حسين عثمان حمد - الفرح المهاجر

أحس بقشعريرة تسري في جسده عندما فتح باب منزله وهو يهم بالخروج, فكر بالرجوع للحظة ، لكنه استجمع شجاعته وشد ياقة معطفه الطويل لتغطي عنقه وجزء من رأسه واذنيه ، ثم أدخل يده اليسرى في جيبه بحثا عن الدفء. ياللشتاء إنه أحد صباحات ديسمبر الباردة. كانت الساعة تقترب من الثامنة والنصف صباحا ، هكذا سمع دقاتها عبر الراديو في غرفته لينهض مذعورا, كأنه نسي موعداً مهماً.

بدا أنيقا كعادته دوما . رائحة عطره تسبق خطواته التي بالكاد حاول ان يجعلها متماسكة, إلا أن ارتعاشة جسده الهزيل كانت واضحة للعيان . كم يكره الشتاء ولياليه الطويلة, وصباحاته الباردة.

تذكر فراشه الدافئ وكتابه الذي كان يقرأه وعلبة السجائر, يا ألهي لقد نسيها في منزله تحت الوسادة.! واصل سيره كان الطريق خاليا من المارة في هذه الأثناء ألا قلة منهم في سوق القرية الصغير الذي لا يبعد عن منزله كثيرا. الحركة في السوق تبدا مبكرا ، كعادة اهل القرى ، فمنهم من يعمل في المدن القريبة وهناك من يعمل في سوق القرية الصغير وهو سوق بالكاد يغطي احتياجات القرية.

رأي علي البعد عم صالح الجزار يحادث النسوة الواقفات أمام دكانه الصغيرة ، فيما رأى حسن بخيت صاحب الطاحونة واقفا في الشارع بعيدا عن ظلال المباني يتجاذب أطراف الحديث مع ابن عمه وصديق عمره (سعيد حليباي) في شئون تخص العائلة ، علي ما يبدو ، وبين الفينة والأخرى يرفع بصره للسماء مستجديا الشمس ان تتمرد علي السحب الداكنة التي حجبتها.

الطاحونة مغلقة في ذلك الوقت الغائم وكأنها تعمل بالطاقة الشمسية . أما ادريساي ، بائع الخضار، فقد كان يساوم عم جبريل سائق الشاحنة الصغيرة الذي يأتي كل صباح من المدينة الكبيرة محملا بمعظم احتياجات القرية من المؤن وبعض الطلبات الخاصة ، لقاء مبلغ صغير من المال. سالم السقا كان يوزع الماء علي زبائنه بهمة ونشاط . وودحاج صاحب القهوة الصغيرة ظل يردد كلمات مبهمة على إيقاع الموسيقي المنبعثة من المسجل أمامه ، مدعيا أنه يعرف كل الأغنيات بهمهماته التي يساير بها اللحن مستدعيا بذلك سخرية ” تيتو ” صبي القهوة المحبوب . فينتهره ودحاج بصوته الغليظ :

” ياولد شوف شغلك, أمشي جيب البن والسكر من جبريل قبل مايرجع ” … ثم ويلاحقه بنظرة فيها طيف من حب أبوي .

” تيتو ” صبي يتيم الأب والأم ولا أحد له في القرية سوى ود حاج الذي تربطه به صلة قرابة من جهة أمه . كان تيتو محبوبا من جميع رواد القهوة ، وكان يحب عمله في القهوة ؛ فهو العمل الوحيد الذي كان يجيده ، كي يخذل ود حاج الذي طالما آواه وأحتضنه منذ صغره ورباه كما يربي أبنائه لم يبخل عليه بشيء بل كان يفضله أحيانا علي ابنه حامد.

رفع يده محييا رواد القهوة ، فردوا تحيته بأحسن منها .

مازحه ودحاج :ما تتأخر يا أستاذ, الليلة البن الجديد جاي مخصوص عشانك من المدينة.

تبسم وألتفت لعم صالح الجزار ليلقي عليه التحية, فناداه صالح وهمس في أذنه :

صباح النور, علي وين العزم إن شاء الله في الجو البارد ده يا استاذ؟

ــ مشوار قريب وراجع…أجاب متلعثما ، فقد كان يحترمه كثيرا, فكر أن يشعل سيجارة ليداري بها توتره . بحث في جيب معطفه عبثا .

اقترب منه صالح وهو يمد يده بسيجارة التقطها بأصابع مرتعشة بفعل البرد .

كان يتوقع ما سيقوله له صالح :

ــ يا ابني انت عارف معزتك عندي…بس البتعملو في روحك ده غلط , والناس دي كلها ما عارفة تتكلم معاك كيف.

مد له صالح بعود ثقاب مشتعل وواصل حديثه :

ــ أظن أي حاجة عندها زمن وتنتهي. حزنك ده كفاية لحدي هنا . عايزنك ترجع زي زمان ، الحزن كلما استمر فترة طويلة بيكبر جواك وصعب تقلعو تاني ,لأن جذوره تتغلغل في قلبك والقلب يتعود .

أشعل السيجارة ونفث دخانها مطائطاً رأسه , ودون أن يرد رمقه بنظرة كان لها عند صالح معني واضح بانه لا فائدة ترجى من الحديث معه.

استغل انشغال صالح مع زبونته حاجة سعاد ، وتواري عن انظار ه ، ففي تلك اللحظة همست حاجة سعاد ” لغاية متين حيفضل علي الحال ده يا صالح؟ طالما عايش في البلد دي ما بيشوف عافية لأنه الذكريات نار وحتفضل تاكل من جسمه “

ثم اردفت متسائلة : ” ما تتكلم معاه يا صالح؟ “

أجابها صالح ” اتكلمت معاه أنا وودحاج وكان معانا حسن بخيت, بس ما في فائدة.” ثم أضاف بحسرة

” قولي ربنا يشفيه يا سعاد, حال الولد ده واجعني شديد “

واصل سيره حتي وصل الي شارع جانبي ضيق , رمى ما تبقي من السيجارة . وقف أمام باب خشبي كبير, عدل من ملابسه, مرر يديه علي شعره لتسوية بعض الخصلات النافرة ,تحسس لحيته الكثة التي ما عاد يحلقها كالسابق ,تنفس بعمق قبل أن يستجمع شجاعته ويطرق الباب بهدوء وثقة .

مرت لحظات خيل له أنها ساعات فيما كان السكون يخيم على المكان من حوله كأنما كل شيء توقف بغتة, إلا هو ، ومن بداخل المنزل. قطع حبل أفكاره وأعاد الكرة بقوة هذه المرة .

ـ ياحمودي أفتح الباب.

يا ألهي ما هذا؟ هل يعقل أنه سمع صوتا؟ إنه صوتها بكل تأكيد , أذا لماذا تأخرت عليه كل هذا الوقت؟ وأين حمودي هذا المشاكس ؟ سمع صوت خطوات متكاسلة متذمرة تقترب من الباب أو هكذا خيل له . أخرج منديله وأخذ يمرره علي وجهه ليمسح به عرقا وهميا من شدة توتره وترقبه. كان علي تلك الحالة لفترة ليست بالقصيرة , قرر أن يطرق الباب للمرة الثالثة , مد يده لكنه أنتبه للمرة الأولي لقفل كان يتوسط ضلفتي الباب الخشبي, كان القفل من النوع الذي يدل علي ألا أحد يقطن هذا المنزل منذ فترة طويلة. لا حياة خلف هذا الباب الذي كان ظاهره ذكريات خلت وباطنه واقع مرير.

أخذ يهز القفل بعصبية واضحة إلي ان خارت قواه فأتكأ علي الباب وأنفاسه تعلو وتهبط . استدار بصعوبة ورجلاه بالكاد تحملانه ، فقد كان يجرهما جرا ، مع خيبة أمله.

كان هذا حاله ، منذ أن فقد خطيبته أمينة في حادث سيارة وهي قادمة مع والدتها من المدينة الكبيرة, بعد وعدها بزيارتهم في المنزل ذلك اليوم المشؤم .

كل خميس يتأنق ويذهب لمنزل خطيبته كما وعدها, ولا يدري أن هناك من كانت مواعيده أدق منه وأسرع منه وأكثر حظا بلقاء أمينة, ولكن كيف له أن يسلم بفكرة رحيلها وعدم لقائها كل خميس ، وأن أسرتها قد هجرت القرية بعد رحيلها ، صوب إحدى المدن الكبيرة.

كان كل ركن من أركان القرية يذكره بأمينة الحنينة…الرزينة, محبوبة القرية : أطفالها ونسائها ورجالها حتي شبابها الذين طالما تسابقوا لكسب ودها بشتي السبل, أزقتها الصغيرة, بيوتها المليئة بالألفة ، حيشانها الكبيرة كقلوبهم حتى رمالها. كلهم كانوا يفرحون حينما تعانقهم خطواتها الرزينة وروحها النقية واحتشامها وأدبها الجم وابتسامتها الوضاءة التي كانت لا تفارقها دوما؛ فكيف لا يحبونها, وكيف لا يحبها ويعشقها حد الثمالة والوله, وكيف لا يزهد في الدنيا بعدها؟

أجيب ليك قهوتك يا أستاذ؟

أخرجه صوت ” تيتو ” من جب ذكرياته العميقة فوجد نفسه في قهوة ود حاج عند طاولته المفضلة وملاذه الأخير…قال بصوت واهن :

جيب القهوة وعلبة سجائر ” يا ” تيتو”

عاد ” تيتو ” بسرعة وهو يحمل صينية عليها كأس ماء ، وكوب قهوة ساخن ، وعلبة السجائر. أشعل سيجارةً بسرعة وأسترخي في مقعده يراقب سحب الدخان تتصاعد حلقات وحلقات لتملأ فضاء الغرفة .ارتشف من كوب القهوة الذي أمامه ، وأخذ يتفاعل مع اللحن الصادر من المسجل أمام قهوة ودحاج … لحن جميل تردد معه كلمات الأغنية :

يارزينة

وصي عينيك الحنينة

ترسم الفرح المهاجر في عيون كل المدينة

يارزينة شيلي أحزانك تعالي

نحضن القمر البلالي والنجيمات والليالي

نحكي للأطفال حكاوي

نهدي للناس الأغاني

في الصباحات والأصايل

في الرياحين والخمايل

يارزينة

يا أمينة…

نطقها بصوت مسموع ، لكنه كان أوهن من أن يُسمع. أدخل يده في جيب معطفه الأيمن ليتحسس آخر ما تبقى له منها: خاتم الخطوبة.

كل خميس كان يعيش نفس اللحظات بكل تفاصيلها الدقيقة ويعود للمقهى مرتشفا فناجين القهوة وأكواب الشاي علي أنغام لحنه المفضل : أمينة الرزينة.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* القصة الحائزة على المركز الثالث في مسابقة جائزة الأديب الإرتري المناضل (محمد سعيد ناود) في دورتها الثالثة 2017.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى