثه، لأنه يأنف حرمة لهما من أن يلقي بالأكاليل الذابلة على هيكل الحياة

إنني لا أريد أن احبك الخيوط وانسحب إلى الوراء كمن يفتلون الحبال.

من الناس من لا يتجاوز بأعمارهم الحد اللائق بالحقائق والظفر، وخليق بالفم المجرد عن أسنانه ألا يتناول بيانه جميع الحقائق. على الطامحين إلى الظفر أن يودعوا الأمجاد في الزمن المناسب ليتمرنوا على فن الرحيل عن الدنيا في الزمن المناسب أيضا، ومن واجب المرء أن يتوقف عن عرض نفسه للآكلين عندما يكفون عن تذوقها ولا يعرف هذه الحقيقة إلا من يود الاحتفاظ بمحبة من حوله. ولكن من الأثمار كالتفاح من تقضى طبيعته الحامضة عليه أن ينتظر النضوج إلى آخر أيام الخريف، فإذا هو ماثل للنظر باصفرار الشيخوخة وتجاعيد أساريرها.

ومن الناس من يدب الهرم إلى قلوبهم أولاً، ومنهم من يدب الهرم إلى عقولهم، ومنهم من يشيخون في ربيع الحياة غير أن من يبلغ الشباب متأخراً يحتفظ بشبابه أمداً طويلا.

ومن الناس من ضلوا السبيل في حياتهم، فأضاعوا عمرهم؛ فعلى هؤلاء أن يعملوا على بلوغ التوفيق في موتهم على الأقل. وهنالك أثمار لا تنضج لأنها سهراء في الصيف ولكنها تبقى معلقة بأغصانها لأن جبنها يصدها عن السقوط هكذا نرى في العالم أناساً يلتصقون التصاقا باغصانهم فهل من عاصفة تهب على الشجرة لتسقط ما عليها من أثمار تهرأت ورعى الدود قلبها؟ ليتقدم دعاة الموت العاجل وليهبوا كالعاصفة على دوحة الحياة غير إنني لا أرى غير دعاة للموت البطيء يعظون بالصبر واحتمال كل مصائب الأرض.

إنكم تدعون إلى مكابرة الأرض ومجالدتها، أيها المجدفون والأرض صابرة عليكم صبرها الجميل.

والحق أن ذلك العبراني الذي يمجده المبشرون بالموت البطيء قد مات قبل أوانه، ولم يزل جم غفير يعتقد بان ميتته المبكرة كانت مقدورة عليه

وما كان هذا المسيح العبراني قد عرف إلا دموع قومه وأحزانهم وكيد أهل الصلاح والعدل، لذلك راودته فجأة شهوة الفناء.

ولو انه بقى في الصحراء بعيدا عن أهل الصلاح والعدل لكان تعلم حب الحياة وحب الأرض، ولكان تعلم الضحك أيضاً.

صدقوني، أيها الاخوة، إن المسيح قد مات قبل أوانه، ولو انه بلغ العمر الذي بلغت، لكان جحد تعاليمه، وقد كان له من النبل ما يكفيه لاقتحام العدول عنها. ولكنه لم يبلغ النضوج، ولم تبلغه المحبة في الشباب، فكره الناس وكره الأرض وهكذا بقيت روحه مثقلة ولم ينشر جناحه المهيض إن في الرجل من الطفولة ما ليس في الشباب، فالرجل الناضج اقل حزنا واقدر على فهم الحياة والموت، لأنه يشعر بحريته للموت وبحريته في الموت، وإذا امتنع عليه أن بثبت شيئاً أنكره.

حاذروا أن يكون موتكم تجديفاً على الأرض والإنسان أيها الصحاب تلك هي النعمة التي استجديها من وداعة روحكم

ليرسل فكركم وفضيلتكم آخر أشعتهما في احتضاركم كما ترسل الشمس الغاربة آخر أنوارها على الأرض، وإلا فأن ميتتكم ستكون فاشلة. إنني هكذا أريد أن أموت ليزداد حبكم للأرض من اجلي، أيها الأصحاب. أريد أن أعود إلى الأرض التي خلقت منها لأجد الراحة في أحضانها.

لقد كان زارا يرمي إلى هدف وقد أطلق سهمه الآن فارموا إلى هذا الهدف بعدي، لأنني من أجلكم أطلقت سهمي الذهبي. فما اشتهي شيئاً اشتهائي أن أراكم تطلقون سهامكم الذهبية أيضاً، ولسوف لبقى على الأرض قليلا لأمتع عيني بهذا المشهد، فاغتفروا لي هذا التخلف إلى حين

هكذا تكلم زارا. . .



مجلة الرسالة - العدد 197
←بتاريخ: 12 - 04 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى